مرفأ قراءة .. بواكير أدبنا العربي الحديث بعيون إسبانية!
السبت / 25 / ربيع الأول / 1444 هـ - 17:45 - السبت 22 أكتوبر 2022 17:45
-1-
منذ فترة طويلة، وأنا أعكف على قراءة نصوص أدبنا العربي الحديث (خاصة التي كتبت في إطار في الأنواع الأدبية الحديثة؛ كالرواية والمسرحية والقصة القصيرة والسيرة الذاتية والمقال الأدبي.. إلخ)، في فترة الريادة وتأصيل هذه الأنواع خاصة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين.
وكنت كلما أوغلت في قراءة هذه النصوص، وسياقاتها الثقافية والتاريخية والاجتماعية، أدركت تماما قيمتها وأهميتها ليس فقط باعتبارها نصوصًا أدبية جمالية استوعبت لحظتها الراهنة، وتمثلتها خير تمثيل بل باعتبارها أيضًا «نصوصا ثقافية» بما يعنيه هذا المصطلح ويحيل إليه في الدراسات الثقافية الحديثة؛ أو «النقد الثقافي».
من هنا مثلًا نتفهم أو يمكن أن نقرأ العديد من الدراسات النقدية المهمة التي أعادت قراءة بعض هذه النصوص أو كثير منها، مضيئة جوانبها الجمالية، وأنساقها التشكيلية ومواقفها ورؤاها الفكرية والثقافية؛ على سبيل المثال يمكن أن نقرأ دراسة أحمد إبراهيم الهواري «نقد المجتمع في حديث عيسى بن هشام»، أو قراءة رضوى عاشور لـ«الحداثة الممكنة.. الشدياق والساق على الساق»، أو الدراسات النقدية التي عكفت على قراءة وتحليل النصوص التأسيسية لطه حسين وتوفيق الحكيم وإبراهيم المازني ويحيى حقي.. إلخ، ومنها أيضًا على سبيل المثال لا الحصر، «دراسات في الرواية المصرية» لعلي الراعي، و«محتوى الشكل في الرواية العربية - النصوص التأسيسية الأولى»، و«دراسات في الرواية العربية» لأنجيل بطرس سمعان، وغيرها.
-2-
لكن كان من اللافت بالنسبة لي اكتشاف حضور وافر وظاهر لهذه النصوص في ثقافات غير عربية أو تحديدا في الثقافة الأوروبية، وبالأخص في المجال الأدبي والثقافي الإسباني المعاصر؛ الذي كان من أسبق اللغات والآداب والمجالات التي استوعبت وترجمت نصوصًا من الأدب العربي الحديث، وعكفت على قراءتها، ودراستها وتحليلها برصانة وعمق.
بدأت الصلات الثقافية مبكرا بين المجال الجامعي والأكاديمي المصري والعربي، وبين نظيره الإسباني في النصف الأول من القرن العشرين، ومن يتتبع تاريخ نشأة الدراسات الأندلسية في الجامعات العربية، سيكتشف على الفور عظمة الدور الريادي والتأسيسي لطه حسين الذي وجّه قسطًا وافرًا من مجهوده العظيم في ترسيخ وتأصيل هذه الدراسة بأقسام اللغات والآداب بالجامعة المصرية.
ولم يكتف طه حسين بهذا بل تجاوز حدود الجامعة ميممًا شطره تجاه أقصى الغرب الأوروبي، شبه جزيرة إيبيريا بالتحديد، مقتحمًا جريئًا وعاقدًا أواصر علاقات ثقافية مثمرة وغير مسبوقة، وإنشاء جسور معرفية عظيمة بين مصر والعالم العربي وبين إسبانيا؛ بدأت بمبادرة وفكرة في ثلاثينيات القرن الماضي لإنشاء معهد للدراسات العربية في مدريد وتكللت هذه الجهود بالنجاح في عام 1950 بتوقيع اتفاقية إنشاء وتأسيس المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد (ولهذا الصرح العلمي الأكاديمي الثقافي قصة عظيمة تستحق أن تروى بتفاصيلها أعد القراء بسردها هنا في مرفأ قراءة في حلقات قادمة بمشيئة الله).
كان من ثمار هذا التعاون الرائع حركة ثقافية كبرى وازدهار عظيم في الدراسات المقارنة والبينية والدراسات الأندلسية القديمة منها والحديثة على السواء، وبدأت حركة ترجمة نشطة كأثر مباشر من آثار هذا الاتصال العظيم من وإلى اللغتين معًا (العربية والإسبانية)، وخلال الخمسينيات من القرن الماضي تُرجمت العديد من نصوص أدبنا العربي الحديث إلى الإسبانية مصدرة بدراسات نقدية وتحليلية وافرة العمق والذكاء والرصانة، عكف عليها كبار المستشرقين الإسبان وأعلام هذه الحركة في الدراسات الأندلسية والمغربية والمشرقية على السواء.
-3-
وحظي نصان مهمان تأسيسيان هما «الأيام» لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (صدرت في كتاب للمرة الأولى عام 1927)، و«يوميات نائب في الأرياف» لعميد المسرح العربي توفيق الحكيم (صدرت للمرة الأولى عام 1937)، بعناية واهتمام المستشرق الإسباني الكبير إيميليو غرسيه غومِس الذي اضطلع بترجمة العملين الكبيرين إلى الإسبانية، وصدَّر ترجمته لكل منهما بمقدمة هي في صميمها قراءة تحليلية نفيسة تثير الكثير من الإعجاب والدهشة والإكبار أيضًا!
وقد ترجم الأستاذ غومس نص طه حسين «الأيام» (الجزء الأول) أولًا، ثم أعقبه بترجمة رواية «يوميات نائب في الأرياف» ثانيًا، وقد نشرت مقدمة الأستاذ غومس للترجمتين في صحيفة (المعهد المصري للدراسات الإسلامية) في مدريد في خمسينيات القرن الماضي، يقول المرحوم محمود علي مكي الذي اضطلع بترجمة مقدمة غومس إلى العربية:
(هذه هي المقدمة التي صدَّر بها الأستاذ غرسيه غومس للترجمة الإسبانية لكتاب «يوميات نائب في الأرياف» للأستاذ توفيق الحكيم، وقد تولى نشر تلك الترجمة المعهد الإسباني العربي في مدريد «سنة 1956»، أما هذه المقدمة، فقد تفضل الأستاذ غرسيه غومس فأذن لنا بنقلها إلى العربية، ونشرها في هذه الصحيفة).
فيما قام المرحوم الدكتور حسين مؤنس أستاذ التاريخ الإسلامي في العصور الوسطى، وصاحب المؤلفات الموسوعية والتحقيقات التراثية الأصيلة بترجمة مقدمة غرسيه غومس لنص «الأيام» لطه حسين، ونشرت بدورها على صفحات المجلة ذاتها (المجلد الثاني، العددان الأول والثاني، سنة 1954 ص 240-252).
-4-
وبهذا توفر لنا -نحن قراء العربية- وثيقتين مهمتين غاية في الأهمية والقيمة تحملان رؤية إسبانية عميقة لنماذج من أدبنا العربي الحديث، وخاصة في بواكيره التأسيسية، يقدم لنا فيها الأستاذ غومس نظرة تحليلية تأملية للأدب المصري في العموم، ومقارنا إياه بنظيره الإسباني في الفترة ذاتها، من حيث الخصائص والسمات والمشتركات والتباينات.. إلخ.
وسيلفت انتباه قراء هاتين المقدمتين للترجمة تلك المقارنة اللافتة التي سيعقدها غومس بين نصي طه حسين وتوفيق الحكيم، وبين بعض جيل الكتّاب الإسباني الذي شُهر بجيل (سنة 1898)، ويوضح العلامة محمود مكي أن «جيل سنة 1898» يُطلق على هذه المرحلة في تاريخ الأدب الإسباني التي كانت سنة 1898 فيه حاسمة، كما كانت كذلك في حياة إسبانيا كلها، ففي هذه السنة فقدت إسبانيا مستعمراتها في الفلبين وكوبا، وحلت بهـا كوارث سياسية، كان من شأنها أن تنتج مجموعة من الأدباء حاولوا أن يعيدوا بناء الحياة السياسية والاجتماعية من جديد، هادمين آثار الماضي ومتعرضين له بالنقد اللاذع المرير الذي تشوبه روح من التشاؤم والحزن، بحسب ما يعرفه المرحوم محمود علي مكي في واحد من هوامشه الثرية الممتازة لترجمته لمقدمة غومس.
وهكذا، وعلى مدار قراءته وتحليله للنصين (سنتوقف عندهما تحليلا في حلقات قادمة من مرفأ قراءة) سيتردد اسم خوسيه مارتينث رويث (José Martinez Ruiz Azorin) المعروف بـ«أثورین» ولد في سنة 1885 وهو يعتبر من أبرز ممثلي جيل سنة 1898 وهو كاتب ثائر خصب الإنتاج له ما يقرب من مائة كتاب من أشهرها كتاب «الشعوب»، وأهم ما يميز نثره غناه اللفظي وإحكام صناعته وإشراق أسلوبه، وهو من أهم من تعرضوا لوصف الحياة في الريف الإسباني، وهو إلى جانب آثاره الفنية ناقد أدبي من الطراز الأول. مقارنا بينه وبين نص «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم.
فيما سنجابه كذلك، وعلى سبيل المثال اسم الشاعر الإسباني العظيم فيدريكو جارثيا لوركا Federico Garcia Lorca الذي ولد في قرية من إقليم غرناطة سنة 1898 وقتل في سنة 1936 ويعتبر ديوانه «أناشيد الغجر» من خير المجموعات الشعرية الإسبانية في القرن العشرين، وله روايات شعرية مسرحية يتجه فيها إلى موضوعات قديمة إلا أنه يضفي عليها إنسانية حارة لا تخلو من المبالغة في التصوير، لا سيما في «المأساة»، إلى حد يجعله قريبًا من الكتّاب الإغريق للمسرحيات الدرامية. ويمتاز أدبه كذلك بنزعة روحية طاغية وبالألوان العنيفة الصارخة.
-5-
وهكذا نجد أن اسم كاتبين عظيمين من كتاب أدبنا العربي الحديث تترجم أعمالهما إلى الإسبانية، وتُقرأ في ضوء التحليل والمقارنة بنصوص إسبانية كتبها أعلام الأدب الإسباني، في نفس الفترة، ونرى بالدليل النصي والتحليل النقدي مدى فرادة وخصوصية هذه النصوص، إن جماليًا وتشكيلًا لغويًا، وإن على مستوى المضامين الإنسانية والمعالجة الاجتماعية والفكرية والسياسية.
منذ فترة طويلة، وأنا أعكف على قراءة نصوص أدبنا العربي الحديث (خاصة التي كتبت في إطار في الأنواع الأدبية الحديثة؛ كالرواية والمسرحية والقصة القصيرة والسيرة الذاتية والمقال الأدبي.. إلخ)، في فترة الريادة وتأصيل هذه الأنواع خاصة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين.
وكنت كلما أوغلت في قراءة هذه النصوص، وسياقاتها الثقافية والتاريخية والاجتماعية، أدركت تماما قيمتها وأهميتها ليس فقط باعتبارها نصوصًا أدبية جمالية استوعبت لحظتها الراهنة، وتمثلتها خير تمثيل بل باعتبارها أيضًا «نصوصا ثقافية» بما يعنيه هذا المصطلح ويحيل إليه في الدراسات الثقافية الحديثة؛ أو «النقد الثقافي».
من هنا مثلًا نتفهم أو يمكن أن نقرأ العديد من الدراسات النقدية المهمة التي أعادت قراءة بعض هذه النصوص أو كثير منها، مضيئة جوانبها الجمالية، وأنساقها التشكيلية ومواقفها ورؤاها الفكرية والثقافية؛ على سبيل المثال يمكن أن نقرأ دراسة أحمد إبراهيم الهواري «نقد المجتمع في حديث عيسى بن هشام»، أو قراءة رضوى عاشور لـ«الحداثة الممكنة.. الشدياق والساق على الساق»، أو الدراسات النقدية التي عكفت على قراءة وتحليل النصوص التأسيسية لطه حسين وتوفيق الحكيم وإبراهيم المازني ويحيى حقي.. إلخ، ومنها أيضًا على سبيل المثال لا الحصر، «دراسات في الرواية المصرية» لعلي الراعي، و«محتوى الشكل في الرواية العربية - النصوص التأسيسية الأولى»، و«دراسات في الرواية العربية» لأنجيل بطرس سمعان، وغيرها.
-2-
لكن كان من اللافت بالنسبة لي اكتشاف حضور وافر وظاهر لهذه النصوص في ثقافات غير عربية أو تحديدا في الثقافة الأوروبية، وبالأخص في المجال الأدبي والثقافي الإسباني المعاصر؛ الذي كان من أسبق اللغات والآداب والمجالات التي استوعبت وترجمت نصوصًا من الأدب العربي الحديث، وعكفت على قراءتها، ودراستها وتحليلها برصانة وعمق.
بدأت الصلات الثقافية مبكرا بين المجال الجامعي والأكاديمي المصري والعربي، وبين نظيره الإسباني في النصف الأول من القرن العشرين، ومن يتتبع تاريخ نشأة الدراسات الأندلسية في الجامعات العربية، سيكتشف على الفور عظمة الدور الريادي والتأسيسي لطه حسين الذي وجّه قسطًا وافرًا من مجهوده العظيم في ترسيخ وتأصيل هذه الدراسة بأقسام اللغات والآداب بالجامعة المصرية.
ولم يكتف طه حسين بهذا بل تجاوز حدود الجامعة ميممًا شطره تجاه أقصى الغرب الأوروبي، شبه جزيرة إيبيريا بالتحديد، مقتحمًا جريئًا وعاقدًا أواصر علاقات ثقافية مثمرة وغير مسبوقة، وإنشاء جسور معرفية عظيمة بين مصر والعالم العربي وبين إسبانيا؛ بدأت بمبادرة وفكرة في ثلاثينيات القرن الماضي لإنشاء معهد للدراسات العربية في مدريد وتكللت هذه الجهود بالنجاح في عام 1950 بتوقيع اتفاقية إنشاء وتأسيس المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد (ولهذا الصرح العلمي الأكاديمي الثقافي قصة عظيمة تستحق أن تروى بتفاصيلها أعد القراء بسردها هنا في مرفأ قراءة في حلقات قادمة بمشيئة الله).
كان من ثمار هذا التعاون الرائع حركة ثقافية كبرى وازدهار عظيم في الدراسات المقارنة والبينية والدراسات الأندلسية القديمة منها والحديثة على السواء، وبدأت حركة ترجمة نشطة كأثر مباشر من آثار هذا الاتصال العظيم من وإلى اللغتين معًا (العربية والإسبانية)، وخلال الخمسينيات من القرن الماضي تُرجمت العديد من نصوص أدبنا العربي الحديث إلى الإسبانية مصدرة بدراسات نقدية وتحليلية وافرة العمق والذكاء والرصانة، عكف عليها كبار المستشرقين الإسبان وأعلام هذه الحركة في الدراسات الأندلسية والمغربية والمشرقية على السواء.
-3-
وحظي نصان مهمان تأسيسيان هما «الأيام» لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (صدرت في كتاب للمرة الأولى عام 1927)، و«يوميات نائب في الأرياف» لعميد المسرح العربي توفيق الحكيم (صدرت للمرة الأولى عام 1937)، بعناية واهتمام المستشرق الإسباني الكبير إيميليو غرسيه غومِس الذي اضطلع بترجمة العملين الكبيرين إلى الإسبانية، وصدَّر ترجمته لكل منهما بمقدمة هي في صميمها قراءة تحليلية نفيسة تثير الكثير من الإعجاب والدهشة والإكبار أيضًا!
وقد ترجم الأستاذ غومس نص طه حسين «الأيام» (الجزء الأول) أولًا، ثم أعقبه بترجمة رواية «يوميات نائب في الأرياف» ثانيًا، وقد نشرت مقدمة الأستاذ غومس للترجمتين في صحيفة (المعهد المصري للدراسات الإسلامية) في مدريد في خمسينيات القرن الماضي، يقول المرحوم محمود علي مكي الذي اضطلع بترجمة مقدمة غومس إلى العربية:
(هذه هي المقدمة التي صدَّر بها الأستاذ غرسيه غومس للترجمة الإسبانية لكتاب «يوميات نائب في الأرياف» للأستاذ توفيق الحكيم، وقد تولى نشر تلك الترجمة المعهد الإسباني العربي في مدريد «سنة 1956»، أما هذه المقدمة، فقد تفضل الأستاذ غرسيه غومس فأذن لنا بنقلها إلى العربية، ونشرها في هذه الصحيفة).
فيما قام المرحوم الدكتور حسين مؤنس أستاذ التاريخ الإسلامي في العصور الوسطى، وصاحب المؤلفات الموسوعية والتحقيقات التراثية الأصيلة بترجمة مقدمة غرسيه غومس لنص «الأيام» لطه حسين، ونشرت بدورها على صفحات المجلة ذاتها (المجلد الثاني، العددان الأول والثاني، سنة 1954 ص 240-252).
-4-
وبهذا توفر لنا -نحن قراء العربية- وثيقتين مهمتين غاية في الأهمية والقيمة تحملان رؤية إسبانية عميقة لنماذج من أدبنا العربي الحديث، وخاصة في بواكيره التأسيسية، يقدم لنا فيها الأستاذ غومس نظرة تحليلية تأملية للأدب المصري في العموم، ومقارنا إياه بنظيره الإسباني في الفترة ذاتها، من حيث الخصائص والسمات والمشتركات والتباينات.. إلخ.
وسيلفت انتباه قراء هاتين المقدمتين للترجمة تلك المقارنة اللافتة التي سيعقدها غومس بين نصي طه حسين وتوفيق الحكيم، وبين بعض جيل الكتّاب الإسباني الذي شُهر بجيل (سنة 1898)، ويوضح العلامة محمود مكي أن «جيل سنة 1898» يُطلق على هذه المرحلة في تاريخ الأدب الإسباني التي كانت سنة 1898 فيه حاسمة، كما كانت كذلك في حياة إسبانيا كلها، ففي هذه السنة فقدت إسبانيا مستعمراتها في الفلبين وكوبا، وحلت بهـا كوارث سياسية، كان من شأنها أن تنتج مجموعة من الأدباء حاولوا أن يعيدوا بناء الحياة السياسية والاجتماعية من جديد، هادمين آثار الماضي ومتعرضين له بالنقد اللاذع المرير الذي تشوبه روح من التشاؤم والحزن، بحسب ما يعرفه المرحوم محمود علي مكي في واحد من هوامشه الثرية الممتازة لترجمته لمقدمة غومس.
وهكذا، وعلى مدار قراءته وتحليله للنصين (سنتوقف عندهما تحليلا في حلقات قادمة من مرفأ قراءة) سيتردد اسم خوسيه مارتينث رويث (José Martinez Ruiz Azorin) المعروف بـ«أثورین» ولد في سنة 1885 وهو يعتبر من أبرز ممثلي جيل سنة 1898 وهو كاتب ثائر خصب الإنتاج له ما يقرب من مائة كتاب من أشهرها كتاب «الشعوب»، وأهم ما يميز نثره غناه اللفظي وإحكام صناعته وإشراق أسلوبه، وهو من أهم من تعرضوا لوصف الحياة في الريف الإسباني، وهو إلى جانب آثاره الفنية ناقد أدبي من الطراز الأول. مقارنا بينه وبين نص «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم.
فيما سنجابه كذلك، وعلى سبيل المثال اسم الشاعر الإسباني العظيم فيدريكو جارثيا لوركا Federico Garcia Lorca الذي ولد في قرية من إقليم غرناطة سنة 1898 وقتل في سنة 1936 ويعتبر ديوانه «أناشيد الغجر» من خير المجموعات الشعرية الإسبانية في القرن العشرين، وله روايات شعرية مسرحية يتجه فيها إلى موضوعات قديمة إلا أنه يضفي عليها إنسانية حارة لا تخلو من المبالغة في التصوير، لا سيما في «المأساة»، إلى حد يجعله قريبًا من الكتّاب الإغريق للمسرحيات الدرامية. ويمتاز أدبه كذلك بنزعة روحية طاغية وبالألوان العنيفة الصارخة.
-5-
وهكذا نجد أن اسم كاتبين عظيمين من كتاب أدبنا العربي الحديث تترجم أعمالهما إلى الإسبانية، وتُقرأ في ضوء التحليل والمقارنة بنصوص إسبانية كتبها أعلام الأدب الإسباني، في نفس الفترة، ونرى بالدليل النصي والتحليل النقدي مدى فرادة وخصوصية هذه النصوص، إن جماليًا وتشكيلًا لغويًا، وإن على مستوى المضامين الإنسانية والمعالجة الاجتماعية والفكرية والسياسية.