أفكار وآراء

القواعد الجديدة في عالم «ما بعد الليبرالية الجديدة»

ترجمة - قاسم مكي -

قبل 40 عاما وُلِدَت ثورة ريجان-تاتشر. فالضرائب خُفِّضت والنقابات سُحِقَت والأسواق حُرِّرَت ورأس المال العالمي أطلق من عقاله. لكن البندول الاقتصادي يتأرجح (الأمور تتغير). ففي الأسابيع الأخيرة صار من الواضح جدًا أن أي شيء له علاقة ولو بعيدة بنظرية تساقط المنافع مؤذٍ سياسيا. (حسب هذه النظرية الإعفاءات والفوائد الضريبية للشركات والأثرياء ستتساقط منافعها على الجميع وتفيد كل أحد في نهاية المطاف وذلك من خلال حفز نمو الاقتصاد - المترجم).

أوضح مثال لذلك بالطبع رد الفعل العنيف ضد الخطة الغربية لرئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس التي تستهدف خفض الضرائب على الأثرياء بعدما أُعلِن عن بند إنفاق رئيسي لدعم الطاقة.

لم تعد سياسة تراس الاقتصادية (تراسونمويكس) مطروحة الآن وقيادة رئيسة الوزراء نفسها في خطر. لكن ليست بريطانيا وحدها هي التي تواجه أفول الليبرالية الجديدة. أخبرني مسؤول في إدارة بايدن التقيتُ به مؤخرًا أن رؤساء تنفيذيين عديدين يأتون الآن إلى واشنطن ويسألون «أين نستثمر. هل نذهب إلى فيتنام أم المكسيك؟ وفي أي قطاعات تريدون منا أن نستثمر؟»

(بحسب موسوعة انفستوبيديا، الليبرالية الجديدة نموذج سياسات اقتصادية وسياسية يفضِّل المشروع الخاص ويسعى إلى نقل السيطرة على عوامل الاقتصاد من الحكومة إلى القطاع الخاص. من أساطينها ميلتون فريدمان الأمريكي وفريدرك هايك النمساوي. ارتبط تطبيقها برئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر والرئيس الأمريكي رونالد ريجان في سبعينيات القرن الماضي. ومؤخرا اقترنت بسياسة التقشف ومحاولات خفض الإنفاق الحكومي على البرامج الاجتماعية - المترجم).

وفي حين لم تبدأ الحكومة بعد في انتقاء الكاسبين والخاسرين انتقل البيت الأبيض إلى حقبة ما بعد الليبرالية الجديدة. ويستعد عديدون في مجتمع الأعمال لذلك أيضا. قد لا يحب رؤساء الشركات فكرة تخلي العالم عن العولمة وتعاظم السيطرة الحكومية وتنامي قوة النقابات. لكن يمكنهم دائمًا إيجاد سبل كسب المال طالما استوعبوا قواعد السوق.

إذن ما هي القواعد الجديدة؟ طرحت إدارة بايدن مؤخرا خطة واضحة للاقتصاد الذي تريده. شملت الخطة خمسة عناصر رئيسية. أحدها تمكين العاملين، وسعت لتحقيق ذلك باستخدام الموازنات الفيدرالية لدعم العاملين المنتظمين في نقابات. عنصر آخر وهو الاستفادة بأكبر قدر ممكن من السياسة المالية في الكونجرس المستقطَب لدعم العائلات العاملة في مجالات مثل الرعاية الصحية ورعاية الأطفال وهي خدمات أصبحت غير متاحة باطراد للعديد من الأمريكيين.

لكن وكما ذكرت لي وزيرة التجارة جينا ريموندو قبل أشهر قليلة يجب ألا يقتصر دور الحكومة على خفض الضرائب وإعادة توزيع الثروة. تريد الإدارة الأمريكية الحالية أن تلعب دورًا أكبر في توجيه «جانب العرض» للقطاع الخاص. إنها تحديدا تريد الحث على صناعة الأشياء ليس فقط من خلال شعار «شراء المنتجات الأمريكية» لكن عبر تحول أكثر جذرية في بؤرة السياسات من التوزيع إلى الإنتاج.

هذا يعني السياسة الصناعية. وفي حين أنه لا توجد حتى الآن استراتيجية مبلورة في واشنطن لكن هنالك مؤشرات واضحة على نهاية اقتصاديات «دعه يعمل دعه يَمُرّ».

أحد هذه المؤشرات حقيقة أن شركات عديدة سيلزمها عما قريب الاختيار بين الولايات المتحدة والصين. ففك الارتباط الرسمي بين البلدين يتسارع. وهنالك عدد قياسي من الوظائف الأمريكية التي تمت استعادتها من الصين والنداءات الداعية لإصدار قوانين أكثر صرامة حول نقل التكنولوجيا.

مؤشر آخر هو ازدياد أهمية المرونة والاحتياطيات في سلاسل التوريد قياسا بأي وقت مضى. قبل أيام قليلة فقط صارت «ميكرون» ثاني أكبر شركة بعد «انتل» تعلن عن استثمار رئيسي في أشباه الموصلات بالولايات المتحدة خصصت بموجبها 100 بليون دولار لإنشاء مَسْبَك جديد في ولاية نيويورك. أيضًا الاستثمار الفيدرالي في السيارات الكهربائية يجلب المزيد من الوظائف للمناطق المتضررة في الجنوب والوسط الغربي للولايات المتحدة. ربما يزيد الدولار القوي من صعوبة تحقيق آمال الإدارة الأمريكية في تطوير اقتصاد صناعي وتصديري أكبر حجمًا لكن التكلفة المنخفضة لمدخلات الطاقة في الولايات المتحدة مقارنة بأوروبا في الوقت الحالي ستعينها على ذلك.

دعم «الوطنية» الاقتصادية الآن هو المبدأ المعتمد لدى الديمقراطيين والجمهوريين على السواء في واشنطن.

لقد اشتهر عن روبرت لايتهايزر الممثل التجاري السابق للولايات المتحدة في عهد ترامب تحبيذ التخلص من العجز التجاري لبلاده. لكن رو خانا، عضو الكونجرس عن الحزب الديمقراطي والنجم الطالع في دوائر التقدميين، دعا مؤخرًا إلى الشيء نفسه. ونادى بتحقيق الولايات المتحدة فائضا تجاريا مع باقي بلدان العالم بحلول عام 2035.

قال رو خانا «العجوزات التجارية في بعض السنوات لا بأس بها عندما تتوازن مع فوائض تجارية في سنوات أخرى. لكن الولايات المتحدة ظلت في عجز تجاري مستمر منذ عام 1975». وهو يعتقد أن على الحكومة المساعدة على تصحيح ذلك بتقديم قروض بفوائد صفرية للمصانع والتوسع في استخدام المشتريات الفيدرالية لتأمين الأسواق.

يوم 5 أكتوبر سمعتُ رو خانا وهو يتحدث في حفل تدشين مبادرة مدرسة هارفارد كنيدي «تصور الاقتصاد من جديد» بقيادة الاقتصاديَّين داني رودريك وجوردون هانسون. تهدف هذه المبادرة إلى إحلال سياسات الليبرالية الجديدة بشيء جديد. وهي واحدة من برامج عديدة من هذه الشاكلة في الجامعات الكبرى حول الولايات المتحدة. وتتنافس العديد من هذه المؤسسات الأكاديمية للتحول إلى مركز إشعاع لتفكير اقتصادي جديد وذلك تماما كما كانت جامعة كاليفورنيا مركزًا لليبرالية الجديدة.

لخَّص رو خانا التحدي الراهن بقوله «إذا لم نفهم الاقتصاد بشكل صحيح لن تكون لدينا ديمقراطية متعددة الأعراق». هذا التعبير نفسه يمثل شيئا جديدا. ففي الماضي كان هنالك فصل بين الجدل حول الإنصاف العرقي والمساواة الطبقية في الولايات المتحدة. لكن الديمقراطيين يحاولون باطراد الربط بين الاثنين في سعيهم للتوصل إلى ملامح اقتصاديات «ما بعد الليبرالية الجديدة».

كان ذلك موضوع منتدى صاخب انعقد مؤخرا تحت رعاية معهد روزفلت واحتشد فيه الساسة التقدميون (العديدون منهم من داخل الإدارة الأمريكية) لمناقشة تفاصيل السياسة الصناعية للولايات المتحدة.

هذه التفاصيل ليست واضحة تماما. لكن هنالك شيء واحد واضح وهو أن كل هذا نقيضُ سياسةِ تساقط المنافع.

رنا فوروهار - مؤلفة أمريكية ومحررة مشاركة في الفاينانشال تايمز ومعلقة اقتصادية بشبكة سي ان ان.

ترجمة خاصة لـ«$» عن الفاينانشال تايمز