تعبٌ عادي
السبت / 25 / ربيع الأول / 1444 هـ - 17:45 - السبت 22 أكتوبر 2022 17:45
في منتصف الطريق بين البيت والعالم، بين الهرولة والمشي، يحدث أن تخذل كل المنبهات والمواعيد في غفوة صغيرة مُسترقة على حدود النهار وأن تنام واقفًا على ظلك من التعب.
أنت أيها الضمير المخاطب في هذه الأثناء، أنت المطرود من «الهُنيهة» دائمًا منذ أن خلعت طفولتك في مياه الأفلاج الرتيبة تحت ظلال النخيل والتحقت في أقرب سيارة بطوابير العالم المكتظة على الشارع العام وهي تتدفق تباعًا لبلوغ المدينة، أنت المطارد الآن بالدقائق والثواني وهي تنزف من كيس الرمل، يحصيك ما لا تحصيه في منتصف الوقت، في منتصف الطريق الذي تطويه من تحت قدميك آلات كهربائية تهدر في مكان ما، ثم تقف لتسأل عن حقك في الوقوف قليلًا خارج هذا السباق الضمني على طريق يجري بلا هوادة!
لكنك لست مترفًا إلى الحد الذي يحق لك فيه أن تنحاز لظلال الأرصفة الآمنة تعبيرًا عن موقفك الوجودي من الطريق، أو أن تعلن استسلامك كخيار شخصي لتشهره غدًا على أي جبل تختاره.
إنك تعي تمامًا، وبمبالغات مرعبة أحيانًا، أي تهديد لسلامتك سيمثله مجرد الوقوف أو الانسحاب إذا ما أغرتك جماليات الهزيمة في الشعر. عليك أن تتعثر مرارًا بجسدك المنهك بالاحتمالات والأخطاء في يومك الطويل، عليك أن تتجاوز آلامه وشكواه المكبوتة التي يكون اعتراف العقل بها وتصديقها مدعاة لكسل مرضي خبيث وتداعٍ مفضٍ إلى الانهيار.
عليك أن تقطع مزيدًا من الصحو بين الذات والآخرين، بين حيزك الخاص في غرفتك الحميمة والعالم الذي يجتاح عزلة كل منا على حدة، إلى حد اختناق الداخل بالخارج والاغتراب السلس والطوعي عن كل ما هو أولى وأول.
يتضخم رنين غامض في قلبك بوحشية النواقيس في تمام الساعة الثامنة صباحًا. تلتفت إلى ساعة الحائط التي لم تزل في مكانها منذ الأزل، تدور وتطحن الأيام والسنوات والتاريخ بين عقاربها الثلاث دون أن تجرؤ يدٌ حازمة على إيقافها.
تتذكر يوم خلعت ساعة اليد المهداة عن معصمك في سن مبكرة لتطلق يدك بخفة في الفراغ، ولتحرر طفولتك من عبء الوقت الذي ظلت تلك الساعة الرقمية تُقسِّطه لك بالثواني وأجزائها.
كانت تلك الساعة فاتحة لمسلسل التحولات الدرامية في علاقتك بالوقت، تتذكرها الآن وأنت محاصر في هذه الاستراحة المختلسة لترتيب المشاعر والتقاط الأنفاس حيث تلتقي بذاتك على سُلَّم الصعود والهبوط، مرةً أو مرات متباعدة في اليوم الواحد، كزوجين غريبين يلتقيان وينفصلان على أبواب المداخل والمخارج.
أنت أيها الضمير المخاطب وحدك من يسمع ويرى الآن أين تهبط المطارق، وحدك في معرض الثنائيات هذه واشتباك الأضداد ببعضها، حائر في منتصف الكلمات وأشيائها، في تفاصيلك الشخصية الصغرى التي تخصك وحدك دون العالم، حيث يحق لك الارتخاء وممارسة تعبك دون أن تُبطئ دورة الإنتاج: تشرع في كتابة القصيدة وتنسحب منها قبل اكتمال كواكبها إلى قصيدة أخرى، تبدأ في قراءة الرواية ثم تُهملها في منتصف الصفحات مستجيباً لإغراء عنوان جديد على الرف، وبالعادة نفسها تنسى القهوة باردةً على طاولة المقهى لتتأمل زجاجة الماء التي تملأ نصفها الفارغ بالشمس وتغادر.
تلك عاداتك السرية الحرة في تعبيرك عن تعبك الحر وأنت تسقط وتتساقط في سبيل «المستقبل» الذي كاد التعليم العصري أن يحوله إلى أسطورة مرعبة تحاصر مخيلتك وتغذي كثافة الضباب المطبِق حول تلك الأرض البعيدة والمزروعة بالأحلام والأوهام.
نحن معك أيها الضمير المخاطب في هذه العجالة، نفرش حاضرنا طريقًا نحو تخوم تلك الأرض المجهولة، وننسى في خضم هذا المشي اللاهث أين نسينا طفولتنا، وكيف كبرنا على صورنا العائلية في الرفوف والجدران، ومتى استطالت نخيل الجانبين على الشارع العام بين القرية والمدينة!
نحن معك ومثلك، لا وقت لدينا لنُمعن النظر في ملامحنا الباهتة على مرايا الصباح، نشيح النظر عما تقدم أو تأخر من أعمارنا التي تزداد نقصانًا ونهجر ملامحنا القديمة التي تشققت على هذه المرايا. ونحن كل الأموات الذي يصحون معك في هذا الفجر البارد ليغسلوا وجوههم على عجل من كوابيس البارحة قبل أن يهرعوا إلى سياراتهم ليلتحقوا بالشمس التي تسبقهم إلى مكتب الوظيفة، مُرجئين إلى حين سؤالهم الهامس عن المعنى والجدوى، ريثما تنتهي حالة الطوارئ المستمرة هذه، ويواصلون «تقنيات العيش» في دوائر لا تنتهي.
أنت أيها الضمير المخاطب في هذه الأثناء، أنت المطرود من «الهُنيهة» دائمًا منذ أن خلعت طفولتك في مياه الأفلاج الرتيبة تحت ظلال النخيل والتحقت في أقرب سيارة بطوابير العالم المكتظة على الشارع العام وهي تتدفق تباعًا لبلوغ المدينة، أنت المطارد الآن بالدقائق والثواني وهي تنزف من كيس الرمل، يحصيك ما لا تحصيه في منتصف الوقت، في منتصف الطريق الذي تطويه من تحت قدميك آلات كهربائية تهدر في مكان ما، ثم تقف لتسأل عن حقك في الوقوف قليلًا خارج هذا السباق الضمني على طريق يجري بلا هوادة!
لكنك لست مترفًا إلى الحد الذي يحق لك فيه أن تنحاز لظلال الأرصفة الآمنة تعبيرًا عن موقفك الوجودي من الطريق، أو أن تعلن استسلامك كخيار شخصي لتشهره غدًا على أي جبل تختاره.
إنك تعي تمامًا، وبمبالغات مرعبة أحيانًا، أي تهديد لسلامتك سيمثله مجرد الوقوف أو الانسحاب إذا ما أغرتك جماليات الهزيمة في الشعر. عليك أن تتعثر مرارًا بجسدك المنهك بالاحتمالات والأخطاء في يومك الطويل، عليك أن تتجاوز آلامه وشكواه المكبوتة التي يكون اعتراف العقل بها وتصديقها مدعاة لكسل مرضي خبيث وتداعٍ مفضٍ إلى الانهيار.
عليك أن تقطع مزيدًا من الصحو بين الذات والآخرين، بين حيزك الخاص في غرفتك الحميمة والعالم الذي يجتاح عزلة كل منا على حدة، إلى حد اختناق الداخل بالخارج والاغتراب السلس والطوعي عن كل ما هو أولى وأول.
يتضخم رنين غامض في قلبك بوحشية النواقيس في تمام الساعة الثامنة صباحًا. تلتفت إلى ساعة الحائط التي لم تزل في مكانها منذ الأزل، تدور وتطحن الأيام والسنوات والتاريخ بين عقاربها الثلاث دون أن تجرؤ يدٌ حازمة على إيقافها.
تتذكر يوم خلعت ساعة اليد المهداة عن معصمك في سن مبكرة لتطلق يدك بخفة في الفراغ، ولتحرر طفولتك من عبء الوقت الذي ظلت تلك الساعة الرقمية تُقسِّطه لك بالثواني وأجزائها.
كانت تلك الساعة فاتحة لمسلسل التحولات الدرامية في علاقتك بالوقت، تتذكرها الآن وأنت محاصر في هذه الاستراحة المختلسة لترتيب المشاعر والتقاط الأنفاس حيث تلتقي بذاتك على سُلَّم الصعود والهبوط، مرةً أو مرات متباعدة في اليوم الواحد، كزوجين غريبين يلتقيان وينفصلان على أبواب المداخل والمخارج.
أنت أيها الضمير المخاطب وحدك من يسمع ويرى الآن أين تهبط المطارق، وحدك في معرض الثنائيات هذه واشتباك الأضداد ببعضها، حائر في منتصف الكلمات وأشيائها، في تفاصيلك الشخصية الصغرى التي تخصك وحدك دون العالم، حيث يحق لك الارتخاء وممارسة تعبك دون أن تُبطئ دورة الإنتاج: تشرع في كتابة القصيدة وتنسحب منها قبل اكتمال كواكبها إلى قصيدة أخرى، تبدأ في قراءة الرواية ثم تُهملها في منتصف الصفحات مستجيباً لإغراء عنوان جديد على الرف، وبالعادة نفسها تنسى القهوة باردةً على طاولة المقهى لتتأمل زجاجة الماء التي تملأ نصفها الفارغ بالشمس وتغادر.
تلك عاداتك السرية الحرة في تعبيرك عن تعبك الحر وأنت تسقط وتتساقط في سبيل «المستقبل» الذي كاد التعليم العصري أن يحوله إلى أسطورة مرعبة تحاصر مخيلتك وتغذي كثافة الضباب المطبِق حول تلك الأرض البعيدة والمزروعة بالأحلام والأوهام.
نحن معك أيها الضمير المخاطب في هذه العجالة، نفرش حاضرنا طريقًا نحو تخوم تلك الأرض المجهولة، وننسى في خضم هذا المشي اللاهث أين نسينا طفولتنا، وكيف كبرنا على صورنا العائلية في الرفوف والجدران، ومتى استطالت نخيل الجانبين على الشارع العام بين القرية والمدينة!
نحن معك ومثلك، لا وقت لدينا لنُمعن النظر في ملامحنا الباهتة على مرايا الصباح، نشيح النظر عما تقدم أو تأخر من أعمارنا التي تزداد نقصانًا ونهجر ملامحنا القديمة التي تشققت على هذه المرايا. ونحن كل الأموات الذي يصحون معك في هذا الفجر البارد ليغسلوا وجوههم على عجل من كوابيس البارحة قبل أن يهرعوا إلى سياراتهم ليلتحقوا بالشمس التي تسبقهم إلى مكتب الوظيفة، مُرجئين إلى حين سؤالهم الهامس عن المعنى والجدوى، ريثما تنتهي حالة الطوارئ المستمرة هذه، ويواصلون «تقنيات العيش» في دوائر لا تنتهي.