أفكار وآراء

نجوم العلوم ومهرجان العلوم

يمكن القول إن الأسبوع المنصرم على مستوى المجتمع في عُمان هو أسبوع 'علمي' بامتياز. هناك دلالتين مهمتين تدعونا للتأمل فيهما: أولهما حالة التفاعل الرسمي والشعبي مع الباحثة العُمانية سُمية السيابية التي حصدت باقتدار (علمي ووطني) المركز الأول باعتبارها أول امرأة عربية في برنامج نجوم العلوم (14) عن مُبتكرها في 'التحليل الحيوي للميكروبلاستيك بطريقة جديدة من البايولوجي والتكنولوجي'. أما الدلالة الثانية فهي المشهد العام الذي خلقه (مهرجان العلوم 2022) والتوافد من مختلف الفئات العمرية على أركانه وتنوع طرائق العرض والفعاليات المصحوبة بهِ والصدى العمومي الذي خلقته أنشطته لدى كافة الأسر والتكوينات المجتمعية في عُمان.

أعادت الدلالتين السابقتين النقاش حول العلم في المجتمع، الدعم العام الذي تلقته السيابية وإن كان يكشف عن التحام وطني في أساسه إلا أنه أثار شهية فئات عريضة من المجتمع للعلم، واستثار الفضول لمعرفة ماهية المُبتكر وقيمته العلمية والسياق الذي سيؤثر فيه بالإضافة إلى جدواه الاقتصادية محليًا وعالميًا عوضًا عن إثارة النقاش حول الطريقة التي يقدم فيها العلم والعلماء وأن المرحلة الراهنة تحتاج إلى مزيد من التمكين لصورة البحث العلمي والابتكار والمشتغلين فيهما بوصفهم قيادات تحول معرفي للمجتمع الذي تضع رؤية عُمان 2040 هدفًا استراتيجيًا له يعنى بـ 'مجتمع متمكن من تقييم المعرفة ونقدها وتوظيفها وانتاجها'. هذا المجتمع لا يمكن أن تخلقه مؤسسات التعليم والتثقيف الرسمية وحدها. وإنما ثمة حاجة ماسة اليوم لما نسميه في علم الاجتماع بحالة 'التثقيف العام' أو ما يعرف بـ science share وهي الحالة الي ينطلق فيها الحديث عن العلم من قاعدة المجتمع نفسه وليس بالضرورة أن يكون موجهًا من قبل المؤسسات الرسمية. فتنشط التكوينات الثقافية والجماعات العلمية والعلماء والباحثين لتدوال القضايا العلمية وتبسيطها وربطها بحياة الأفراد في المجتمع وينشط التعريف بالعلماء وإبراز الرموز العلمية وتبيان الحالة التي تقف عليها جهود الابتكار والبحث العلمي في البلاد وخلق حالة تفاعل إعلامي معها عبر وسائط مختلفة ومتعددة ليجتمع الناس على العلم ويكونوا أكثر مُكنة من فهم تطوراته وأكثر اقتدارًا على نقد المعرفة وإعادة بنائها وتطويرها وأبعد من ذلك الانخراط في مجتمع العلم والمعرفة العالمي.

إن السياق العام الذي خلقته مشاركة السيابية في نجوم العلوم وتزامنها مع حالة التفاعل العام مع مهرجان العلوم لتتيح المجال للاستثمار في هذا (المزاج الاجتماعي العام) الشره تجاه العلم وتجاه إبراز المنتج العلمي وتجاه تقديم النُخب العلمية. صحيح أن الاعتبار الأهم هو ما المآلات المؤسسية والاقتصادية التي ستذهب إليها هذه البحوث والمُبتكرات والاختراعات وكيف سيتم تبنيها ولكن هناك حاجة ماسة أكبر في تقديرنا إلى خلق مزاج عام مرتبط بالعلم ومنسجم مع حركته في هذه اللحظة الوطنية. في علم الاجتماع هناك مصفوفة أساسية يتحرك فيها دور العلم في المجتمع حسب الظروف التي يعيشها المجتمع فهناك:

- أزمنة القلق العام بشأن الأحداث ذات الاحتمالية المنخفضة والعواقب العالية.

- أزمة القلق العام بشأن الأحداث ذات الاحتمالية العالية والعواقب العالية.

- أزمنة القلق العام بشأن الأحداث ذات الاحتمالية المنخفضة والعواقب المنخفضة.

- أزمنة القلق العام بشأن الأحداث ذات الاحتمالية العالية والعواقب المنخفضة.

وإن كان دور العلم والعلماء وتقديرهما ينشط في الحالتين الثانية والرابعة. فإن الصورة التي تقدم بها البحوث والمبتكرات والاختراعات العلمية تلعب دورًا أساسيًا في إيمان الناس وتفاعلهم العام مع المنتج العلمي. ما حدث في مهرجان العلوم وفي نجوم العلوم أن المعرفة تم تبسيطها وإخراجها بشكل قريب من كافة الفئات العمرية وربطها بمعيش الناس وواقعهم. وهو ما ساهم في حالة أكبر من التفاعل العام مع حيثيات المشهدين.

أجرى أستاذ علم الاجتماع إيريك جينسين دراسة بعنوان: ' Why people attend science festivals: Interests, motivations and self-reported benefits of public engagement with research' وبحث خلالها رأي 975 فرد عبر مسح على الشبكة حول الدوافع والأسباب التي تدفعهم لزيارة مهرجانات العلوم في المملكة المتحدة. كان أهم سببين تم الإشارة إليهما: أن الزوار يقدرون الفرص التي يوفرها مهرجان العلوم للتفاعل مع الباحثين العلميين. والسبب الآخر تمكنهم من مواجهة أنواع مختلفة من المشاركة العلمية التي تستهدف البالغين والأطفال والعائلات. على الجانب الآخر فإن جزء من الدوافع التي نعتقد تسهم في تزايد إقبال الناس على مثل هذه المهرجانات يتلخص في الآتي:

- ربط العلوم والمنتجات العلمية بالترفيه.

- كسر الحاجز الرسمي / المؤسسي بين العلماء/الباحثين وبين الجمهور العام.

- اعتماد المهرجانات على محاكاة احتياج (الأسرة) المعرفي بمعنى أن هذه المهرجانات تكون مصممة بحيث تخاطب كافة الفئات العمرية وتكون مزارًا أسريًا في الغالب.

وللاستثمار في هذه الحالة العامة نجد أنه من الممكن التفكير في إيجاد نسخ غير مركزية من مهرجانات العلوم خارج محافظة مسقط. يمكن أن تقودها كل محافظة من المحافظات وتتولى تنظيمها وتنشط فيها إسهامات ومبتكرات وبحوث واختراعات المؤسسات العاملة في تلك المحافظة سواء كانت مؤسسات أكاديمية أو مدارس أو مؤسسات قطاع خاص أو باحثين وعلماء مستقلين يقدمون أبحاثهم ومبتكرهم في تلك المحافظات. ستستهم دورية مثل هذه المهرجانات أولًا في حفز المشهد العلمي واستمراريته وإيجاد شكل من التنافسية في تقديم المستجد في كل نسخة بالإضافة إلى أنه سيسهل تفاعل كافة أطياف المجتمع المحلي في المحافظة نظير توطين المهرجان في حدودها.

إن حالة التثقيف العام التي ندعو إليها يمكن أن تقودها مثل هذه المناشط ولكن هناك دور محوري على الإعلام العلمي في ابتكار رسالته وفي تبسيط مخرجات العلوم وفي الوصول إلى الناس عبر المنصات والمواقع التي ينشطون فيها. وفي ربط القضايا العلمية الكبرى بما يعيشه الفرد في يومه وسلوكه وتدبيره وصولًا إلى الحالة التي يمكن أن يكون فيها التثقيف العام مساندًا للمؤسسات الرسمية ومكملًا لها وسادًا للجوانب التي لا تستطيع أن ترفد بها المستفيدين منها ومرتاديها.