أعمدة

همهمات ومناحات المواعظ

عمر العبري
 
عمر العبري
- يبدو أن من تستهويهم مهمة إيصال مواعظ المُحدِثين الحسنة للناس أخذوا على عاتقهم عهدًا أن يقدموها في أشكال وصور قاتمة وكئيبة لأغراض لم أستوعبها شخصيًّا وبكل صراحة.

لم أتمكن رغم محاولاتي المتكررة من معرفة الأسباب الحقيقية التي تجعل هؤلاء يقرنون هذه المواعظ بهمهمات الحزن وكأنه لا توجد طرق أُخرى يمكن التأثير بها على المستمع إلا هذه 'المناحات' التي تحولت إلى عامل سلبي جعل الناس يكفون عن سماع هذه المواعظ ويهربون منها.

لقد اعتادت آذاننا على هذه الهمهمات خاصة عندما يأتي ذكر الموت وعذاب القبر وأهوال يوم القيامة ووصف النار والعياذ بالله وما يلاقيه الإنسان الذي استحق الطرد من رحمة الله من عذابات ونكال، فقلنا إن الشيء بالشيء يُذكر فسبب استخدام هذه المؤثرات الصوتية وهدفها هو التخويف من الاقتراب من الآثام والمعاصي.

غير أن ما يثير الدهشة أن البعض يقف عاجزًا عن العثور على مؤثرات صوتية تلائم الحالة الأخرى تلك التي تتصل بوصف حياة القبر ونعيم الجنة حيث 'لا عين رأت ولا أُذنُ سمعت ولا خطر على قلب بشر' وأحوال من اختارهم الله سبحانه وتعالى لدخولها حيث لا موت ولا مرض لا جوع ولا فاقة ولا عوز ولا نوم وحيث الحُور العين الحِسان وكل ما تتمناه الأنفس وما تشتهيه.. أعجِز المنشدون ومن خلفهم التكنولوجيا عن اختراع مؤثرات صوتية تثير مشاعر التفاؤل والأمل في نفس هذا الإنسان الضعيف الطامع في رحمة خالقه؟؟

- تتفاجأ باتصال عتاب يأتيك من شخص ما تعرفه لمجرد المعرفة لكن لا تربطك به فعليًّا أي علاقة يمكن التعويل عليها -رغم أنه لا توجد اليوم الكثير من العلاقات التي يمكن التعويل عليها-.. فحوى الاتصال أنك تُهمل الرد على رسائله متعددة الأغراض الصباحية/ رسائل المناسبات/ والرسائل 'خارج التصنيف' عامدًا متعمدًا لأنه متأكد أنك قرأتها.. يعتب ويقول إن هذا الإهمال والتهميش كان يتوقعه من شخص آخر إلا أنت. ومن باب التأدب تعتذر له وتبرر ذلك التصرف بكثرة بالرسائل التي تحط على هاتفك كل صباح وكل مناسبة وعلى الانشغالات التي تحُول دون ذلك.

بطبيعة الحال سيكون الدخول في جدال مع شخص كهذا عقيمًا ولا طائل من ورائه وسيكون توجيهه بإرسال كل ما هو مفيد والتوقف عن إيذاء الناس 'وأنت أولهم' أمر غير مستساغ أدبيًّا رغم أن رسائله تلك يُوجهها جماعيًّا لخلق كثير من عباد الله المبتلين بأمثاله 'دون علمهم ولا موافقتهم'.

- اختفى كل صوت في المسجد عدا صوت الإمام الذي جعلت منه مكبرات الصوت قادرًا على بلوغ آخر بيت في القرية. كان موضوع الخطبة 'المقارنات' باعتباره مرضًا اجتماعيًّا حديثًا جرّ وراءه مشاكل لا حصر وتسبب في حدوث كثير من حالات الطلاق ودخول الأفراد والأُسر في متاعب نفسية ومالية معقدة. وبينما يُعدد الإمام وجوه هذه المقارنات سُمع بكاءُ طفلٍ يتصاعد من الصفوف الخلفية.. اضطر الإمام للتوقف علّ الطفل يعود إلى هدوئه لكن ذلك لم يحدث.. التفت الجميع للوراء محاولين تتبع مصدر البكاء وبانتظار أن يُخرج والد الطفل نفسه من هذا الموقف المُحرج بالانصراف لكن ذلك لم يحدث أيضًا مما اضطُر الإمام إلى اختصار الخطبة والتعجيل بإقامة الصلاة. والناس تقوم للصلاة همس لي رجل كبير في السن كان يجلس إلى يميني وهو يبتسم بخبث: 'ما شي غير حالتين.. أما إنه باغي يخبرنا إن عنده ولد كنه الوحيد اللي عنده ولد أو إن الحُرمة جابرتنه يجيبه معه المسجد.. ضيّع صلاته وضيّع على الناس صلاتهم.. كأننا في روضة أطفال ما في بيت الله'.. بادلته الابتسامة وعدلت من وقفته ودخلنا في الصلاة.

آخر نقطة

يسوّفُ الناس وينتظرون الغدْ ليُحدثوا التغيير الذي يعترفون أنه ضروري في أنفسهم وفي علاقتهم بخالقهم ومع الذين أساؤوا لهم وكأنهم موقنون أن ذلك الغد سيأتي.. يتجاهلون حقيقة أن الغد قد لا يأتي وأننا نملك الحاضر فقط أما المستقبل فهو في حكم الغيب.