أعمدة

السينما بين المخرج والمصوِّر

 


من ميزات كتاب 'أفلامي مع عاطف الطيب' للمصوّر السينمائي سعيد شيمي (الهالة للنشر والتوزيع، 2019م) عدا أنه يستعرض السيرة الفنية لواحد من أهم المخرجين السينمائيين العرب، أنه أيضًا ينبّه القارئ إلى أهمية عمل المصوّر السينمائي الذي لَطالما تماهى مع عمل المخرج فصارا شيئًا واحدًا يستأثر هذا الأخير في العادة بنجاحه ويخطف من المصوّر الأضواء.

يلخّص شيمي عمل المخرج المصري الراحل بحكمة فرعونية تقول إن الإنسان 'يرى بثلاث عيون: عين في وجهه هي النظر، وأخرى في قلبه هي العاطفة، وثالثة في عقله وهي الإدراك، وبزيادة قوة إحداها يتحدد الإحساس بالأشياء والعلافة مع الحياة، وعاطف الطيب يحمل الإحساس بالنظر والعاطفة والإدراك معًا، وأعماله التي تركها لنا خير دليل على ذلك'. والحق أن الطيب ترك أفلامًا سينمائية مهمة كثيرة بالمقارنة مع عمره القصير، حيث رحل عن عالمنا عام 1995م عن عمر لم يتجاوز الثامنة والأربعين.

من هذه الأفلام 'سواق الأتوبيس' (1983) الذي احتل المرتبة الثامنة في قائمة أفضل مائة فيلم مصري في الاحتفال بمئوية السينما المصرية، ومعه في القائمة أيضًا فيلماه الآخران 'البريء'، و'الحب فوق هضبة الهرم'، والأفلام الثلاثة كان مدير التصوير فيها سعيد شيمي، الذي عمِل مع الطيب أيضًا في خمسة أفلام أخرى هي 'الغيرة القاتلة'، و'التخشيبة'، و'ملف في الآداب'، و'كتيبة الإعدام'، و'ضد الحكومة'.

يسرد شيمي في هذا الكتاب ذكريات عمله في هذه الأفلام التي اتخذت المنحى الواقعي، شارحًا رؤية عاطف الطيب السينمائية والهَمّ الذي كان يشغله، والذي يمكن تلخيصه في قول المخرج الراحل: 'إننا نعيش واقعًا تغمره الأحزان اليومية، والسينما مؤثّرة بشكل كبير في سلوكيات الناس، ولا بدّ أن نناقش هذا الواقع ونسجّل أحزان الناس، ونحاول بقدر المستطاع أن نغوص في أعماقهم، ونطرق بودّ على أسباب متاعبنا. هذا هو هدفي في الحياة'.

يستذكر مدير التصوير المعروف بكثير من الحب والشجن عمله مع عاطف الطيب الذي 'لا يدخل التصوير أبدًا إلا عندما يكون قد قطّع المشاهد في الفيلم بالكامل (أي الميزانسين)، وعرف أين سيصوّر كل مشهد'، وكانت تجمعهما معًا نقاط التقاء كثيرة أهمها الاعتماد على أسلوب واقعي سواءً في الإضاءة أو الحركة الحرة للكاميرا، والجنوح إلى التعبيرية البصرية أحيانًا، والحرص على التصوير خارج الاستديو، وفي الأماكن الحقيقية للأحداث، وقد أشاد الطيب بشيمي في غير مناسبة ووصفه بالمصّوّر العبقري الذي لا تقف في طريقه عقبة.

لم يحبّ شيمي فيلمًا من أفلامه مع عاطف الطيب كما أحب فيلم 'البريء' (بطولة أحمد زكي ومحمود عبدالعزيز)، وهو فيلم يحبه أيضًا كثير من المشاهدين كونه من أهم الأفلام السينمائية العربية، واختلف في طريقة تصويره مع الأفلام الأخرى التي جمعتهما, إذ تدور أحداثه في الريف والصحراء ووراء القضبان، بينما كانت أفلامهما الأخرى تدور في المدينة والقاهرة بالذات. ولأنه فيلم موضوعه الرئيس الحريّة فقد قارباها بصريًّا باللقطات الواسعة، أو الضيقة التي تتسع شيئًا فشيئًا، ومع ذلك فإن سعيد شيمي يعتبر المشهد الرومانسي بين أحمد زكي وآثار الحكيم في فيلم 'الحب فوق هضبة الهرم' أجمل ما صوّر في حياته من ناحية التنفيذ.

يورد مدير التصوير تصريحًا مهمًّا للطيب أدلى به بعد النجاح الساحق لفيلمه الثاني الذي عُرِض سنة 1983 'سواق الأتوبيس' (بطولة نور الشريف وميرفت أمين)، بعد أن وُجِّه له سؤال: 'ما الذي يحلم به مخرج شاب حقق هذا النجاح؟' فكانت إجابته أقرب إلى خارطة طريق للمخرج السينمائي الذي سيكون: 'أهم قضية بالنسبة لي أن أحافظ على نفسي، وأن أكون صادقًا دائما، ولا أنحني لإغراءات السوق. إنني أتمنى أن أكون فردًا وسط مجموعة من السينمائيين تهدف إلى خلق سينما خاصة متطورة، لها روح وطعم مصريان، وتلعب دورًا هامًّا في إثارة الفكر والحيوية عند المتفرج'. وهذا ما كان بالفعل خلال الاثني عشر عامًا اللاحقة التي أخرج فيها الطيب، العديد من الأفلام المهمة، نذكر منها -إضافة إلى ما سبق- أفلام 'ناجي العلي'، و'ليلة ساخنة'، و'الزمّار'، و'البدرون'، و'الدنيا على جناح يمامة'، و'كشف المستور'، و'قلب الليل' المأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ الذي رثى عاطف الطيب بعد وفاته معتبرًا إياه عميد الخط الواقعي في السينما المصرية الحديثة.

'أفلامي مع عاطف الطيب' كتاب جميل يوثق العلاقة الفنية بين سينمائيَّيْن مُهمَّيْن في مجاليهما (الإخراج والتصوير)، ويدخلنا كواليس العمل في ثمانية أفلام مصرية جميلة جمعتْهما، ساردًا حكايات تشكّلها من الفكرة إلى العرض. ولمن كان يحب عاطف الطيب قبل قراءة هذا الكتاب، فلا شكّ أنه بعد القراءة سيحبّه أكثر.