الفوضى الخلّاقة .. والشتاء الأوروبي
الاثنين / 20 / ربيع الأول / 1444 هـ - 18:22 - الاثنين 17 أكتوبر 2022 18:22
في مقال «التويتر.. والفوضى الخلّاقة» [«عمان»: 15/ 11/ 2021م].. ذهبتُ إلى أنه لا توجد نظرية للفوضى الخلّاقة، وإنما هناك أحداث للفوضى، يأتي من يستغلها لصالحه، من باب تحويل المشكلات إلى مكاسب. وأما ما نسب إلى كونداليزا رايس بأنها استعملت هذا المصطلح عام 2005م فلم يثبت. فالفوضى الخلّاقة.. ليست نظرية انتجتها أمريكا، وإنما هي حالة قائمة في الاجتماع البشري، فعندما تسود أحداث فوضوية في المجتمعات؛ يأتي من يصطاد في مائها العكر لصالحه. فمثلاً؛ تردي الأوضاع في المنطقة العربية لم تبدأ في التسعينات، وإنما يعود إلى الحقبة الاستعمارية الأوروبية وتمكّن الأنظمة المستبدة من الحكم، بل لا ننسى الجمود المطبق بالمسلمين منذ القرن الخامس الهجري. لكن صعود نجم الأمريكان وهيمنتهم على العالم؛ أورثهم المنطقة وما فيها من علل، وما أبرئهم من استعمال العنف الذي أدى إلى استمرار تدهور الأوضاع. الأمريكان حالهم كغيرهم يسعون لاستغلال الأوضاع القائمة، ولو أدى إلى تدمير المنطقة. وأخطر استغلال لهم كان عقب هجمات 11 سبتمبر 2001م، حيث سعت أمريكا إلى نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذا ما أعلنت عنه رايس عام 2005م، طبعاً؛ دون أن تستعمل مصطلح «الفوضى الخلّاقة»، على اعتبار أنها حالة موجودة بالأساس لدى البشر. ولكن كيف يمكن نشر الديمقراطية في مجتمع يرزح تحت الاستبداد منذ أمد طويل، إن محاولة فرض الديمقراطية أدت إلى دمار ماحق، عندما انفجر «الربيع العربي» مختتم 2010م، وكان من ثماره المرة تحطم دول، وتفكك مجتمعات، وقتلى بالآلاف، ونزوح الناس بالملايين من أوطانهم. ورغم مرور أكثر من عقد على اشتعاله؛ إلا أن الأوضاع لم تستقر، بل لا يزال التدهور مستمراً.
(ما أشبه اليوم بالبارحة).. فها هي آثار الحرب الروسية الأوكرانية تتداعى يوماً إثر يوم، وكل طرف يحاول إن يستغلها، أقصد بالذات الأمريكان والروس، وإذا كانت أوكرانيا هي أرض المعركة؛ فإن أوروبا هي أرض الفوضى القادمة، والعالم من ورائها، فاختلالها لن يكون محدوداً. وأما الأمريكان فهم يحاولون استغلال الحالة قبل وقوع الفوضى، من خلال الرهاب الذي أصاب أوروبا بسبب خفض روسيا توريد الغاز، وازداد القلق بتفجير خط أنابيب غاز نورد ستريم. فالغاز الأمريكي.. هو البديل، بيد أن أمريكا لن تدفئ أوروبا بأسعار الجمعية التعاونية، وإنما على الأوروبيين أن يدفعوا الثمن غالياً، فأمريكا -كما قيل- تحاول أن تتجاوز أزمتها الاقتصادية على حساب أوروبا.
روسيا.. فيما يبدو؛ تخطط لرفع منسوب الفوضى التي بدأت بوادرها منذ سنوات، حيث خرج الأوروبيون في احتجاجات عدة مرات، أظهرها «حركة السترات الصفراء» بفرنسا، التي امتدت إلى بلدان أخرى؛ أوروبية وغير أوروبية، وكان من أسبابها ارتفاع أسعار الوقود، وزيادة الضرائب، وانخفاض القيمة الشرائية لليورو.
لقد رأى الروس في خضم معركتهم في أوكرانيا؛ أنه حان الوقت لاهتبال هذه اللحظة التأريخية، فعملوا على خنق أوروبا بخفض إمدادات الطاقة عنها لتحييدها في المعركة، وسيزداد الخنق في الشتاء القادم. والاستفادة الأكبر.. هي السعي إلى الصعود السياسي بمزاحمة أمريكا في هيمنتها على العالم، ولأن روسيا تدرك بأنها لا تستطيع الآن شن حرب مباشرة على أمريكا، سواءً أكانت سياسية أم اقتصادية، فضلاً أن تكون عسكرية، فإنها رأت في إزاحة الأوروبيين عن الحضور العالمي خطوة حاسمة في التقدم نحو تحقيق الهيمنة، ويبدو أن الاتحاد الأوروبي لم تكن كل جوانبه مشرقة على الأوروبيين، فهناك مشاكل عديدة؛ منها منظومة الضرائب والسخط الشعبي الرافض لها، ولعل بريطانيا قد لمست ذلك، فكان من أسباب خروجها من الاتحاد، بل الذي أتوقعه أن الاتحاد -ما لم يُعد بناؤه- مهدد بمزيد من التفكك، وربما أن هذا مما ينتظره الرئيس الروسي بوتين، ففي عالم السياسي الفُرقة ذهاب للريح.
لا تقتصر الأزمة التي يرقبها بوتين لإحداث الفوضى القادمة على ما يخلفه ارتفاع أسعار الغاز على اختلال الميزان الاقتصادي، فهناك أزمات أخرى تتحرك على أرض الواقع؛ منها:
- الركود الكبير الذي تركته جائحة كورونا كوفيد19، والذي أبطأ من حركة الاقتصاد العالمي، ورغم أن رئة العالم بدأت تتنفس طبيعياً بانخفاض منسوب الجائحة، لكن لا زالت تبعاتها الاقتصادية قائمة، وقد أوهنت جسد العالم، وكانت أوروبا من أكثر المتضررين.
- موجة القحط الشديدة التي أصابت هذا العام أوروبا، والتي لم تشهدها منذ قرون، جاءت على غير استعداد لمواجهتها فأصابت حوالي 47% من أوروبا، بحسب مركز الأبحاث المشترك التابع للمفوضية الأوروبية، وهي نسبة عالية وخطيرة. أوقفت الحركة في بعض الأنهار الأوروبية.
- موت الملكة إليزابيث الثانية السياسية المخضرمة عالمياً، وذات الكاريزما التي أظلت دول الكومنولث بتاجها الاستعماري، وبتولي ابنها الملك تشارلز الثالث عرش المملكة البريطانية، وميوله الثقافية والبيئية أكثر من السياسية، قد يؤدي إلى انفراط عقد الكومنولث، لاسيما أن الملكية في بريطانيا تتعرض إلى استفتاءات شعبية مستمرة لبقائها. إن الفراغ الذي ستتركه بريطانيا في ظل التحولات السياسية المتسارعة، من المتوقع أن يستفيد منه بوتين، ويجعل البديل الروسي قريباً من دول هذا الحلف، ليس بإنشاء حلف جديد، وهذا وارد، وإنما بتحقيق روسيا بعض المنافع التي تفقدها أية دولة بانحلال الكومنولث، مما قد تثير تداعياتها الفوضى في أوروبا.
- تعلم روسيا والصين أن صعود إحداهما عالمياً يؤثر سلباً على الأخرى، ولكن في عملية الصعود ذاتها؛ يجري التعاون بينهما في مواجهة القطب الأمريكي، لاسيما أن بين روسيا وأمريكا خصاماً إيديولوجياً لا يوجد بين الروس والصينيين. إن التنسيق بينهما للنيل من هيمنة أمريكا يمر عبر وضع أوروبا تحت أجنحتهما، أو إضعافها، وكلا الحالين قد يؤدي إلى فوضى.
- التنافس بين اليسار واليمين الأوروبيَين يشكل تحدياً كبيراً للساسة الأوربيين، بإحداث خلل عميق في إدارات دولهم. ومن المفارقة العجيبة.. أن كلا الطرفين قد يجد روسيا قريبة منه، فبإرث «روسيا السوفيتية» يمكن التعاطف مع اليسار، وبنظرية «روسيا الدوجينية» يمكن شد عضد اليمين.
- الخلل في التركيبة السكانية؛ بتنوع الأعراق والأديان، قد يكون مواتياً لبوتين في إثارة الفوضى، وبوصول جورجا ملوني، المسيحية المحافظة كما تصف نفسها، واليمينية المطّرفة الكارهة للأجانب كما يصفها خصومها، لحكم إيطاليا، فإن إرهاصاً لهذا الخلل بدأ يطفو على السطح.
- بمحاولة اغتيال الفيلسوف الروسي إلكسندر دوجين «عقل بوتين»، وذهاب ابنته داريا ضحيتها، أصبح باب الاغتيالات مفتوحاً، ويمكن أن يلجه كل طرف بطريقته، وهذا من أخطر أبواب الفوضى.
مع كل التداعيات التي قد تحصل؛ لا يمكن لأحد أن يتكهن بالتطورات التي تعقبها، وإذا كانت فرصة نشوب حرب نووية ضعيفة، فإن قيام فوضى في أوروبا قد يتجاوز الدخول في «شتاء أوروبي» حالك إلى «شتاء عالمي» مضطرب، وفقاً لـ«نظرية سقوط أحجار الدومينو»، فكثير من الدول تمر بأزمات اقتصادية؛ تنتظر شرارة تشعل فتيل الاضطراب فيها. ولعل هذا ما ينتظره الروس لكي يفرضوا التحول في الخارطة الجيوسياسية العالمية، بحيث تجعل من روسيا في مرحلة أفضل.
لعبة الفوضى الخلّاقة.. لا تلعبها روسيا وحدها، بل قد تنتهزها أمريكا وتقلب ظهر المجن عليها، وهذا ما تظهر بوادره في تحريض الشباب الروس على رفض التعبئة الجزئية للحرب التي أعلنها بوتين، والحصار الذي يفرضه الغرب عليها، وعلى كلا الحالين فأوروبا مهددة بـ«شتاء أوروبي» ملتهب ينصهر فيه الجليد. كل هذه الأحداث تأتي في محاولة إحداث فوضى قد تواتيها الظروف لتغيير موازين القوى في المعركة، وربما في المواقع السياسية عالمياً. لا نعلم لمن تكون عاقبتها، إلا أن محرضات حصولها تزداد لحظة بلحظة، والشتاء القادم هو الفيصل.
(ما أشبه اليوم بالبارحة).. فها هي آثار الحرب الروسية الأوكرانية تتداعى يوماً إثر يوم، وكل طرف يحاول إن يستغلها، أقصد بالذات الأمريكان والروس، وإذا كانت أوكرانيا هي أرض المعركة؛ فإن أوروبا هي أرض الفوضى القادمة، والعالم من ورائها، فاختلالها لن يكون محدوداً. وأما الأمريكان فهم يحاولون استغلال الحالة قبل وقوع الفوضى، من خلال الرهاب الذي أصاب أوروبا بسبب خفض روسيا توريد الغاز، وازداد القلق بتفجير خط أنابيب غاز نورد ستريم. فالغاز الأمريكي.. هو البديل، بيد أن أمريكا لن تدفئ أوروبا بأسعار الجمعية التعاونية، وإنما على الأوروبيين أن يدفعوا الثمن غالياً، فأمريكا -كما قيل- تحاول أن تتجاوز أزمتها الاقتصادية على حساب أوروبا.
روسيا.. فيما يبدو؛ تخطط لرفع منسوب الفوضى التي بدأت بوادرها منذ سنوات، حيث خرج الأوروبيون في احتجاجات عدة مرات، أظهرها «حركة السترات الصفراء» بفرنسا، التي امتدت إلى بلدان أخرى؛ أوروبية وغير أوروبية، وكان من أسبابها ارتفاع أسعار الوقود، وزيادة الضرائب، وانخفاض القيمة الشرائية لليورو.
لقد رأى الروس في خضم معركتهم في أوكرانيا؛ أنه حان الوقت لاهتبال هذه اللحظة التأريخية، فعملوا على خنق أوروبا بخفض إمدادات الطاقة عنها لتحييدها في المعركة، وسيزداد الخنق في الشتاء القادم. والاستفادة الأكبر.. هي السعي إلى الصعود السياسي بمزاحمة أمريكا في هيمنتها على العالم، ولأن روسيا تدرك بأنها لا تستطيع الآن شن حرب مباشرة على أمريكا، سواءً أكانت سياسية أم اقتصادية، فضلاً أن تكون عسكرية، فإنها رأت في إزاحة الأوروبيين عن الحضور العالمي خطوة حاسمة في التقدم نحو تحقيق الهيمنة، ويبدو أن الاتحاد الأوروبي لم تكن كل جوانبه مشرقة على الأوروبيين، فهناك مشاكل عديدة؛ منها منظومة الضرائب والسخط الشعبي الرافض لها، ولعل بريطانيا قد لمست ذلك، فكان من أسباب خروجها من الاتحاد، بل الذي أتوقعه أن الاتحاد -ما لم يُعد بناؤه- مهدد بمزيد من التفكك، وربما أن هذا مما ينتظره الرئيس الروسي بوتين، ففي عالم السياسي الفُرقة ذهاب للريح.
لا تقتصر الأزمة التي يرقبها بوتين لإحداث الفوضى القادمة على ما يخلفه ارتفاع أسعار الغاز على اختلال الميزان الاقتصادي، فهناك أزمات أخرى تتحرك على أرض الواقع؛ منها:
- الركود الكبير الذي تركته جائحة كورونا كوفيد19، والذي أبطأ من حركة الاقتصاد العالمي، ورغم أن رئة العالم بدأت تتنفس طبيعياً بانخفاض منسوب الجائحة، لكن لا زالت تبعاتها الاقتصادية قائمة، وقد أوهنت جسد العالم، وكانت أوروبا من أكثر المتضررين.
- موجة القحط الشديدة التي أصابت هذا العام أوروبا، والتي لم تشهدها منذ قرون، جاءت على غير استعداد لمواجهتها فأصابت حوالي 47% من أوروبا، بحسب مركز الأبحاث المشترك التابع للمفوضية الأوروبية، وهي نسبة عالية وخطيرة. أوقفت الحركة في بعض الأنهار الأوروبية.
- موت الملكة إليزابيث الثانية السياسية المخضرمة عالمياً، وذات الكاريزما التي أظلت دول الكومنولث بتاجها الاستعماري، وبتولي ابنها الملك تشارلز الثالث عرش المملكة البريطانية، وميوله الثقافية والبيئية أكثر من السياسية، قد يؤدي إلى انفراط عقد الكومنولث، لاسيما أن الملكية في بريطانيا تتعرض إلى استفتاءات شعبية مستمرة لبقائها. إن الفراغ الذي ستتركه بريطانيا في ظل التحولات السياسية المتسارعة، من المتوقع أن يستفيد منه بوتين، ويجعل البديل الروسي قريباً من دول هذا الحلف، ليس بإنشاء حلف جديد، وهذا وارد، وإنما بتحقيق روسيا بعض المنافع التي تفقدها أية دولة بانحلال الكومنولث، مما قد تثير تداعياتها الفوضى في أوروبا.
- تعلم روسيا والصين أن صعود إحداهما عالمياً يؤثر سلباً على الأخرى، ولكن في عملية الصعود ذاتها؛ يجري التعاون بينهما في مواجهة القطب الأمريكي، لاسيما أن بين روسيا وأمريكا خصاماً إيديولوجياً لا يوجد بين الروس والصينيين. إن التنسيق بينهما للنيل من هيمنة أمريكا يمر عبر وضع أوروبا تحت أجنحتهما، أو إضعافها، وكلا الحالين قد يؤدي إلى فوضى.
- التنافس بين اليسار واليمين الأوروبيَين يشكل تحدياً كبيراً للساسة الأوربيين، بإحداث خلل عميق في إدارات دولهم. ومن المفارقة العجيبة.. أن كلا الطرفين قد يجد روسيا قريبة منه، فبإرث «روسيا السوفيتية» يمكن التعاطف مع اليسار، وبنظرية «روسيا الدوجينية» يمكن شد عضد اليمين.
- الخلل في التركيبة السكانية؛ بتنوع الأعراق والأديان، قد يكون مواتياً لبوتين في إثارة الفوضى، وبوصول جورجا ملوني، المسيحية المحافظة كما تصف نفسها، واليمينية المطّرفة الكارهة للأجانب كما يصفها خصومها، لحكم إيطاليا، فإن إرهاصاً لهذا الخلل بدأ يطفو على السطح.
- بمحاولة اغتيال الفيلسوف الروسي إلكسندر دوجين «عقل بوتين»، وذهاب ابنته داريا ضحيتها، أصبح باب الاغتيالات مفتوحاً، ويمكن أن يلجه كل طرف بطريقته، وهذا من أخطر أبواب الفوضى.
مع كل التداعيات التي قد تحصل؛ لا يمكن لأحد أن يتكهن بالتطورات التي تعقبها، وإذا كانت فرصة نشوب حرب نووية ضعيفة، فإن قيام فوضى في أوروبا قد يتجاوز الدخول في «شتاء أوروبي» حالك إلى «شتاء عالمي» مضطرب، وفقاً لـ«نظرية سقوط أحجار الدومينو»، فكثير من الدول تمر بأزمات اقتصادية؛ تنتظر شرارة تشعل فتيل الاضطراب فيها. ولعل هذا ما ينتظره الروس لكي يفرضوا التحول في الخارطة الجيوسياسية العالمية، بحيث تجعل من روسيا في مرحلة أفضل.
لعبة الفوضى الخلّاقة.. لا تلعبها روسيا وحدها، بل قد تنتهزها أمريكا وتقلب ظهر المجن عليها، وهذا ما تظهر بوادره في تحريض الشباب الروس على رفض التعبئة الجزئية للحرب التي أعلنها بوتين، والحصار الذي يفرضه الغرب عليها، وعلى كلا الحالين فأوروبا مهددة بـ«شتاء أوروبي» ملتهب ينصهر فيه الجليد. كل هذه الأحداث تأتي في محاولة إحداث فوضى قد تواتيها الظروف لتغيير موازين القوى في المعركة، وربما في المواقع السياسية عالمياً. لا نعلم لمن تكون عاقبتها، إلا أن محرضات حصولها تزداد لحظة بلحظة، والشتاء القادم هو الفيصل.