حاجتنا إلى الفلسفة
الثلاثاء / 14 / ربيع الأول / 1444 هـ - 22:17 - الثلاثاء 11 أكتوبر 2022 22:17
ينظر معظم الناس إلى الفلسفة باعتبارها مجرد سفسطة أو جدال فكري عقيم لا طائل من ورائه؛ ولذلك نجد في لغة الحياة اليومية في عالمنا العربي عبارات الاستهجان لكل كلام أو حديث يتفلسف حول أمر ما من أمور الحياة العملية. ذلك أن عموم الناس يريدون الكلام المباشر الذي يتعلق بما يمكن أن نفعله في الحياة العملية، ولا يريدون أن يذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك بمناقشة المعاني والمفاهيم التي نتحدث عنها، وتلك مسألة ترتبط عمومًا بمدى نضج الوعي أو الثقافة في مجتمع ما؛ لأن الوعي الحقيقي هو الوعي الذي يعرف أن ما نفعله ليس منفصلًا عن فهمنا للمعاني والتصورات والقيم التي يمكن أن نتصرف وفقًا لها في الحياة العملية، وإلا كنا أشبه بالعجماوات التي تتصرف وفقًا للفعل ورد الفعل.
وفي أحسن الأحوال ينظر بعض الناس إلى الفلسفة باعتبارها ترفًا فكريًّا، وهي نظرة لم ينكرها أرسطو نفسه حينما ذهب إلى القول بأن «التفلسف يتطلب عيشة الفراغ»، ولكن حقيقة ما يعنيه أرسطو تختلف عما يقصده الناس «بالترف الفكري»؛ لأن أرسطو لم يكن يقصد أن الفلسفة هي ترف الفكر الذي يمكن الاستغناء عنه، وإنما كان يقصد أن هذا الفكر نفسه يتطلب شيئًا من حياة الترف، أي يتطلب عدم الانغماس في متطلبات الحياة اليومية وشواغلها التي تضع حاجزًا سميكًا بيننا وبين التأمل الذي هو وليد الدهشة. حقًّا إن الفلسفة باعتبارها وليدة الدهشة هي حالة من الشغف الذي ينشأ مبكرًا لدى المرء كما لو كان مفطورًا أو على الأقل متوافقًا مع طبيعة المرء العقلية والوجدانية؛ ولكن هذه الحالة من الشغف لا يمكن أن تتواصل في حالة الانشغال بإشباع شؤون الحياة اليومية والانغماس فيها.
ولكن الموقف الشائع من الفلسفة في كلتا الحالتين يسيء فهم مهمة الفلسفة في حياتنا، فالفلسفة هي تأسيس للوعي بالمفاهيم الكلية التي يمكن أن يستند إليها أي كلام أو حوار عن موضوع أو ظاهرة ما؛ ولذلك فإنها رؤية أوَّلية ينبغي أن تسبق أي رؤية أخرى في علم ما من العلوم. فالحقيقة أن الفلسفة ليست مجرد وجهات نظر، أعني أنه ليس كل رأي يمكن اعتباره رؤية فلسفية؛ لأن الرؤية الفلسفية لها سمات أساسية أهمها أنها رؤية كُليَّة، أي رؤية تتعلق بالمبادئ العامة التي تفسر لنا ظواهر الحياة والوجود. وعلى سبيل المثال يمكن أن نتناول الأدب من وجهة نظر جزئية، أي الأدب الذي يخص أديب معين، أو الأدب في دولة أو أمة ما، أو حتى في عصر ما. إلخ؛ ولكننا في كل هذه الحالات نتناول الأدب من خلال رؤى جزئية وليست كلية، وهي تلك الرؤى أو النظريات التي تهتم بها العلوم الجزئية: كالنقد الأدبي، وعلم الاجتماع الأدبي، أو تاريخ الأدب. أما في مجال الفلسفة (سواء في علم الجمال أو غيره من فروع الفلسفة)، فإن السؤال الأساسي هنا يصبح سؤالًا كليًّا، كأن نتساءل عن طبيعة الأدب ذاته، والفن ذاته، والحياة ذاتها، والوجود ذاته. وليس معنى ذلك أن السؤال الفلسفي مقطوع الصلة بالأسئلة الجزئية التي تطرحها العلوم الأخرى، بل هو يضع كل الظواهر الجزئية في اعتباره، ويستفيد منها في البرهنة على المبادئ العامة التي يطرحها ويسعى إلى البرهنة عليها. ولذلك فإن السؤال الفلسفي هو سؤال عن المبدأ أو الأصل في أية ظاهرة مهما كانت الظاهرة نفسها ضئيلة أو جزئية أو محدودة؛ ولهذا السبب نفسه فإن البحث في أصول أي علم من العلوم يسمى بحثًا فلسفيًّا، وهذا هو معنى الصيغة المختصرة Ph.D.، أي إجازة «الدكتوراة في الفلسفة» التي يحصل عليها كل من يتبحر في أصول الظواهر الخاصة بأي علم من العلوم، وإن كان أغلب الحاصلين على هذه الإجازة في العلوم لا يفهمون دلالة اسمها. الفلسفة إذن رؤية كلية مبرهَن عليها؛ وبالتالي فهي تنظير ينتقل من الوقائع الجزئية للظواهر إلى ما هو عام فيها، أي إلى مبادئ عامة تحكمها وتفسرها.
وفضلًا عن ذلك، فإن الفلسفة المعاصرة وثيقة الصلة بحياتنا وعالمنا المعيش. ذلك أن الفكر الفلسفي يتطور عبر العصور ليلبي حاجات الإنسان وتساؤلاته. ولا مبالغة إذا قلنا إن معظم الإنتاج الفلسفي الراهن مكرس لمجال الفلسفة التطبيقية أو العملية من قبيل: البحث في جماليات وأخلاقيات البيئة، وأخلاقيات الطب، وأخلاقيات التكنولوجيا، وما إلى ذلك. ولذلك كله، فإن الموقف المستخف بالفلسفة في عالمنا العربي ينبغي أن يتغير، بحيث يكون للفلسفة دور أساسي في الثقافة العامة وفي التعليم الجامعي، بل في تعليم الطلبة في سائر مراحل التعليم من أدناها إلى أعلاها، بما في ذلك الكليات التي تدرس العلوم الطبيعية والرياضية؛ لأن افتقار الطلبة للتعليم الفلسفي يعني الافتقار إلى التعليم الذي يدعم الجانب الروحي والثقافي، ويدعم بناء ملكاتهم العقلية والنقدية، بل يدعم أصول العلوم التي يدرسون. فليس من المعقول -على سبيل المثال- ألا يدرس طالب الهندسة ما يتعلق بجماليات فن العمارة وفلسفاتها عبر العصور، وليس من المعقول ألا يدرس طالب الطب باستفاضة فلسفة الأخلاق وخاصة أخلاقيات الطب والبيولوجيا؛ ومن دون ذلك فإننا لن نحصل سوى على أشباه متعلمين.
وفي أحسن الأحوال ينظر بعض الناس إلى الفلسفة باعتبارها ترفًا فكريًّا، وهي نظرة لم ينكرها أرسطو نفسه حينما ذهب إلى القول بأن «التفلسف يتطلب عيشة الفراغ»، ولكن حقيقة ما يعنيه أرسطو تختلف عما يقصده الناس «بالترف الفكري»؛ لأن أرسطو لم يكن يقصد أن الفلسفة هي ترف الفكر الذي يمكن الاستغناء عنه، وإنما كان يقصد أن هذا الفكر نفسه يتطلب شيئًا من حياة الترف، أي يتطلب عدم الانغماس في متطلبات الحياة اليومية وشواغلها التي تضع حاجزًا سميكًا بيننا وبين التأمل الذي هو وليد الدهشة. حقًّا إن الفلسفة باعتبارها وليدة الدهشة هي حالة من الشغف الذي ينشأ مبكرًا لدى المرء كما لو كان مفطورًا أو على الأقل متوافقًا مع طبيعة المرء العقلية والوجدانية؛ ولكن هذه الحالة من الشغف لا يمكن أن تتواصل في حالة الانشغال بإشباع شؤون الحياة اليومية والانغماس فيها.
ولكن الموقف الشائع من الفلسفة في كلتا الحالتين يسيء فهم مهمة الفلسفة في حياتنا، فالفلسفة هي تأسيس للوعي بالمفاهيم الكلية التي يمكن أن يستند إليها أي كلام أو حوار عن موضوع أو ظاهرة ما؛ ولذلك فإنها رؤية أوَّلية ينبغي أن تسبق أي رؤية أخرى في علم ما من العلوم. فالحقيقة أن الفلسفة ليست مجرد وجهات نظر، أعني أنه ليس كل رأي يمكن اعتباره رؤية فلسفية؛ لأن الرؤية الفلسفية لها سمات أساسية أهمها أنها رؤية كُليَّة، أي رؤية تتعلق بالمبادئ العامة التي تفسر لنا ظواهر الحياة والوجود. وعلى سبيل المثال يمكن أن نتناول الأدب من وجهة نظر جزئية، أي الأدب الذي يخص أديب معين، أو الأدب في دولة أو أمة ما، أو حتى في عصر ما. إلخ؛ ولكننا في كل هذه الحالات نتناول الأدب من خلال رؤى جزئية وليست كلية، وهي تلك الرؤى أو النظريات التي تهتم بها العلوم الجزئية: كالنقد الأدبي، وعلم الاجتماع الأدبي، أو تاريخ الأدب. أما في مجال الفلسفة (سواء في علم الجمال أو غيره من فروع الفلسفة)، فإن السؤال الأساسي هنا يصبح سؤالًا كليًّا، كأن نتساءل عن طبيعة الأدب ذاته، والفن ذاته، والحياة ذاتها، والوجود ذاته. وليس معنى ذلك أن السؤال الفلسفي مقطوع الصلة بالأسئلة الجزئية التي تطرحها العلوم الأخرى، بل هو يضع كل الظواهر الجزئية في اعتباره، ويستفيد منها في البرهنة على المبادئ العامة التي يطرحها ويسعى إلى البرهنة عليها. ولذلك فإن السؤال الفلسفي هو سؤال عن المبدأ أو الأصل في أية ظاهرة مهما كانت الظاهرة نفسها ضئيلة أو جزئية أو محدودة؛ ولهذا السبب نفسه فإن البحث في أصول أي علم من العلوم يسمى بحثًا فلسفيًّا، وهذا هو معنى الصيغة المختصرة Ph.D.، أي إجازة «الدكتوراة في الفلسفة» التي يحصل عليها كل من يتبحر في أصول الظواهر الخاصة بأي علم من العلوم، وإن كان أغلب الحاصلين على هذه الإجازة في العلوم لا يفهمون دلالة اسمها. الفلسفة إذن رؤية كلية مبرهَن عليها؛ وبالتالي فهي تنظير ينتقل من الوقائع الجزئية للظواهر إلى ما هو عام فيها، أي إلى مبادئ عامة تحكمها وتفسرها.
وفضلًا عن ذلك، فإن الفلسفة المعاصرة وثيقة الصلة بحياتنا وعالمنا المعيش. ذلك أن الفكر الفلسفي يتطور عبر العصور ليلبي حاجات الإنسان وتساؤلاته. ولا مبالغة إذا قلنا إن معظم الإنتاج الفلسفي الراهن مكرس لمجال الفلسفة التطبيقية أو العملية من قبيل: البحث في جماليات وأخلاقيات البيئة، وأخلاقيات الطب، وأخلاقيات التكنولوجيا، وما إلى ذلك. ولذلك كله، فإن الموقف المستخف بالفلسفة في عالمنا العربي ينبغي أن يتغير، بحيث يكون للفلسفة دور أساسي في الثقافة العامة وفي التعليم الجامعي، بل في تعليم الطلبة في سائر مراحل التعليم من أدناها إلى أعلاها، بما في ذلك الكليات التي تدرس العلوم الطبيعية والرياضية؛ لأن افتقار الطلبة للتعليم الفلسفي يعني الافتقار إلى التعليم الذي يدعم الجانب الروحي والثقافي، ويدعم بناء ملكاتهم العقلية والنقدية، بل يدعم أصول العلوم التي يدرسون. فليس من المعقول -على سبيل المثال- ألا يدرس طالب الهندسة ما يتعلق بجماليات فن العمارة وفلسفاتها عبر العصور، وليس من المعقول ألا يدرس طالب الطب باستفاضة فلسفة الأخلاق وخاصة أخلاقيات الطب والبيولوجيا؛ ومن دون ذلك فإننا لن نحصل سوى على أشباه متعلمين.