أفكار وآراء

ضوء آسيوي في نفق الركود الاقتصادي

مع كل ما يعتري العالم من تحديات سياسية واقتصادية تخطو إندونيسيا خطواتها الواثقة نحو استقرار اقتصادي مدهش، في الوقت الذي تعاني فيه دول العالم في كل مكان جراء جائحة كورونا وما خلفته من آثار سلبية على الدول والمجتمعات،إضافة إلى آثار الحرب الروسية الأوكرانية.

فما سر حالة الثبات الإندونيسي؟ وكيف يمكن تلقي دروس انتعاش الاقتصاد في مرحلة انهيار اقتصادات دولية حولها؟ وكيف أمكنها أن تكون نموذجا للنمو والتنويع الاقتصادي؟ وكيف أفادت إندونيسيا حتى من التوتر السياسي المقلق في فتح باب تصدير المواد الأولية ليرتفع اقتصادها إلى ما يزيد عن 5% خلال هذا العام؟

يعد قطاع الصناعة أكبر قطاع في اقتصاد إندونيسيا ويشكل 46.4% من الناتج المحلي الإجمالي، يليه قطاع الخدمات 37.1% والزراعة 16.5%. إندونيسيا الدولة الآسيوية التي يزيد عدد سكانها عن 277 مليون نسمة، والتي تعد من أكثر بلدان العالم كثافة سكانية تمكنت من سد فجوة التنمية بفضل مقوماتها الطبيعية والبشرية التي استطاعت توظيفها وتفعيل إمكاناتها وصولا باقتصادها لحالة الثبات والاستقرار والنمو المطرد التي تعيشها اليوم.

يعود هذا النمو بشكل كبير إلى الأداء الجيد للصادرات، مع ارتفاع أسعار المواد الأولية مثل زيت النخيل والفحم والنيكل بشكل كبير، كما ورد عن مدير الجهاز المركزي للإحصاء، وسجلت الدولة فائضا تجاريا قدره 35,34 مليار دولار في عام 2021، وهو الأعلى منذ 15 عاما، وفق إشارة الجهاز في وقت سابق، خصوصا بعد الركود الاقتصادي في عام 2020.

هذه البلد التي عانت، كغيرها، من جائحة كورونا تمكنت من تحويل الركود إلى انتعاش بعد أمد قصير بحزمة من التدابير الاقتصادية والاجتماعية التي جنبتها مغبة التقهقر بعد إقدام والترنح بعد ثبات.

الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو الذي يعرف شعبيا باسم 'جوكووي' استطاع تحقيق معادلة الموازنات الصعبة في إندونيسيا، خصوصا مع حكمه لدولة تتكون من 17 ألف جزيرة، بتنوع عرقي هائل، وكثافة سكانية تعتبر الرابعة عالميا.

سياسة جوكووي القائمة على وحدة التنوع والحرص على تجنب التهميش والإقصاء أفادت في تحقيق حالة الثبات الاقتصادي والاجتماعي التي تعيشها إندونيسيا، ففي الوقت الذي يقصي فيه كل رئيس منتخب منافسيه بعد الفوز في انتخابات الرئاسة عمل الرئيس الإندونيسي على استقطاب واحتواء المرشحَين لمنصبي الرئيس ونائب الرئيس اللذين تفوق جوكووي عليهما عندما أُعيد انتخابه في العام 2019 - برابو سوبانتو وساندياغا أونو - جاعلا منهما عضوين في حكومته (كوزير للدفاع ووزير للسياحة على التوالي).

عمل جوكووي كذلك على دعم وتمكين الأرياف الإندونيسية لتقليص الفجوة بين الطبقات الاجتماعية من جهة، ولتعزيز مساهمة أبناء الريف في صنع الدخل الوطني من والمشاركة في عملية التنمية من جهة أخرى.

لم يهمل جوكووي كذلك الفئات الفقيرة في بلاده حتى مع ارتفاع عدد السكان، فأقر مجموعة من الضمانات الصحية والاجتماعية منها ما يتعلق بملكية الأراضي للفقراء، أو نظام البطاقة الصحية، والتأمين الصحي الوطني الجديد سعيا لتوفير رعاية صحية شاملة للجميع،إضافة إلى بطاقة إندونيسيا الذكية لزيادة الالتحاق بالمدارس وتأمين التعليم. كل هذه إجراءات والقرارات تشعر الفئات الأقل دخلا بأهميتها وتعزيز الحاجة لها سعيا لإشراكها في العمل لخدمة القطاعين الصناعي والزراعي بالبلاد مساهمة في التنمية في بلاد غنية بتنوعها، متكاملة باختلافها.

ومن قرار إعادة تصدير زيت النخيل الذي أسهم في ارتفاع مؤشر الاقتصاد الإندونيسي بشكل كبير خلال عامين، إلى توقيع شركة 'تسلا' الأميركية، لصناعة السيارات الكهربائية، صفقة بقيمة حوالي 5 مليارات دولار، لتأمين إمدادات النيكل المستخدمة في صناعة البطاريات من إندونيسيا على مدار الأعوام الخمسة المقبلة يتوقع لاقتصاد إندونيسيا متابعة النمو محققا أعلى معدلاته، ضاربا أروع الأمثلة في التخطيط الأمثل لخلق حالة الثبات الآمن حتى مع تحديات الوقت وعقبات الأوضاع السياسية.

إندونيسيا التي اختارت التركيز على تنميتها الداخلية وتحقيق أمانها الاجتماعي أمسكت عصا التحزبات السياسية من الوسط موازنة في علاقاتها السياسية والاقتصادية بين قطبي أمريكا والصين.

حريٌّ بالجميع قراءة وتحليل واحتذاء النموذج الإندونيسي الرائع؛ هذه الجمهورية التي حملت شعار 'الوحدة في التنوع' استطاعت وضع بصمتها دوليا لا في التنوع العرقي وبناء وحدتها من اختلافه وحسب، بل حتى في التنوع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي يضمن لها حالة استقرار آمن مع تركيز على الشأن الداخلي قدر الإمكان وصولا للعالمية.