عودة «موسم الانقلابات» في إفريقيا
الثلاثاء / 14 / ربيع الأول / 1444 هـ - 22:13 - الثلاثاء 11 أكتوبر 2022 22:13
ربما تكون بوركينا فاسو (بلد الطاهرين، وفقا للغتين الرئيسيتين في البلاد) هي الدولة الأولى في العالم التي تشهد انقلابين عسكريين في عام واحد، لا يفصل بينهما سوى عشرة أشهر، والسادس خلال العامين الأخيرين. وربما تكون هذه الدولة الإفريقية الواقعة ضمن دول الصحراء الكبرى غرب القارة السمراء وتحيط بها ست دول، هي مالي من الشمال، والنيجر من الشرق، وبنين من الجنوب الشرقي، وتوغو وغانا من الجنوب، وكوت ديفوار من الجنوب الغربي، هي الدولة الوحيدة في العالم التي تشهد أكبر عدد من الانقلابات العسكرية في تاريخها الحديث بلغت أحد عشر انقلابا منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960.
واقع الحال أن الانقلابات العسكرية كانت قد تراجعت بشكل كبير في العالم كله وفي إفريقيا، بعد إعلان «لومي» (عاصمة توجو) الذي صدر مع القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي عام 2000، والذي حظر الانقلابات، والاستيلاء على السلطة بالقوة، وقرر فرض عقوبات على الأنظمة التي تصل إلى الحكم نتيجة تلك الانقلابات. ها هي الانقلابات العسكرية تطل برأسها من جديد في إفريقيا، وأصبحت كما يرى بعض المحللين مثل الوباء الذي اجتاح أكثر من دولة في العامين الأخيرين، وآخرهم بوركينا فاسو التي شهدت انقلابين في عام واحد، أحدثهم قبل أسبوع. ولعل هذا ما دفع رئيس الاتحاد الإفريقي «موسى فكي» إلى التعبير عن قلقه البالغ من عودة الانقلابات غير الدستورية سواء في بوركينا فاسو أو في بلدان أخرى في القارة. والحاصل أن هذه الانقلابات لم تجلب للشعوب الإفريقية سوى المزيد من سفك الدماء، والمزيد من الفقر والجوع والتخلف. إذ تبدو تجارب الانقلابات الناجحة التي تحولت إلى حكم مدني ديمقراطي محدودة للغاية.
علاقة الانقلابات العسكرية بإفريقيا علاقة وطيدة، إذ كثيرا ما تكون السلطة الضعيفة والمتنازع عليها مطمعا لصغار الضباط الذين يحملون السلاح، وتساعدهم في ذلك الدول الاستعمارية السابقة التي لا تخدم الديمقراطية في إفريقيا مصالحها، على الإطاحة بالحكومات المدنية المنتخبة. هنا تقدم بوركينا فاسو درسا في القيام بانقلاب على انقلاب لأسباب الانقلاب الأول نفسها، مع تغيير الأسماء والرتب العسكرية والولاءات لدول أجنبية.
في 24 يناير الماضي استولى المقدم بول هنري داميبا الضابط بالجيش البوركيني والموالي لفرنسا التي تحتفظ بقاعدة عسكرية كبيرة في العاصمة واغادوغو على السلطة بانقلاب عسكري أطاح فيه بالرئيس السابق روش كابوري، معللا ذلك بفشل الرئيس المنتخب في التعامل مع الحركات المسلحة، وعدم قدرته على القضاء على التنظيمات المسلحة التي تسيطر على أجزاء كبيرة من البلاد. وفي 30 سبتمبر الماضي جاء ضابط آخر برتبة نقيب يدعى إبراهيم تراورى -يقال إنه له روابط بروسيا- ليطيح بالمنقلب الأول داميبا للسبب نفسه الذي كان قد تعلل به للإطاحة بالرئيس قبل أشهر.
لعبة الانقلابات في بوركينا فاسو التي تغير اسمها في العام 1984، بعد أن كانت تسمي «فولتا العليا»، وضعت الدولة التي يقطنها نحو 22 مليون نسمة، وتتجاوز مساحتها الربع مليون كيلو متر مربع بقليل، في مهب الريح، خاصة أن الخلاف بين العسكريين الذين يسيطرون على الجيش ينذر بالمزيد من الانقلابات في المستقبل القريب، في وقت تواجه فيه معركة طاحنة ومستمرة مع بقايا تنظيم القاعدة وتنظيمات أخرى، راح ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف قتيل، وتشريد نحو مليوني شخص من منازلهم خلال هذا العام فقط.
لا يكفي أن يستنكر العالم الانقلاب الجديد وعلى رأسه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وكذلك الاتحاد الإفريقي، خاصة أنه استنكار لحساب نظام انقلابي سابق. والغريب في الأمر أن انقلاب بوركينا فاسو الجديد لم يلق الاهتمام الكافي من الإعلام الدولي، التي اكتفت وكالات أنبائه، وصحفه، ومحطاته التلفزيونية الكبيرة بتقارير إخبارية قصيرة ومختصرة عنه، وهو ما يؤكد صحة المثل الذي كنا نضربه لطلابنا حول أجندات الإعلام الدولي ونقول «إن موت كلب في شارع الشانزيليزيه بباريس أهم لدى الإعلام الدولي من وقوع انقلاب عسكري في دولة إفريقية»، وقد حدث ذلك بالفعل في انقلاب بوركينا فاسو الأخير، وغيره من الانقلابات الإفريقية التي يغض العالم البصر عنها، وكأنها لم تحدث.
ولم يقتصر غض البصر على وسائل الإعلام الدولية التي قدمت تغطية محدودة الحجم للانقلاب ووضعته في إطار يتجاهل السياقات السياسية والاقتصادية والإنسانية والصراعات الدولية في القارة السمراء، وتعداه إلى المنظمات الدولية التي تشارك بوركينا فاسو في عضويتها. فالاتحاد الإفريقي الذي تنص مبادئه على رفض الانقلابات العسكرية وعدم التسامح مع الأنظمة التي تنتج عنها، اكتفي ببيان بروتوكولي يدعو «الجيش (البوركيني) للامتناع فورا وبشكل كامل عن أي أعمال عنف أو تهديد للسكان والحريات المدنية وحقوق الإنسان، وإعادة النظام الدستوري بحلول يوليو 2024. وأدان المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أي محاولة للاستيلاء على السلطة بقوة السلاح ودعا جميع الأطراف إلى الامتناع عن العنف، والسعي إلى الحوار. في المقابل تجاهلت منظمات أخرى عديدة الأمر برمته، رغم عضوية بوركينا فاسو بها، مثل منظمة التعاون الإسلامي (أكثر من 60 بالمائة من السكان مسلمين)، ومجموعة دول الساحل الخمس، وتجمع دول الساحل والصحراء، والمنظمة الدولية للناطقين بالفرنسية، والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.
في تقديري أن المشكلات التي تعاني منها بعض الدول الإفريقية هي سبب ونتيجة في الوقت نفسه للانقلابات العسكرية. فعندما يضيق الحال بالناس من تردي الأوضاع المعيشية والضغوط الاقتصادية، فإنهم سرعان ما يفقدون الثقة في المؤسسات الديمقراطية الحاكمة. ويدفعهم ذلك إلى التظاهر والاحتجاجات العنيفة، ولا يكون أمامهم سوى التعلق بـ «قشة» الجيوش الوطنية للإطاحة بالنخب الحاكمة، بصفتها المؤسسة الأكثر تنظيما وانضباطا في البلاد، ولكن بعد أن يمارس العسكريون السلطة تكتشف الشعوب أنهم ليسوا أفضل من المدنيين، بل ربما يكونون أسوأ كثيرا، خاصة إذا أغلقوا كل منافذ التعبير عن الغضب الشعبي وحكموا -كعادتهم- بالحديد والنار.
من المهم في هذه المرحلة المضطربة التي يمر بها العالم أن نصل إلى تفسير لزيادة عدد الانقلابات العسكرية إفريقيا. ويكفي أن نشير هنا إلى أنه منذ بداية العام الماضي وقعت ثمانية انقلابات في تشاد، وغينيا، ومالي (مرتين)، والسودان، وبوركينا فاسو (مرتين)، وأحبطت محاولة في النيجر. وبوجه عام كان العام الماضي هو موسم عودة الانقلابات إلى إفريقيا إذ شهدت فيه القارة أكبر عدد من الانقلابات العسكرية منذ عام 2003.
تجارب حكم الجيوش وفشلها المستمر في إفريقيا تؤكد أن الديمقراطية بكل عيوبها أرحم كثيرا من الدخول في دوامة الانقلابات العسكرية، التي تشغل الجيوش عن مهامها الأساسية في الدفاع عن الدولة وحفظ الأمن والاستقرار ومكتسبات الأوطان، من جانب، وتعصف بكل أمل في إخراج دول القارة من أزماتها الإنسانية المتتالية، وتحقيق تنمية حقيقية، تكفيها مذلة السؤال، والتعلق بحبال العسكريين الدائبة من جانب آخر.
واقع الحال أن الانقلابات العسكرية كانت قد تراجعت بشكل كبير في العالم كله وفي إفريقيا، بعد إعلان «لومي» (عاصمة توجو) الذي صدر مع القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي عام 2000، والذي حظر الانقلابات، والاستيلاء على السلطة بالقوة، وقرر فرض عقوبات على الأنظمة التي تصل إلى الحكم نتيجة تلك الانقلابات. ها هي الانقلابات العسكرية تطل برأسها من جديد في إفريقيا، وأصبحت كما يرى بعض المحللين مثل الوباء الذي اجتاح أكثر من دولة في العامين الأخيرين، وآخرهم بوركينا فاسو التي شهدت انقلابين في عام واحد، أحدثهم قبل أسبوع. ولعل هذا ما دفع رئيس الاتحاد الإفريقي «موسى فكي» إلى التعبير عن قلقه البالغ من عودة الانقلابات غير الدستورية سواء في بوركينا فاسو أو في بلدان أخرى في القارة. والحاصل أن هذه الانقلابات لم تجلب للشعوب الإفريقية سوى المزيد من سفك الدماء، والمزيد من الفقر والجوع والتخلف. إذ تبدو تجارب الانقلابات الناجحة التي تحولت إلى حكم مدني ديمقراطي محدودة للغاية.
علاقة الانقلابات العسكرية بإفريقيا علاقة وطيدة، إذ كثيرا ما تكون السلطة الضعيفة والمتنازع عليها مطمعا لصغار الضباط الذين يحملون السلاح، وتساعدهم في ذلك الدول الاستعمارية السابقة التي لا تخدم الديمقراطية في إفريقيا مصالحها، على الإطاحة بالحكومات المدنية المنتخبة. هنا تقدم بوركينا فاسو درسا في القيام بانقلاب على انقلاب لأسباب الانقلاب الأول نفسها، مع تغيير الأسماء والرتب العسكرية والولاءات لدول أجنبية.
في 24 يناير الماضي استولى المقدم بول هنري داميبا الضابط بالجيش البوركيني والموالي لفرنسا التي تحتفظ بقاعدة عسكرية كبيرة في العاصمة واغادوغو على السلطة بانقلاب عسكري أطاح فيه بالرئيس السابق روش كابوري، معللا ذلك بفشل الرئيس المنتخب في التعامل مع الحركات المسلحة، وعدم قدرته على القضاء على التنظيمات المسلحة التي تسيطر على أجزاء كبيرة من البلاد. وفي 30 سبتمبر الماضي جاء ضابط آخر برتبة نقيب يدعى إبراهيم تراورى -يقال إنه له روابط بروسيا- ليطيح بالمنقلب الأول داميبا للسبب نفسه الذي كان قد تعلل به للإطاحة بالرئيس قبل أشهر.
لعبة الانقلابات في بوركينا فاسو التي تغير اسمها في العام 1984، بعد أن كانت تسمي «فولتا العليا»، وضعت الدولة التي يقطنها نحو 22 مليون نسمة، وتتجاوز مساحتها الربع مليون كيلو متر مربع بقليل، في مهب الريح، خاصة أن الخلاف بين العسكريين الذين يسيطرون على الجيش ينذر بالمزيد من الانقلابات في المستقبل القريب، في وقت تواجه فيه معركة طاحنة ومستمرة مع بقايا تنظيم القاعدة وتنظيمات أخرى، راح ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف قتيل، وتشريد نحو مليوني شخص من منازلهم خلال هذا العام فقط.
لا يكفي أن يستنكر العالم الانقلاب الجديد وعلى رأسه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وكذلك الاتحاد الإفريقي، خاصة أنه استنكار لحساب نظام انقلابي سابق. والغريب في الأمر أن انقلاب بوركينا فاسو الجديد لم يلق الاهتمام الكافي من الإعلام الدولي، التي اكتفت وكالات أنبائه، وصحفه، ومحطاته التلفزيونية الكبيرة بتقارير إخبارية قصيرة ومختصرة عنه، وهو ما يؤكد صحة المثل الذي كنا نضربه لطلابنا حول أجندات الإعلام الدولي ونقول «إن موت كلب في شارع الشانزيليزيه بباريس أهم لدى الإعلام الدولي من وقوع انقلاب عسكري في دولة إفريقية»، وقد حدث ذلك بالفعل في انقلاب بوركينا فاسو الأخير، وغيره من الانقلابات الإفريقية التي يغض العالم البصر عنها، وكأنها لم تحدث.
ولم يقتصر غض البصر على وسائل الإعلام الدولية التي قدمت تغطية محدودة الحجم للانقلاب ووضعته في إطار يتجاهل السياقات السياسية والاقتصادية والإنسانية والصراعات الدولية في القارة السمراء، وتعداه إلى المنظمات الدولية التي تشارك بوركينا فاسو في عضويتها. فالاتحاد الإفريقي الذي تنص مبادئه على رفض الانقلابات العسكرية وعدم التسامح مع الأنظمة التي تنتج عنها، اكتفي ببيان بروتوكولي يدعو «الجيش (البوركيني) للامتناع فورا وبشكل كامل عن أي أعمال عنف أو تهديد للسكان والحريات المدنية وحقوق الإنسان، وإعادة النظام الدستوري بحلول يوليو 2024. وأدان المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أي محاولة للاستيلاء على السلطة بقوة السلاح ودعا جميع الأطراف إلى الامتناع عن العنف، والسعي إلى الحوار. في المقابل تجاهلت منظمات أخرى عديدة الأمر برمته، رغم عضوية بوركينا فاسو بها، مثل منظمة التعاون الإسلامي (أكثر من 60 بالمائة من السكان مسلمين)، ومجموعة دول الساحل الخمس، وتجمع دول الساحل والصحراء، والمنظمة الدولية للناطقين بالفرنسية، والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.
في تقديري أن المشكلات التي تعاني منها بعض الدول الإفريقية هي سبب ونتيجة في الوقت نفسه للانقلابات العسكرية. فعندما يضيق الحال بالناس من تردي الأوضاع المعيشية والضغوط الاقتصادية، فإنهم سرعان ما يفقدون الثقة في المؤسسات الديمقراطية الحاكمة. ويدفعهم ذلك إلى التظاهر والاحتجاجات العنيفة، ولا يكون أمامهم سوى التعلق بـ «قشة» الجيوش الوطنية للإطاحة بالنخب الحاكمة، بصفتها المؤسسة الأكثر تنظيما وانضباطا في البلاد، ولكن بعد أن يمارس العسكريون السلطة تكتشف الشعوب أنهم ليسوا أفضل من المدنيين، بل ربما يكونون أسوأ كثيرا، خاصة إذا أغلقوا كل منافذ التعبير عن الغضب الشعبي وحكموا -كعادتهم- بالحديد والنار.
من المهم في هذه المرحلة المضطربة التي يمر بها العالم أن نصل إلى تفسير لزيادة عدد الانقلابات العسكرية إفريقيا. ويكفي أن نشير هنا إلى أنه منذ بداية العام الماضي وقعت ثمانية انقلابات في تشاد، وغينيا، ومالي (مرتين)، والسودان، وبوركينا فاسو (مرتين)، وأحبطت محاولة في النيجر. وبوجه عام كان العام الماضي هو موسم عودة الانقلابات إلى إفريقيا إذ شهدت فيه القارة أكبر عدد من الانقلابات العسكرية منذ عام 2003.
تجارب حكم الجيوش وفشلها المستمر في إفريقيا تؤكد أن الديمقراطية بكل عيوبها أرحم كثيرا من الدخول في دوامة الانقلابات العسكرية، التي تشغل الجيوش عن مهامها الأساسية في الدفاع عن الدولة وحفظ الأمن والاستقرار ومكتسبات الأوطان، من جانب، وتعصف بكل أمل في إخراج دول القارة من أزماتها الإنسانية المتتالية، وتحقيق تنمية حقيقية، تكفيها مذلة السؤال، والتعلق بحبال العسكريين الدائبة من جانب آخر.