أفكار وآراء

في مديح الفن الهابط

نُفرق كثيرا بين الفن الرفيع أو (الراقي) والفن الهابط أو (المنحط). في الموسيقى نقول «الطرب الأصيل» لفصله عما دونه من الغناء. هناك مطربون ملتزمون (لا يبدو أن الالتزام يعني الجدية وحدها، بل هو التزام بالقضايا السياسية، بل والتزام «أخلاقي» أيضا مع تحفظي على الكلمة). فالفنانة الملتزمة تظهر بفساتين محتشمة، إنها تُدافع عن القضايا الكُبرى التي تشغلنا، ونادرا ما يكون لها فيديو كليب لأن تركيزها على الكلمة، على الرسالة.

ما حفزني لكتابة المقال هو -أولا- مشاهدة المقابلة التي أجرتها قناة اليوتيوب «سردة بعد العشاء» مع حامد سنو للحديث عن تجربته الشخصية، وتجربته مع مشروع ليلى ومستقبل الفرقة. ما يُهم من أمر أن حامد سنو تطرق عرضا لإعجابه بهيفاء وهبي، واستنكر التسفيه الذي تلقاه.

الحافز الثاني هو زيارتي مؤخرا لمعرض باوهاوس في ديساو. باوهاوس Bauhaus هي مدرسة فنية برزت في بدايات القرن الماضي، وحاربتها النازية بشراسة. هذا العداء لا يبدو أنه عداء شخصي ضد المنخرطين في هذه الحركة، بل هو عداء قادم من شيء جوهري يخص تقاليد هذه المدرسة، التي رأى النظام وقتها أنه يسهم في ضياع الهوية الألمانية.

في كتابها «التاريخ الثقافي للقباحة» تُقدم الباحثة جريتشن إي. هنْدِرْسن قراءة تاريخية لمعنى ووظيفة القباحة عبر التاريخ، وعبر الثقافات المختلفة مع تركيز على الفن الأوروبي والأمريكي. تُوفر لنا هنْدِرْسن بعض المفاتيح لفهم القضية التي بين أيدينا اليوم.

أولا: القباحة وعلاقتها بالحواس بالنفور بالرغبة في الهرب أو إشاحة النظر.

حين تبحث في معاني القبح، يبدو للباحثة أن القبح يتقاطع -تاريخيا- مع التشوهات أو (الإعاقات)، ثم أن علم الفراسة يقترح تعالقًا بين التشوه الجسدي والنشوز الأخلاقي (لهذا يكون نقيض البطل عادة بشع الهيئة كما هو الحال مع أخوات ساندريلا مثلا)، قبل أن يتم الفصل بين الاستقامة الجسدية والاستقامة الأخلاقية لاحقا (يظهر هذا في أعمال مثل الجميلة والوحش). والفن المنحط «يجب» أن يُشيع في أنفسنا شعورا بالنفور، وهذا واجبنا بصفتنا متذوقين جيدين للفن.

ثانيا: العلاقة بين الجمال والامتثال للمعايير، وبالمثل القبح وكسر القواعد التقليدية.

فكرة أخرى تطرحها هنْدِرْسن يُمكن أن تُعيننا هنا، ألا وهي مساواة القباحة بكسر القواعد التقليدية. ومن هنا تأتي أطروحتها باعتبار القباحة بحث ثقافي. تُجادل الباحثة أن عكس القباحة ليس الجمال، ولكن المألوف. وعندما يُقدِم الفنان (سواء عبر التصوير، أو الرسم، أو الموسيقى) خصائص لا تتوافق مع التقاليد الفنية، يُصاب المتلقي بنوع من الحيرة، قد يصل إلى تسميتها قبحا. يُحتمل أن تُقبل تلك الخصائص في النهاية، بل وتُصبح معيارا جديدا لما هو جميل، إلى أن يأتي ما يتحداها، وهكذا.

ثالثا: القباحة وعلاقتها بالسوقي، بالوحشي، البدائي، بالآخر الغريب.

أُدينت الكثير من الحركات الفنية الطلائعية خلال حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي في ألمانيا. وظهرت مفاهيم «المنحط» ويقابله «الصحي» لوصف الأعمال في الجدالات الفنية. يُدرج تحت خانة المنحط كل ما هو أدنى -من وجهة نظر القوميين الألمان- إن كان عرقيا (الأعراق غير الآرية)، جنسيا (المثليين)، أو جسديا (المعوقين أو المسنين). ووفقا لهذا فقد وصم كل ما هو أجنبي، مختلف بأنه منحرف اجتماعيا.

أُدينت موسيقى الجاز على اعتبار أنها تعكس الثقافة الزنجية البدائية، وأن أنّاتها وشهقاتها ذات طبيعة وحشية وإباحية. تتحدث هندرسن عن القباحة بصفتها «شيئا في غير مكانه». وهذا يقترح شيئين أولا أنه -أي العمل الفني المُدان- ليس في مكانه؛ لأن بعض خصائصه تكسر القواعد، وأنه ثانيا لا يملك القابلية لأن يُعرض في العلن. البذيء، الموحي جنسيا مكانه الأفق الشخصي الخاص، وحين يُخرج للعام فإنه يُقابل بالاستنكار، ليس لأن الفعل الجنسي لا يحدث، ليس لأن الكلمات البذيئة لا تُقال، ولكن لأنه يُجاهر بها. تُوصف الأنواع الجديدة من الموسيقى بالانحطاط، بأنها مُخرّبة. أحكام كهذه تُستخدم للدعوة إلى مكافحة الأعمال الجديدة، التي يُمكن أن يُنظر إليها في الواقع -وبعين منفتحة- على اعتبار أنها تعبير أصيل.

التخريب مفردة مهمة في سياق الفن الذي يُنتج في منطقتنا لأنه يرتبط بالوصاية على الذائقة الفنية. ما تفعله هيفاء وهبي (يُمكن أن يُقال الأمر نفسه عن آخرين وأُخريات غيرها طبعا) هو أنها تستفز. إن أعمالها تقوض المضامين التقليدية لما هو فني، وهي تعبث بالتوتر بين الخاص والعام، وتتحدى ما يُباح فعله علنا. لكنها في النهاية تقدم فنا يخصها، فنا أصيلا يحمل أسلوبها. وإذا ما نُظر إلى فنانة ما باعتبارها موضوعا للإثارة الجنسية، فغالبا ما يُنظر إليها على أنها إما مُستغلة (أن هناك مستفيدًا ما من شهرتها، وأنها مدفوعة بطريقة ما لتظهر بشكل معين)، أو أنها تتكسب عبر تجرئها على القيم الاجتماعية. وهكذا فإنه يجوز لنا -نحن الجمهور- أن نتسلى بفنها، لكن لا يجب تشجيعه، ولا يجب منح فنانين مثلها جوائز وألقابًا. يجوز اعتبارها موضوعا للترفيه، لكن يجب أن نستنكره في الوقت نفسه، أن نكره أنفسنا لأننا نحبها - هذا ما يُريده المُتشدقون بحماية القيم الاجتماعية والأعراف، والهويات القومية. وهكذا يُستخدم مفهوم «الدخيل» أي الذي ليس من ثقافتنا (بما لا يترك أي مساحة للتنوع الثقافي، وبما يعني أن هناك مُحددا لما هي ثقافتنا)، تماما كما استخدمت ألمانيا النازية مفاهيم الأجنبي باعتباره انحرافا عن الهوية المحلية.

يُمكن -في النهاية- أن يُنظر إلى دفاعي عن الفن الهابط بأنه نزعة ما بعد حداثية، كالتي تُشير إليها هنْدِرْسن والتي تصل إلى «عبادة القباحة». فالتطرف التجريبي -كما ترى الباحثة- نتج «قباحة رائجة كشكل من أشكال التعبير العدمي». ولكني أُحب أن أراه في ضوء الدفاع عن الحريات والتنوع الذي ينتج ثراءً فنيا. ونقدا لتقليد الحط من فنون تُعبر عنّا لتحفظات يُطلق عليها أخلاقية، ولكن يُقصد بها فرض وصاية على الذائقة من مكان سلطوي يُحدد الجيد والسيئ.