جوائز الأدب
الثلاثاء / 14 / ربيع الأول / 1444 هـ - 17:02 - الثلاثاء 11 أكتوبر 2022 17:02
محمّد زرّوق
بمناسبة الإعلان عن فوز الروائيّة الفرنسية 'آني أرنو' بجائزة نوبل للآداب، فقد بدا لي أن أتحدّث عن أمرٍ مزعج عربيّا مُبهج كونيّا، وهو صلة الأدب بالجوائز، ذلك أنّ التلقّي العربيّ لمنْح الجوائز دوما مشحون بالتشكيك وبالاتّهام بعدم المصداقيّة، وبوجود عوامل مؤثّرة في التبريز والترشيح للجوائز تخرج عن القيم الفنيّة والجماليّة إلى اعتبارات أخرى ثقافيّة أحيانا وسياسيّة أحيانا وذاتية أحيانا أخرى.
قديما في تاريخ الأدب العربي وإلى حدود أوائل القرن العشرين، كان الأدباء -مهما علا شأنهم- يتقصّون الجوائز ويقفون على أبواب الأمراء والملوك والوجهاء لتحصيل الجوائز المالية والهبات العينيّة، وقلّة من أدباء العرب كانوا يتعفّفون عن ذلك، ويُمكن أن نضرب مثلين على عجل على السعي إلى الفوز بالمكارم والعطايا، المثال الأوّل هو أبو الطيّب المتنبّي الذي تحدّد مساره الشعريّ في تسخير شعره للمدح والهجاء، وهما غرضان مقترنان، إذ لا يكون المدّاح مُهابَ الجانب إلاّ إن امتلك آلةَ هجاءٍ تُكره المقصود بالقول الشعريّ على تقديم الهبات، فهو طالبٌ راغبٌ ساعٍ إلى المنح، ويُمكن أن نختصر سعيه هذا في بيت من قصيدةٍ مَدَح فيها محمّد بن أوس الأزدي، والتي كان مطلعها من أجمل مطالع الشعر العربي: 'أرق على أرق ومثلي يأرق'، يقول في منتهاها:
أمْطِرْ عَليّ سَحَابَ جُودِكَ ثَرّةً
وَانظُرْ إليّ برَحْمَةٍ لا أغْرَقُ
وأمّا المثال الثاني فهو أبو حيّان التوحيدي الناثر الذي كثرت شكواه من الحاجة والفقر عَلَّهُ يظفر بجائزة تُخرجه من كبَد الحياة إلى رغد العيش، فوجّه رسالة إلى أبي الوفاء المهندس يشكو حاله ويطلب منه مساعدته على شدّتها، يقول: 'خلّصني أيها الرّجل من التّكفّف، أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضرّ، اشترني بالإحسان، اعتبدني بالشّكر، استعمل لساني بفنون المدح، اكفني مؤونة الغداء والعشاء. إلى متى الكسيرة اليابسة، والبقيلة الذّاوية، والقميص المرقّع (...) إلى متى التأدّم بالخبز والزّيتون؟ قد والله بحّ الحلق، وتغيّر الخلق، الله الله في أمري، اجبرني فإنني مكسور، اسقني فإنني صد، أغثني فإنني ملهوف، شهّرني فإنني غفل، خلّني فإنني عاطل'.
أمّا في حديث الأدب، فإنّ الأمر اختلف وصارت هنالك هيئات ولجانٌ تُحدّد الأجدر بالفوز بالجوائز. ولئن شابت أغلب الجوائز العربيّة شوائب الوساطة والاعتبارات الذاتيّة والمحليّة والإقليميّة، والقدح في لجان التحكيم التي تكون في الغالب غير مُهيَّأة للحكم على الأعمال المرشّحة، فإنّ الجوائز الدوليّة حافظت في الغالب على صلاتها اليقينيّة -إلى حدّ ما- مع قُرّاء الأدب ومع عموم القُرّاء، فهي جوائز تحظى بثقة القُرّاء، وذلك راجع أساسا إلى أنّها تخضع إلى مؤسّسات لها قواعدها وأنظمتها وتراتيبها وأصولها، لا إلى معايير الدول أو الجمعيّات التي تُخرِج الجوائز مِنَحا وهباتٍ وزكاةً وواجهةً.
جائزة نوبل، وهي علّة خوضنا في هذا الموضوع هي جائزة لها قيمةٌ اعتباريّة، يُمكن أن تنقل الحاصل عليها من الحضيض إلى رفيع الدرجات، ومن المجهول إلى المعلوم، ومن القراءة المحليّة إلى القراءة الكونيّة، على نقيض ما يحصل في الجوائز العربيّة، مهما علت قيمتها الماديّة، إذ هي لا تضمن المقروئيّة الكونيّة ولم تتمكّن من تخطّي أثرها العربيّ النسبيّ إلى التأثير الكونيّ.
الفائزة هذه السنة بنوبل للآداب هي الروائيّة الفرنسيّة آني أرنو، ولها في تحصيل الجوائز المحليّة والدوليّة أثر كبير وتاريخ طويل، وقد كانت سنة 2019 مرشّحة في القائمة القصيرة لجائزة المان بوكر الدوليّة التي تحصّلت عليها الروائيّة العمانيّة جوخة الحارثي، وقد تشاركت معهما في القائمة ذاتها الكاتبة البولنديّة أولغا توكارتشوف الحاصلة على نوبل 2018.
لم يُشكّك الفرنسيّون ولا المتابعون للأدب في أحقيّة آني أرنو في الفوز بنوبل، بل انصرفوا إلى الاطّلاع على ما غاب عنهم من رواياتها وقصصها ودراساتها الأكاديميّة والثقافيّة والاجتماعيّة، ووقفوا على خصوصيّة كتابتها الروائيّة التي تميّزت بالبساطة التركيبيّة وبالجمع بين الذاتيّ والاجتماعيّ، في ابتداع طريق يصل كتابة السيرة الذاتيّة الاختباريّة التي تكون 'الأنا' فيها محور السرد، بكتابة إيقاع المجتمع وهنا وقوّةً حيث تحلّ الـ'نحن' الجمعيّة، وقد حافظت آني أرنو على هذا الخطّ في كتابة الرواية في أغلب أعمالها، عبر مسارها الطويل.
نهاية، نَكَدُ كُتّابنا هو نتاج آليّة ثقافيّة وأدبيّة واهنة، يُهيمن فيها الناشرُ بأهوائه، ويستكين فيها الكاتب إلى الركون إلى فكرة المؤامرة والمظلوميّة، فتبقى الكسيرة اليابسة هي المطلب.
قديما في تاريخ الأدب العربي وإلى حدود أوائل القرن العشرين، كان الأدباء -مهما علا شأنهم- يتقصّون الجوائز ويقفون على أبواب الأمراء والملوك والوجهاء لتحصيل الجوائز المالية والهبات العينيّة، وقلّة من أدباء العرب كانوا يتعفّفون عن ذلك، ويُمكن أن نضرب مثلين على عجل على السعي إلى الفوز بالمكارم والعطايا، المثال الأوّل هو أبو الطيّب المتنبّي الذي تحدّد مساره الشعريّ في تسخير شعره للمدح والهجاء، وهما غرضان مقترنان، إذ لا يكون المدّاح مُهابَ الجانب إلاّ إن امتلك آلةَ هجاءٍ تُكره المقصود بالقول الشعريّ على تقديم الهبات، فهو طالبٌ راغبٌ ساعٍ إلى المنح، ويُمكن أن نختصر سعيه هذا في بيت من قصيدةٍ مَدَح فيها محمّد بن أوس الأزدي، والتي كان مطلعها من أجمل مطالع الشعر العربي: 'أرق على أرق ومثلي يأرق'، يقول في منتهاها:
أمْطِرْ عَليّ سَحَابَ جُودِكَ ثَرّةً
وَانظُرْ إليّ برَحْمَةٍ لا أغْرَقُ
وأمّا المثال الثاني فهو أبو حيّان التوحيدي الناثر الذي كثرت شكواه من الحاجة والفقر عَلَّهُ يظفر بجائزة تُخرجه من كبَد الحياة إلى رغد العيش، فوجّه رسالة إلى أبي الوفاء المهندس يشكو حاله ويطلب منه مساعدته على شدّتها، يقول: 'خلّصني أيها الرّجل من التّكفّف، أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضرّ، اشترني بالإحسان، اعتبدني بالشّكر، استعمل لساني بفنون المدح، اكفني مؤونة الغداء والعشاء. إلى متى الكسيرة اليابسة، والبقيلة الذّاوية، والقميص المرقّع (...) إلى متى التأدّم بالخبز والزّيتون؟ قد والله بحّ الحلق، وتغيّر الخلق، الله الله في أمري، اجبرني فإنني مكسور، اسقني فإنني صد، أغثني فإنني ملهوف، شهّرني فإنني غفل، خلّني فإنني عاطل'.
أمّا في حديث الأدب، فإنّ الأمر اختلف وصارت هنالك هيئات ولجانٌ تُحدّد الأجدر بالفوز بالجوائز. ولئن شابت أغلب الجوائز العربيّة شوائب الوساطة والاعتبارات الذاتيّة والمحليّة والإقليميّة، والقدح في لجان التحكيم التي تكون في الغالب غير مُهيَّأة للحكم على الأعمال المرشّحة، فإنّ الجوائز الدوليّة حافظت في الغالب على صلاتها اليقينيّة -إلى حدّ ما- مع قُرّاء الأدب ومع عموم القُرّاء، فهي جوائز تحظى بثقة القُرّاء، وذلك راجع أساسا إلى أنّها تخضع إلى مؤسّسات لها قواعدها وأنظمتها وتراتيبها وأصولها، لا إلى معايير الدول أو الجمعيّات التي تُخرِج الجوائز مِنَحا وهباتٍ وزكاةً وواجهةً.
جائزة نوبل، وهي علّة خوضنا في هذا الموضوع هي جائزة لها قيمةٌ اعتباريّة، يُمكن أن تنقل الحاصل عليها من الحضيض إلى رفيع الدرجات، ومن المجهول إلى المعلوم، ومن القراءة المحليّة إلى القراءة الكونيّة، على نقيض ما يحصل في الجوائز العربيّة، مهما علت قيمتها الماديّة، إذ هي لا تضمن المقروئيّة الكونيّة ولم تتمكّن من تخطّي أثرها العربيّ النسبيّ إلى التأثير الكونيّ.
الفائزة هذه السنة بنوبل للآداب هي الروائيّة الفرنسيّة آني أرنو، ولها في تحصيل الجوائز المحليّة والدوليّة أثر كبير وتاريخ طويل، وقد كانت سنة 2019 مرشّحة في القائمة القصيرة لجائزة المان بوكر الدوليّة التي تحصّلت عليها الروائيّة العمانيّة جوخة الحارثي، وقد تشاركت معهما في القائمة ذاتها الكاتبة البولنديّة أولغا توكارتشوف الحاصلة على نوبل 2018.
لم يُشكّك الفرنسيّون ولا المتابعون للأدب في أحقيّة آني أرنو في الفوز بنوبل، بل انصرفوا إلى الاطّلاع على ما غاب عنهم من رواياتها وقصصها ودراساتها الأكاديميّة والثقافيّة والاجتماعيّة، ووقفوا على خصوصيّة كتابتها الروائيّة التي تميّزت بالبساطة التركيبيّة وبالجمع بين الذاتيّ والاجتماعيّ، في ابتداع طريق يصل كتابة السيرة الذاتيّة الاختباريّة التي تكون 'الأنا' فيها محور السرد، بكتابة إيقاع المجتمع وهنا وقوّةً حيث تحلّ الـ'نحن' الجمعيّة، وقد حافظت آني أرنو على هذا الخطّ في كتابة الرواية في أغلب أعمالها، عبر مسارها الطويل.
نهاية، نَكَدُ كُتّابنا هو نتاج آليّة ثقافيّة وأدبيّة واهنة، يُهيمن فيها الناشرُ بأهوائه، ويستكين فيها الكاتب إلى الركون إلى فكرة المؤامرة والمظلوميّة، فتبقى الكسيرة اليابسة هي المطلب.