عمان الثقافي

الـتَّــجَــذُّر.. قراءة نقديّـة في رواية « أُمِّي كولجهان» لـ غنيّة الشبيبي

 
العنوان

يذهب الغذّامي إلى أنَّ العُنوانَ أوّلُ لقاءٍ بين القارئ والنّصّ. وكأنَّه نقطة الافتراق حيثُ صار هو آخِرَ أعمال الكاتب وأوّل أعمال القارئ. والعلاقةُ بين النّصّ والعُنوان علاقةٌ جدليّة، إذْ بدون النّصّ يكونُ العُنوانُ وحده عاجزًا عن تكوين مُحيطِه الدِّلاليّ، وبِدُون العُنوان يكونُ النَّصُّ باستمرار عُرضةً للذَّوَبانِ في نُصُوصٍ أخرى. فهو يمثِّل علامة بصرية تواجه المتلقي وتستوقـفه وتمارس فاعليتها في أسره، والتأثير عليه وتوجيه فهمه؛ لأنه الجملة الأولى التي تواجه القراءة، والسّواد الأول الذي يقلِّص مساحة البياض فوق النّصّ؛ وبذا فإنه لا يمكن وَضْعُ «العنوان» على حافّة «العالم» النّصّي، بل هو مركزيّة العالم الذي تدور حوله كواكبُ النّصّ كلها؛ بمعنى أنَّ التوتّرات الشّعوريّة والهواجس المضطربة، والمنطلقات النفسيّة التي تتوزّع مناطقها في النّصوص يمكن للعنوان أنْ يُقلِّصَ فائضَها في كلمة أو جملة بوصفِه طاقةً مفتوحةً على عوالِم النّصّ.

يبدو مِن عنوان الرواية لِمَنْ لا يُدرِك نسق المجتمع العُماني الثقافي– لا سيما الجيل المعاصِر – أنَّ مفردة الأُمّ هنا مع ضميرها تَشِي بالأُمّ في تجلِّيها البيولوجي، لكنّ الحقيقةَ أنَّ البدلَ «كولجهان» أزاحَ هذه الدلالة؛ إذ إنَّ حُضورَ الاسمِ دلَّ على نسقٍ ثقافيّ مُتواطِئٍ عليه المجتمع؛ بمناداة المرأةِ كبيرة السنّ، لا سيما إنْ كانت الجَدَّة، وهذا يدلّ على واحدةٍ من أدبيات المجتمع، وقِيَمِه. الأمر الثاني الاسمُ نفسه «كولجهان» وهو اسم «بلوشي» ويعني «وردة الدّنيا»، والبلوشُ مُكوِّنٌ كبير مِن مكوّنات النّسيج العُماني المتشابك، وهو ما يدلّ هنا على التعايش الجميل، والتمازج الثقافيّ بين إنسان الوطن الواحد، ومدى التعالق المشيمي بين مكوّناته. فـ «كولجهان» في الرّواية اسمٌ أطلقَتْه «رَضِيَّة» العربيّة على ابنتِها؛ وفاءً لذِكرى صديقتِها «كولجهان» البُلوشِيّة التي تَقْطُنُ في الحارةِ نفسِها «الحويرة»، ومفارقةُ الدِّلالةِ في كَوْنِ الاسمِ لا ينتمي إلى الهُوِيَّة العربيّة، أو كما قالت الجَدَّةُ: « الاسم ليس مِن أسمائنا، ولم يكُن أحدٌ راضِيًا عنه من الأساس .. وأخيرًا جاء مَن سيُزِيحُ عنَّا هَمَّ هذا الاسمِ الأعجميّ «. هو أنَّ «كولجهان» ظلَّت مُتَشَبِّثَةً بالمكان، لم تُفارِق وطنَها، كما فعلتْ «كولجهان» الحقيقيّة، حينَ أُجْبِرت على مفارقةِ أطفالِها، وآثرَت أنْ تموتَ في وطنِها «الحويرة».

تظهر «كولجهان» على صفحة الغلاف، وهي تَتَّشِحُ بِثَوبِها البُلوشيّ الفضفاض، المُزَرْكَشِ بألوان الحياة، تُدِيرُ ظهرَها تُجاهَ الغِياب، دُون حاجةٍ إلى أنْ تُفَتِّشَ عنْ وَجْهِ «كولجهان»، عليكَ فقطَ أنْ تَتَخَيَّلَ كيفَ يبدُو وَجْهُ الإنسان حِينَ تُمَزِّقُه الكآبَةُ، وتَمْتَصُّ مِن رحيقِه النِّهايات، نِهاياتُ الحُبِّ. «كولجهان» الحقيقيّةُ تَمُوتُ في أحضان «الحويرة» بعد أنْ اغْتُصِب منها أطفالُها، و«كولجهان» بطلة الرّواية، تموتُ هي الأخرى في أحضان «الحويرة» بعد أنْ هجرَها ابنُها إلى خارج الوطن، كلاهُما ذوى جسدُهما من الحُبّ، وماتا ودُفِنا في وطنِ الحُبّ. «كولجهان» البلوشية تنتصر لذاتِها بالمَوْت في وطنِها «الحويرة»، و«كولجهان» العربية تَتَمَسَّك بذاتِها، وترفضُ مغادرة وطنِها، لتحتضن الموت في وطنها «الحويرة»، وهكذا يَتَجَذَّرُ الحُبُّ في حضور الموت:

لا أدري لِمَ أشعُـرُ أنِّي كعُصْفُـورٍ صغيرٍ، لا يَلْبَثُ أنْ يُغادِرَ عُشَّه حتَّى تَتَهالَكَ عليه دواعي الفناء.

عتبة الخروج

اشتغلت الكاتبة على تقنية «العتبة» بطريقة مغايرة، حين وضعت «عتبة الخروج» في بداية الرواية، سردت فيها مصير الشخصيات والأحداث في الرواية، وكأنها تراهن على خداع القارئ، وإيهامه بأنّ هذه العتبة في حقيقتها «عتبة دخول» كما جرت العادة، أو مجرد «عتبة» معرفية عن الشخصيات تمهِّد لأحداث الرواية وليس كما يشير العنوان؛ فـشخصيّة «حياة» في نهاية الرواية تقرِّر أنْ تُخبر «خالد» الكويتي الذي يحبّها ويريد الارتباط بها، بعجزِها الأُنثَوِيّ.. وتُنهي سردها والرواية معًا مخاطبةً «خالد»: « .. أنتَ غير مضطرّ لربط مصيرك بامرأةٍ ذاتِ متلازمة، حسنًا تذكّرْ متلازمة ماير – روكتنسكي – كوستر هاوزر»، ليكتشف القارئ أنَّ مقدِّمة الرواية المُعنونة بـ «عتبة الخروج» كانت قد سردتْ له مصيرَ هذا الحُبّ: «... بعد أنْ خذلني مَنِ ادَّعى «الحُبّ»، ورحلَ مع أبيه إلى الكويت بعد وفاة ماما كولجهان ... ».

استثمار الأسطورة

إنَّ استثمارَ الروايةِ التراثَ الثقافي، بمعتقدِه وأساطيره، وحكاياته وخرافاته يُعيد قراءة المجتمع في مرحلةٍ تاريخيةٍ ما من مراحل تطور الشُّعوب المادي والثقافي، ويفتح الآفاق للأجيال القادمة لاستثمار هذا التراث بأدواتٍ ومعارفَ حضارية جديدة، ناهيكَ عن أنَّ الشُّعوبَ التي ليس لها أساطير تموت من البرد ـ كما قال الشاعر الفرنسي باتريك دولابان ـ حضرت الأسطورة في رواية «أُمّي كولجهان» ـ وما يزال كثيرٌ من الأساطير حاضرًا في ثقافة المجتمع العُماني، لا سيما في ثقافة المجتمع البحري ـ وبدت أسطورة طائر ما يُعرَف باللهجة المحليّة «المطيطوّة» أو الـ «ضاضوّه»، وعند عرب الجاهلية بـ «الأَخْيَل» أو الـ «الشِّقِرَّاق»، حاضرةً في مجتمع الرواية «الحُويرة»، و«الأَخْيَلُ» طائرٌ مشؤومٌ عند العرب، كما ورد عند الزبيدي في معجمه. يقولون: أشْأَمُ مِنْ أَخْيَلَ. ولكن حدث تمازج في الرواية بين أسطورة «الأخْيَل» وأسطورة طائر «الهامة»، لكنّهما يتقاطعان في ثِيمة الشّؤم والخراب، وقد ارتبطَ الأخيرُ خاصة بالموت في مجتمع ما قبل الإسلام، وكان العرب يعتـقدون بالأخير كثيرًا، يقول المسعودي: « .. وطائفة منهم تزعُم أنَّ النفسَ طائرٌ ينبسِطُ في جِسم الإنسان، فإذا مات أو قُتِل لم يزل مُطِيفًا به مُتَصوِّرًا إليه في صورة طائر يصرُخ على قبره مستوحِشًا.. لأنَّ هذا الطائرَ يُسَمُّونَه الهامّ، والواحد هامّة... ويزعُمون أنّ هذا الطائر يكون صغيرًا، ثمّ يكبُرُ حتّى يصيرَ كضَرْبٍ مِن البُوم، وهي أبدًا تَتَوحَّش وتصدَح، وتُوجَدُ أبدًا في الدِّيار المُعطَّلة والنّواويس، وحيثُ مصارِعُ القتلى وأجداث الموتى..».

وقد وردت أصداء هذه الأسطورة في الشِّعر الجاهلي، يقول ذو الإصْبَع العَدْواني مُخاطِبًا ابْنَ عمِّه عَمْرو:

يا عَمْرُو إلَّا تَدَعْ شَتْمِي ومَنْقَصَتي أضْرِبْكَ حتَّى تَقُولَ الهامَةُ اسْقُونِي

وقد ورد الطائرُ بالمُسمَّى المحلّي أو الشعبي «المطيطوّة» في الرواية، وهو، كما يبدو، اسمٌ مشتقٌّ مِن صوتِه، مرتبطًا بالخَراب، جالبًا الشؤم، مُتَنَبِّئًا بِمُصيبةٍ تحُلُّ بالمكان. ذُكِـرَ في معتقد «جنوب الباطنة» الشّعبي أنَّ طائر «المطيطو» يظهر بصوته المُخيف عند المقبرة، ويظهرُ ليلًا يصيح عطِشًا يُريد ماء، وهو ما يتقاطعُ في فكرة العطش مع طائر الهامَة الذي عرفه العرب، واعتقدوا بفاعليّته العَقِديّة.

وظَّفت الكاتبةُ هذا المعتقد الشعبي الذي يرتدّ إلى أسطورة الموت في الرواية، وما يُلحَظ في هذا التوظيف أنَّ الرواية لم تُجَرِّد فاعليّة الأسطورة، بل أطلقتْ «دِينامكيّتها» في الأحداث:

صوت جلبة في الخارج يسترعي نهوضي، إنها عمّتي شمسة، تلوّح بيديها بقوّة، محاولة طرد «المطيطوّة»... لطالما كان هذا الطائر نذير شؤم في «الحويرة» .. يقولون إن «المطيطوّة» كانت في الأصل امرأة، كفرت بنعمة الله عزّ وجلّ؛ إذ قامت بمسح فضلات طفلها برغيف من الخبز، فغضب منها غضبًا شديدًا، ومسخها طيرًا، بينما لا يراها البعض سوى روح المسحورة، تهيم في الفضاء، وبين الحواري، تفتِّش عن فرحتِها المغصوبة، ودفئها المسلوب بين العرشان والخِيَم .... .

لتمنحَ الروايةُ الأسطورةَ فاعليّتها في الحدث، فهذا الطائر لم يكُن صِياحُه عبثًا، إنَّما يُنْبِئُ بمُصِيبَةٍ في مدرَج الزَّمن، على الرُّغم من أنَّ السَّاردةَ نفسَها تَصِفُه بالخُرافة، لكنَّ التّساؤلات القَلِقَةَ التي تَبُثُّها مع نفسِها تجعلُها في سياقٍ كهذا تنجذِب للْمجَالِ الْمِغْنَاطِيسِيّ الذي تُحيطُ به الأسطورةُ نفسَها. وهنا تُجَرِّدُ الأسطورةُ الإنسانَ من فاعليّته. تَتَساءَلُ «كولجهان»:

ما الذي يحدُث؟ هلِ اشْتَمَّ هذا الطائرُ الخُرافيّ «المطيطوّة» رائحة بؤسٍ ما في الدَّار؟ هل تُنْذِرُنا بأمرٍ ما؟ هل أدركتْ شيئًا نجهلُه أم أحاطتْ بخبرٍ قادِم؟

إنَّها موافقة مسعود بن سالم على زواج ابنتِه كولجهان من مبارك الصُّوري، لتُغادِرَ وطنَها «الحويرة» في الباطنة إلى ولاية صُور في الشّرقيّة، ويُغيَّرَ اسمُها إلى موزة. يُخاطِبُ الأبُ عائلتَه:

أبلغتُ النّوخذة هلال بالموافقة، واتّفقتُ معه على التّفاصيل، لكن.. يريدون أنْ يُبْدِلُوا اسم «كولجهان» قالوا إنَّهُم سَيُسَمُّونَ عروستَهم «موزة».

تتفاعلُ أسطورة «المطيطوّة» مع لعنةِ الأسماء السِّحريّة التي تنتقلُ بالدّماء المختلطة، وبينَ الأسماءِ هناكَ «تابُـــوTaboo» متجذِّرٌ في تاريخِ العلاقات الإنسانية، وعروقِ دمائها؛ فالاسمُ ليس شيئًا مجرّدًا، أو حتى علامة إشارةٍ إلى كائنٍ ما، بقدر ما هو كيانٌ يُعْدِي، في دائرة الأسطورة، بكلّ ما تحملُه صفاتُه من بَذَخِ اللعنةِ أو الرّحمة. فحُضورُ أسطورة الطائر حضورٌ مُكثَّفُ الدلالة، عابر الأزمنة الغيبية، يمنح المؤمنين بفاعليّتِه تفسيرَ ما يحيط بواقعهم من ظواهرَ وأحداثٍ، أو قل يمنحهم وَهْمَ التفسير، وهذا ما يجعلُ الأسطورة حيّةً، يُرْكَنُ إليها حينَ يعجز المنطق عن التفسير، فيُحتاجُ إلى الوَهْمِ لِخَلْقِ توازناتٍ في النفس. ويذهب «كاسيرر» إلى أنَّ الإنسان القديم لم يكن قلقه من الأشياء ذاتِها ولكن من آرائه فيها، وخيالاته عنها.

أمّا القطُّ الذي أسْطَرَهُ السَّردُ بِأَسْطَرَةِ المجتمعِ المحلِّي له، فقد كان له حُضورُه في معتقدات الأمم القديمة، وحكاياتها وأساطيرها، بقدسيّة أسطورية فريدة، فهو يرتبط بإلهةٍ أنثى، وكان المصريُّون القدماء يحرِّمون إيذاء القط، فإذا مات كان على الأسرة التي فقدته أن تقصّ حواجبها علامةً على الحزن، وتحنّطها مومياء، وتُقام لها إجراءات الدفن التي يصحبها البكاء، وتوضع معه أدواتُه المفضّلة، والأواني التي تناولَ فيها طعامه. ولقد اتّحدت الإلهة المصرية القديمة «باست» مع القط.

والاعتقادُ في شَيْطانيّة القطّة السوداء ما زال يسري في المجتمعات الشعبية خاصة، تُوعِز شرارَ الأحداث إلى قطّةٍ سوداء ظهرت ليلًا أو مرّت في طريقٍ أو شُوهِدت في حلُم.. وهكذا.

تستثمر الكاتبة على لسان شخصية «حياة» هذه الأسطورة التي تلوكُها نساء «الحويرة» ويعتـقـدْنَ بفاعليّتها في الحياة. والأساطير تخرجُ من أرحام النِّساء كما الأجِنَّة، في لحظات الألم حين المخاض، وفي لحظات الفرح حين الولادة، يخفتُ ضوءُ أسطورة ٍ حين تموتُ امرأةٌ عجوز، وتتهاوَى هُوِيّةٌ ثقافيّةٌ لمجتمعٍ ما حين تندثِرُ عجائزُه. في مشهد القطط السوداء تسرد الكاتبة:

لم يقطع علينا جلستنا النقدية هذه سوى جلبةٍ من الخارج، فتحتُ نافذتي المُطلَّة على الجهة الخلفيّة للبيت، ربّما هي بعض القطط المشرَّدة، التي غزت الحويرة بكثرة منذ شهور، ولم يعلم أحدٌ سبب ذلك، مع أنَّ جارات ماما «كولجهان» يؤكِّدن مرارًا وتكرارًا، ويبصمن بالعشر -على حدّ تعبيرهنّ- أنَّ تلك القطط السوداء هُنّ من سكّان المكان، يتسكّعْن بعد منتصف الليل بين بيوت الإنس؛ بحثًا عن بقايا العشاء، الذي اعتادت بعض النساء أن تضعه في الخارج؛ ظنًّا منهنّ أنَّ الجِنَّ لهم نصيبٌ من عَشاء أهل البيت، وإنْ لم تفعل فإنَّ مكروهًا عظيمًا سيحلّ بالبيتِ وأهلِه، تنصت جاراتُ ماما لهذه الأحاديث بلهفةٍ وشغفٍ كبير، يمازِجه شيءٌ من قلقٍ صادق، وكُلُّ واحدةٍ تُفاخِر بأنّها تُحافِظ على سلامة بيتِها وأطفالِها، وتضَعُ للجِنِّيَّةِ عشاءً وافرًا.

على الرّغم من أنّ الشخصيَّةَ السردية «حياة» تَـعُـدُّ هذا الحديث عفويًّا، يمر على ذاكرتِها كنسمةٍ باردة، فهؤلاء النِّسوة تعوّدْنَ صناعةَ الشائعات والأقاويل في جلساتهنّ تحت الغافة، وأنّ لقلبِ هؤلاء النساء ليونةً وطُهرًا لا يخفى على أحد، ولكن ما يفاجئنا هو أن السّرد بعد ذلك ينحرف بحدثِ «السّرنمة» التي تُصيبُ أخاها «ماجد» أثناء نومه:

فتحتُ باب غرفتي، وهرولتُ إليه، كان يقترب من الباب الرئيس، أمسكتُه من يده، كانت حدقتاه متّسعَتَيْن، ونظراتُه تَهيمُ في اللاشي، نظراتٌ بيضاءُ خاويةٌ من أيّ تعبير، أخذتُه بتُـؤَدَة إلى غرفتِه، أجلستُه على سريره لِيُكمِل نومه، مع أنّ الطبيب قد أكَّدَ أنّ علينا إيقاظه؛ حتى لا يعود لسرنمته ثانية إلا أنِّي كنتُ أتجنَّبُ ذلك؛ خشيةَ صراخِه، وسَماعِ أنَّاتِ وَجَعِه، وهَمْهَمَاتِه العجيبة.

تَـتَـبَـوَّأُ الأسطورةُ التي تلوكُها النّسوةُ مكانًا عـقِـديًّا في مجتمع «الحويرة»، إذ تَــرْتَــدُّ الابتلاءاتُ والمصائبُ إلى هذا الغَـزْوِ الجديد مِن شياطينِ القِـطَط، ولعلَّ هذه «السَّرْنَمَة» عقابٌ مستحقّ -كما يبدو- مِن القِطَط التي تقتحم البيوت التي تَكُفُّ عن طقس ممارسة وَضْع الطّعام.

وبينَ ما يرسمُه السّرد عن الأسطورة والمعتقد الشعبي من سخريةٍ بشكلٍ خفيّ وبينَ ما يتلُو هذا مِن أحداثٍ لا تَشِي بِعُطْلِ فاعليّة الأسطورة ـ كما أنه ليس هناك من حدثِ استجابة للفاعليّة ـ فإنَّ تجرِبة توظيف الأسطورة والمعتقد الشعبي في السرد الروائي تحتاجُ إلى الاشتغال بعمقٍ أكثر.

تجليات جمال المكان

ويذهب Hauser «هوسر» إلى أنَّ المبدأ الأساسي الذي يحكم رؤيتنا للعالم هو المكان.

إنَّ تركيز الكاتبة على واقع المكان في روايتها ليس من أجل منحِهِ معنًى جغرافيًّا أو وصفًا مجرَّدًا وإنما من أجل منحه «معنًى للوجود»، حيث يتشكّل الإنسان ويتكوّن، ذلك الوجود الذي يأخذ صبغةً رومانسية لديه.

فالتّفاعلُ بين الأمكنة والشّخوص، شيءٌ دائمٌ ومستمرٌّ في الرواية، مثلما هو دائمٌ ومستمرٌّ في الحياة. فتكوينُ المكان، وما يعرُوه من تغيُّرٍ في بعض الأحيان، يؤثِّر تأثيرًا كبيرًا في تكوين الشخوص، وقد يكون وصفُ الأمكنة من الدوافع التي تجعلنا نفهم الأسرار العميقة للشخصية الروائيّة. وقد جاء وصفُ المكان في الرواية مرتبطًا في جُلِّه باللغة الشِّعرية؛ حيثُ يَـتَجَـسَّد المكانُ في الذاكرة حينَ تنـزفُ الرُّوح.

التشكيلات المكانية

*البـيـت

يقول باشلار: البيتُ هو ركنُنا في العالم. إنه كَوْنُنا الأول، كَوْن حقيقي بكُلّ ما للكلمةِ من معنى. وإذا طالَعْنا بأُلفة فسيبدو أبأسُ بيتٍ جميلًا. إنَّ البيوت والمنازل تُكوِّنُ نموذجًا أساسيًّا لدراسة قِيَمِ الأُلفة، ومظاهر الحياة الداخلية التي تعيشُها الشخصيّات.

يُشكِّل البيت عند الفتاة «كولجهان» قِيمةً ذاتيّة تتجاوزُ البُعد الهندسي والمادي، وإن كانت تحاولُ تَـتَـبُّعَ تفاصيلِه المادية في استفتاحيّة الرواية، فالعبارتان الشِّعريتان اللتان تختم بهما هذه التفاصيل تختصران قيمة هذا المكان، وبُعدَه النفسي عندها:

وقفتُ عند باب خيمتي، أمدُّ بصري لباحةِ بيتِنا الرحبةِ والمُتربةِ، بيتِنا العتيق الذي شيَّده جدّي – رحمه الله – من جريد النخل، هو كسائر بيوتِ «الحُويرة»، غارقٌ وسط أرضها الرّحراحة، يشمُّ عبق الصحراء الممتدة، المطعمة بشجيرات الهرم والأشخرة، وأشجار الأراك التي تتشابك أوراقُها، وتلتفُّ أغصانُها على بعضِها، فتبدو كأُمٍّ ترضعُ صغيرها، وقد أسدلت على صدرِها وطفلها غطاءَ رأسِها الفضفاض.

يقول «ويليك» إذا وصفْتَ البيت فقد وصفْتَ الإنسان. في باحة البيت ينمو الحنان أيّما اتّجهتَ؛ في الشجيرات بأنواعها، وأغصانها، إنها جزءٌ منَ الطبيعة الحيّة التي تتشابكُ مع أغصان النفس، انعكاسٌ للذّات التي تتواءم مع جماليّة المكان. البيت هو المعادل الموضوعي للأُمّ الحنون « المناخ الذي يعيش الإنسان المَحمِي في داخله». «البيت الذي يحمي أحلام اليقظة، ويتيح للإنسان أن يحلم بهدوء –كما قال باشلار– وبدونه يُصبح الإنسان كائنًا مُـفَـتَّــتًا».

في باحة البيت التُّرابيّة، وعلى زاويةٍ قَصِيّة، ثمَّةَ عريشٌ مفتوحٌ، ترقُدُ تحتَ ظِلِّه أدواتُ المطبخ، والأواني النّحاسية، وأباريقُ القهوة. هناكَ كان أبي يقعُدُ متناوِلًا فطورَه، تُناوِلُه عمَّتي شمسة القهوة، دنوتُ منهما، أرسلتُ إليه نظراتٍ حُبلى بالإعجاب والحُبّ والترقُّب، وأشياءَ أخرى كثيرة.

يمكننا أنْ نُطلِق على هذه الأمكنة والزوايا، والأدوات والأواني بمناطق الألفة التي تتميز بقوّة الجذب .. وتبلغ حدًّا من التّجذُّر العميق في اللاوعي يجعلها تُستعادُ بمجرَّد ذِكرها.

ولكنْ كيف يبدو مكانُ الأُلفة حينَ يشهقُ الإنسانُ بالجِراح، لحظةَ يُسلَب منه حتى اسمُه، ولا يتبقَّى من هُوِيَّتِه سوى شبحِ إنسان. هل يظلُّ المكانُ مُشْبَعًا بالجَمال أم أنَّ ارتِدادَ النفسِ يُحِيلُ الجَمال إلى قُبْح؟!

بعد أنْ وافقَ الأبُ مسعود على زواجِ ابنتِه، واستِبدالِ الاسم، دلفَت «كولجهان» غُرفتَها:

كأنَّ كفًّا غليظةً تكبِسُ على صدري، تُراوِغُ نَفَسي، حتى غدَا فاتِرًا ثقيلًا، أزَلْتُ غِطاءَ رأسي عن رَقْبَتي، حاولتُ أنْ أجْتَرَّ نَفَسًا عميقًا، مَدَدْتُ ساقَيّ، واسْتَرْسَلْتُ في عَبِّ مَزيدٍ مِن الهواء، كانتِ الغُرفةُ مُشْبَعَةً بِرائحةِ الرُّطُوبة، ولم أشَأْ أنْ أخرُجَ، لا أُريدُهم أنْ يَرَوْنِي في هذه الحال، أخذتُ أجترُّ أنفاسًا مُتَتَابِعَةً، وأقرأُ ما أحفَظُه مِن سُوَرٍ كريمة، حتّى شَعَرْتُ بِبعضِ التَّحَسُّن، حينها ألقَيْتُ جسدي على فِراشي، وأخذتُ أبكي بِحُرقة، لقد سَلَبُوني كُلَّ شيء، لم يبقَ مِنِّي سِوى جسدٍ يُنَفِّذُ الأوامر وحَسْب، حتَّى اسْمِي، يا ألله ارحمْني، حتَّى هُوِيَّتِي اغْتِيلتْ.

المكانُ يكتسبُ صفته مِن جوّانيّة النفس، فما يبدو جميلًا لحظةً ما يُصبحُ قبيحًا في لحظةٍ أخرى. إنَّنا ننظُرُ إلى المكان في معظم مواقفنا نظرةً عاطفيّة، حتى إننا نعجزُ في تلك المواقف التي تتطلّب منّا التّجريد، أنْ لا نُشْرِكَ عواطفَنا فيما نختار؛ إذ ثَمَّةَ تعالُقٌ مَشِيميّ بينَ الذات والمكان، فالذاتُ قادِرةٌ على أنْ تحوِّلَ قُبْحَ العالَمِ ذاتَ لحظةٍ إلى جَمالٍ متصالحٍ مع الرُّوح، وأنْ تحوِّلَ جَمالَه ذاتَ لحظةٍ إلى قُبْح.

في الجيل الثاني من شخصيات الرواية، وفي البيت، تصف الفتاةُ «حياة» الحفيدةُ غرفةَ «كولجهان» عمّةِ أبيها، وطقوس معيشتها:

آآآه ما أشهى تفاصيلَكِ البسيطة أيّتها السيّدة العتيقة، تلك التفاصيل المنحوتة بِحُبٍّ على جدران غرفتك، علبُ البخور»الدّقّة»، المصفوفة على روازن الغرفة، زيّك التقليدي الجميل «الثوب العود» المفروش فوق «المبخرة» المصنوعة من جريد النخيل، ووسط هذا الجمال، تقبع صورة بالأبيض والأسود، مؤطَّرة بإطار ذهبي، ومطوَّقة بوردٍ أبيض، إنها لشابٍّ عشرينيّ على ما يبدو، يمتلك ابتسامة، تجعله نسخة بشرية مكررة من «ماما كولجهان».

في هذا الوصف المكاني بتفاصيله تُشتَمُّ رائحةُ شيءٍ ما يغوص في أعماق «الشخصية» أكبر من تفاصيل البخور وجريد النّخل، قد يحمل وجعًا غائرًا في النفس لا يظهر للعلن، وتُحيل دلالاتُ الأدواتِ ومواقعها في الغرفة على ذكرى تنزِفُ بالحزن حتى اللحظة ذاتِها؛ لهذا فإننا «نُخطئ تمامًا إذا نظرنا إلى البيت كركامٍ من الجدران والأثاث فقط؛ لأنّ هذه النظرة ستقتُل الدلالة الكامنة فيه، وتُفرِغه من محتواه. ولذلك تَميلُ الرؤية الأساسية لفضاء البيت، وإدراك التعبيرات المجازية التي يتضمنها البيت بِعَدِّه مصدرًا لِفَيْضٍ من المعاني والقِيَم.

حين عادت «كولجهان» من منفاها «الصُّوري» ظلَّ البيتُ بِعَبَقِه الحميمِيّ، وهويحتضِن الأُلفةَ بين أفرادِه، مُعادِلًا للفرحِ والبهجة:

حين أظَلَّنا المساءُ بعباءتِه الفضفاضة، والمُزدانة بِنَمْنَمَاتٍ ذهبيّةٍ تُلهِب الحَواسّ، اجتمعْنا أنا وأبي وعمّتي وسالم، يَلُفُّنا عبقُ الطِّين المحروق، ويُسْدِلُ «سراج أبو سحّة» المعلَّق على جدران الطِّين، خُيوطَه الباهتةَ على وُجُوهِنا وأجسادِنا، تشاكَسْنا أُمنياتِ الغد.

*الحويرة

وهي تصغير للحارة -كما جاء عند الكاتبة- تصف «كولجهان» وطنَها «الحويرة» في استفتاحيّة الرواية، تقول:

كما تتباهَى «الحويرة» بأشجار الغاف العملاقة، المُتَسَمِّرة كحارِسٍ ضَخْمِ الجُثَّة، يحمي القريةَ الصغيرة من عدُوٍّ مجهول، لا يعلمُ عنه أحد.

وحين نُوجِّه انتقادًا ما إلى الواقع؛ لأنه أساءَ إلى المكان، أو نتذمّر من تحوّل حال المكانِ المرافقِ طفولتَنا؛ فإنما نحن نعاني من توتّر ذهني ونفسي؛ خشيةَ أنْ تَـتَـشَظّى ذاكرتُنا، وتُصبِحَ مفرغةً مِن مفردات الحياة التي ترافقنا في رحلة العمر وتمدّنا بطاقة البقاء:

حتَّى تلك الغافات التي شاطرتنا طفولتنا البسيطة ابتلعتْها النهايات، وسطا عليها جبروت المدنية، أكلَ ملامحها الدافئة، وركلَ بقاياها في العدم، وجاءت الحداثة تمدّ أذرعها المخاتلة إلى أزقّة الحويرة.

لقد عَدَّ «وليم بليك» الخيالَ قُوَّةً خالقةً يُستطاع بها تَعمُّق الحقيقة، وقراءة الطبيعة على أنَّها رُموزٌ تُشيرُ إلى عالَمٍ أعمقَ وأرحبَ وراءها، أو إلى شيءٍ كامِنٍ فيها لا يُمكِنُ قراءتُه بالطّاقة العاديّة.

لا تكتفي السّاردة بوصف الأشجار الخارجي بـ«العملاقة»، بل تُؤَنْسِنُها، بحسبانِها جزءًا حميمًا يبعثُ الدِّفءَ والأمنَ في «الحويرة»، وتندَسُّ تحت ظِلالِها حكاياتُ النساء، وشغَبُ الأطفال. تشتغلُ شجرةُ «الغافة» على ظِلالِها الذي يحجب حرارةَ الشّمس، ويكون مرتعًا للإنسان والحيوان إلا أنَّ هذا الاشتغال الخارجي يرتدّ إلى الداخل في أعمق صُوَرِه حينَ تجري استعادةُ ذكرياتِه، فيحدث هناكَ تَجَذُّرٌ بين النبات والإنسان؛ لـتَتَحوَّل شجرةُ «الغاف» المُعمَّرَة إلى عجُوزٍ تُمَسِّدُ بِيَدَيْها على الأطفال بعاطفتِها الحَنُون. تتحدَّثُ الساردةُ عن «كولجهان» البُلوشيّة وأخواتِها؛ كولجهان التي تُسُمِّيَت بها سارِدَتُنا كولجهان بنتُ مسعود:

ثُمَّ يُعَرِّجْنَ على الغافةِ العجوز المحاذِية لِبُيوتِنا، كُنَّا نحتَشِد تحت ظِلالِها، نتناوَشُ في ما بيننا، مَن يحظى أوّلًا بالتَّمَرْجُحِ على الحِبال المعلَّقة على الغُصن الرّكين، مَن مِنَّا سَتَهُزُّه الغافةُ بِذِراعِها الحَنُون أولًا. ترتبط البطلةُ «كولجهان» بعَوالِم النّبات؛ إذ تكثُرُ المزارعُ في «الحويرة»، وترتبطُ بها رُوحًا أكثر منه جسدًا، تكاد لا تجد وصفًا خارجيًّا لـ «الحويرة» وأشجارها إلا وربطته بجُوَّانيّة ذاتِها، هذا الاشتِغال يَشِي بمدى التَّجَذُّر المكاني في أعماقِ الذَّات: أمُدُّ بصري على المساحاتِ الخضراء، التي قد تصِلُ إلى أربعة فدَّانات، أحتسي هواءً مُنعِشًا، أرقُبُ تلاعُبَ الرِّياحِ ببعضِ أغصان أشجار الليمون، وتُراقِص وُرَيْقاتها في الفضاء.. تُجاوِرُه أشجارُ الجوّافة والمانجو والبيذام، والشَّجرُ أيًّا كانت فصيلتُه يطرُدُ السَّأمَ، ويَلفِظُ النَّقاءَ، لِتَتَسَلَّمَه أفئدَتُنا بِشَغَف، فتَكْمُلُ بهِ رِحلةُ الحياة، للهِ دَرُّ الشَّجرةِ، هي أُمُّ الحياةِ لا رَيْب !.

هذا الارتباط بين الإنسانِ والشَّجرةِ مُتَجَذِّرٌ في القِدم، منذُ أنْ أدركَ الإنسان قِيمتَها، فقامَ بأنْسَنتِها. يذهب «فريزر» إلى أنَّ الشُّعوبَ القديمة قدّستِ الأشجارَ، وعبدتْها، وأنَّ لها أرواحًا، فهي تَهَبُهم الحياةَ والغِذاءَ كما تفعلُ الأُمُّ مع صِغارها. ولأنَّ الشجرةَ تَتَجَسَّدُ الأُمَّ الأُسطوريّة -وهي نفسُها المُمْتَدَّةُ الجُذُورِ في عُمْق ألرض، الأُمُّ الأولى واهِبةُ الحياة- فاللُّجوءُ إليها يعني الانفتاحَ على وطنٍ مُمتَدٍّ بالجَمال والحنان، وطنٍ تُنْزَعُ تحتَ ظِلالِه ذاتَ لحظةٍ هواجِسُ الفَقْد التي تَدْهَمُ ذاكِرةَ السِّنين.

عند نبتةِ الرِّيحان تصبِغُ «كولجهان» المكانَ بِشِعْرِيَّةٍ حالِمةٍ -كعادتِها- تمتزِجُ بِرُوحٍ صُوفِيَّةٍ تُيَمِّمُ تُجاهَ الكونِ، تُغرِيها الطبيعةُ بتفاصيلِها الصغيرة، وتستفِـزُّها حركاتُها بالفرَح؛ إذِ النّفسُ هنا في وطنِها تنسجِم مع إيقاع الحياة، ويُصبِح المكانُ مُنقِذًا نفسيًّا مِن شبحِ الماضي. في «الحويرة» بعد أنْ نفضت عن كاهلِها غُبارَ المهانَةِ، وتجاوزَت وَجَعَ الحاجةِ التي أذَلَّتْها في مدينة «صُور»، تظهرُ «كولجهان» في تفاصيل الطبيعة الجميلة، بقولِها:

أخطو بِضعَ خُطوات، وأتوقَّفُ عندَ نَبْتَةِ رِيحانٍ يَتِيمة، لم يَمْنَعْها يُتْمُها مِن بَثِّ عِطرِها في القُلُوب، ولم تَحُلْ وِحدتُها دُونَ التماهي مع تفاصيل الكون، تَبْسِمُ لِغَيْمَةٍ بَيْضاءَ عابِرةٍ، وتُلَوِّحُ لِيَمامةٍ سلَّمتْ جَناحَيْها للرِّيح، تَشْتَمُّ رائحةَ ماءِ السَّواقِي المُخْتَلِطِ بِخُصُوبةِ الأرض. هكذا، في المشهد السابق، تَـتَماهَى «كولجهان» مع «نَبْتَةِ الرِّيحان» فـتُعِيد صياغةَ الطبيعة بحجم القلق الداخلي، حتّى تغدوَ الطبيعةُ معادلًا موضوعيًّا في وحدتِها، وفي صناعةِ الفرح للآخر. وهو ما يُفسِّر هروبَ «كولجهان» من مدينة «صُور» بعد أنْ زُوِّجت من مبارك الصُّوري، ولم تستطعْ أنْ تَتَنَفَّسَ الحياةَ هناك، فكانت المخاطرةُ بحياتِها وسُمعتِها وسُمعةِ أهلِها؛ من أجلِ أنْ تُمارِسَ الحياةَ في وطنِها « الحويرة»، وبالرّغم من الانعتاق، فقد ظلَّت تَجْرِبَةُ المنفى «الصُّوري» -وهي في أحضان الحويرة- تجثُـمُ على صدرِها كلّما اسْتُعِيدَ ما يُحرِّكُ ذاكرتَها بها، إذْ إنَّ التفكير في البُعد عن الوطن باتَ يَقِضُّ هجعتَها؛ وهو ما جعلها بعد ذلك ترفُض أنْ تُغادِر مع ابنِها محمد وطنَها «الحويرة» إلى قطر مع زوجِها سعيد، فضلًا عن أنَّ «كولجهان» مُتَجَذِّرَةٌ عاطفيًّا بالوطن، تقول:

يريدنا أنْ نُسافِرَ معه أنا ومحمد، ونستقِرَّ هناك، لكنِّي رفضتُ، ما زالت لعنةُ البُعد عن موطني تُلاحقُني، لا أدري لِمَ أشعُـرُ أنِّي كعُصْفُـورٍ صغيرٍ، لا يَلْبَثُ أنْ يُغادِرَ عُشَّه حتَّى تَتَهالَكَ عليه دواعي الفناء، فيَعُودَ مُنتصِرًا عليها إلى موطنِه البِكْر وحُضْنِه الأوَّل؟! «كولجهان» التي عاشتْ منذُ نُعومةِ أظفارِها في وطنِها «الحويرة»، أحبَّتِ الجَمالَ في معناهُ الواسِع والشَّامل، لم تستطع أنْ تصِفَ المكان في حُدودِ أبعادِه الخارجيَّة إلا وكانت تُعَمِّدُه بِماءِ رُوحِها، هذه الذَّاتُ لا تستطيع أنْ تعيشَ خارجَ عُشِّ الذِّكريات، حيثُ أُمُّها «رَضِيَّة» وصديقةُ أُمِّها «كولجهان»، وعَمَّتُها «شمسة»، حيثُ المزارِعُ التي تَهَبُ الحياة، والثِّيرانُ التي تَجُرُّ أحبالَ «المنجور» لا شيءَ يُضاهِي حُبَّ الوطنِ، وجمالَه. هكذا يُسْدِلُ السِّتارَ على حياةِ «كولجهان» بتَجَذُّرِها العميق في موطنها الكبير، ووطنِها الصَّغير «الحويرة»، إنَّه الوَعْيُ بالمكانِ يَتَجلَّى في سيرةِ الفتاةِ الهاربةِ إلى وطنِها، المُتَمَرِّدةِ على نَزْعِ هُوِيَّتِها، إنَّها «كولجهان» المُتكرِّرَة في العذاباتِ، والبُطولات، في هذه الرواية لا تمُوت في النهايات، بل تُطِلُّ علينا من عَتَبَة الخُروج بذِكرى قولِها على لسان حفيدتِها «حياة»: الفقدُ وتَوَارِي الأحِبَّاء خلفَ جُدْرانِ الموتِ المُرعِبة قد يقتُلُ مَن أحَبُّوهُم، وإنْ بعدَ حِين».

نعم، هكذا هو، المَوْتُ -كما قال محمود درويش- لا يُوجِعُ المَوْتى، المَوْتُ يُوجِعُ الأحياء.

الدكتور حمود الدغيشي باحث وأكاديمي عماني