أعمدة

إنسانية النبي

عمر العبري
 
عمر العبري
في كتابه (المائة) عدّ الفيلسوف الأمريكي مايكل هَارت النبي محمد عليه الصلاة والسلام من بين أعظم مائة شخصية أثّرت في التاريخ الإنساني ويعود ذلك إلى التغيير الجذري والعميق الذي أحدثه فيمن حوله وفي بيئته التي كانت تسود فيها مظاهر الشرك والتخلف والجهل وفي الكيانات السياسية التي كانت تحيط به حينها وعلى مجرى التاريخ حتى يومنا الحاضر.

ورغم أني شغوف بقراءة السيرة النبوية الشريفة في وجوهها المتعددة أيما شغف إلا أنني دائم الميل إلى تقصي حياته عليه الصلاة والسلام فيما يتعلق بمواقفه الإنسانية وأسلوب تعامله مع من حوله من أزواجه وأصحابه وقادة جيوشه وخدمه والناس البسطاء الذين حوله وحتى من يضمرون له الشر.. ألم تصفه الآيتان الكريمتان بـ 'وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ' و'وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ'؟

ولعل ما زال يثير دهشتي وأنا أقرأ آية 'وإنك لعلى خُلقٍ عظيم' أن الله سبحانه وتعالى أثنى على رسوله بأنه كريم الأخلاق حسنُ التعامل مع من حوله ولم يزكهِ هُنا بصفات يتمتع بها لا شك من قِبل أنه كثير الصلاة أو الصوم أو الزكاة لأن الله سبحانه وتعالى لا ينتفع بعباداتنا ولا يزيد ذلك في ملكوته شيئًا ولا يُنقص من عظمته شيء لكن ما يعنيه أن نتعامل كبشر مع بعضنا البعض بإنسانية واحترام ودليل ذلك قوله سبحانه وتعالى 'وقولوا للناس حُسنا'.

ومن المؤكد أن الحديث عن أسلوب تعامل النبي الإنساني حديث سيطول ويتجدد ويصبح في المستقبل مطلبًا إنسانيًّا مُلحًّا والعالم يشهد اختلالات عميقة في القِيم والمُثل والأخلاق ظهر في صور شتى ليس أقلها من سيادة الظُلم وامتهان الشعوب واستغلال النفوذ والسلطة وانحسار العدالة والسطو على المال العام وانتشار الفقر ما أدى إلى تغلغل أمراض مختلفة إلى عضد المجتمعات كتفتت نسيج الأسرة وانعدام الأمن الاجتماعي والتنكيل بالأبناء وغياب سمة الرحمة في العلاقات الزوجية والابتزاز العاطفي وهي ظواهر حاربها النبي محمد عليه الصلاة والسلام حتى آخر يوم في حياته.

وقد اتسم تعامل النبي عليه رضوان الله وهو الذي يوحى إليه من السماء مع من حوله باللين وجنح إلى الرحمة التي أُرسل بها للبشرية جمعاء فلم يكن فضًا غليظ القلب ولا جبارًا ولا متقلب المزاج ولا مستبدًا برأي، فظهر ذلك في طبيعة تعاطيه مع أزواجه أُمهات المؤمنين إذ كان رفيقًا بهن سهل الجانب مُتحمّلًا ما قد يصدر عنهن بسبب الغيرة أو منغصات الحياة.. كما كان متعاونًا في بيته 'يخصف نعله ويخيط ثوبه ويحلب شاته ويساعد أهله في البيت في الطعام والشراب' بل كان ضحّاكًا بسّامًا يلاعب نساءه ويصرّحُ بحبه لهن كما كان من أمرِ أم المؤمنين السيدة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها.. وكان وفيًّا لمن مات منهن حفظًا للوُدِ كما حصل مع السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.. كما لم يكن النبي جلفًا ولا ناكرًا لمعروف أحد منهن ولا شكاكًا بل جميل الخلق لطيف المعشر معهن ومع كل النساء إذ كان يستأذن ربَّه في أن يزور أمّه وكان يُقبل ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها بين عينيها.

وقد ظهر تعامل النبي الرفيع كذلك مع أصحابه وخدمه ومجالِسيه فكان رحيمًا بهم يكرمهم ويحسن إليهم ولم يكن يُكرههم على عمل شيء لا يريدونه ولا يعيب على عمل قاموا به وكان كما قالت له السيدة خديجة 'إنك لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الكَلَّ وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ' أي أنه كان ينصر المظلوم ولو كان من غير المسلمين.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا حتى من مرتكبي الذنوب والأخطاء سمحًا 'حنى' ذات مرة على شاب همّ بالزنا عندما كاد أن يفتك به الصحابة وذلك من خلال طرح بعض الأسئلة عليه والتي تفيد أن هذا السلوك هو بمثابة الدَين فخرج من عنده وكان أكره شيئا إلى قلبه الزنا.. وعندما شج رأسه صِبية أهل الطائف فقال لملك الجبال الذي طلب منه أن يأمره بأي يطبق عليهم الأخشبين: (لا فإني لأرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبُد الله ويوحِّده).

وتبدت رحمة النبي أيضًا عندما عفا عن أهله الذين حاربوه وأبعدوه عن بلده وهو في أوج قوته أثناء فتح مكة عندما قال لهم: 'اذهبوا فأنتم الطلقاء' وعندما رفق بالإعرابي الذي بال في المسجد وحينما قبِل بفدية الأسيرة سُفانة بنت حاتم الطائي وأذِن لها بالانصراف من الأسر هي والنسوة الأسيرات معها.

كان النبي عليه الصلاة والسلام أرحم الناس بأعدائه فلم ينتقم من أحدهم كما جاء في حديث سُلَيْمَان بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا قَالَ: 'لا تقطعوا شجرة ولا تقتلوا شيخًا ولا تُجهِزوا على جريح ولا تقتحموا على عابد صومعته'.

وإذا كانت منظمات حقوق الحيوان في الوقت الحالي قد شرّعت القوانين والأنظمة التي تحمي حياة الحيوان من التعذيب فإن النبي عليه الصلاة والسلام سبق هذه المنظمات بنهيه عن إيذائها أو التنكيل بها وليس بيننا من لا يعرف الحديث الشريف الذي جاء فيه أن امرأة استحقت دخول النار لأنها حبست هرة حتى ماتت، أو قصة الرجل الذي سقى كلبًا فدخل الجنّة، بل نهى عن ترويع الحيوان حتى عند ذبحه.

آخر نقطة

قارئ السيرة النبوية الشريفة يتمنى لو عاش ذلك الزمن الذي كان النبي فيه بين ظهراني الصحابة الكرام يوجههم وينصحهم ويبشرهم ويُقَوِّم سلوكهم الذي ورثوه عن جاهليتهم فيخرج لنا رجلُ عابد عادل يخاف النار كعُمر بن الخطاب، وغنيُ يبذل ماله مرضاة لله دون حد كعثمان بن عفان، وبطلُ وسيدُ وشريف لم يزعزع إيمانه الفقر والملمّات كعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعًا.