أعمدة

هوامش... ومتون.. "سيلفي" مع نخيل "تدمر"

 
قبل أن أشاهد فيلم 'دم النخيل' للمخرج نجدة إسماعيل أنزور، الذي يروي حكاية دخول تنظيم داعش 'تدمر' التاريخية، ومقتل الآثاري خالد الأسعد على يد التنظيم، قدّرت الصعوبة التي يواجهها صنّاع مثل هذه الأفلام، كونها تنتج في وقت قريب من الحدث الأساسي الذي بنيت عليه الأحداث، لذا من الطبيعي أن يزحف الواقع على منطقة الخيال، ويحدّ من حركته، وفاعليته، وجموحه، خصوصا عندما يكون الواقع أكثر شراسة منه، فكيف يكون الحال عند تناول أحداث قريبة - أنتج الفيلم عام 2019 م فيما وقعت تدمر تحت سيطرة داعش التنظيم المتشدّد عام 2015 - والخراب الذي أحدثوه في الموقع المدرج ضمن قائمة منظمة اليونسكو للتراث العالمي، فقد تابعنا المشاهد الحقيقية لتدمير الآثار عبر الفضائيات، والصور متوفرة، اليوم، في الشبكة العنكبوتية، وبعض الشهود ما يزالون أحياء، وقد كلمني د.نائل حنون عن عالم الآثار خالد الأسعد الذي قطع المسلحون رأسه وهو في الثمانين من عمره، لتكتمه على المواقع التي خبئت بها القطع الأثرية، وشكّل المحور الرئيس للفيلم، الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما السورية بالتعاون مع مؤسسة نجدة أنزور للإنتاج، ويبدو أن المخرج بخبرته وضع هذا الأمر نصب عينيه، لذا لجأ للترميز، وطعّم فيلمه بالفانتازيا من خلال توظيف (زنوبيا) المرأة القويّة التي أسست إمبراطورية وحكمت تدمر من سنة 260 إلى سنة 274 م ، فتظهر في المشاهد المفصليّة التي يمرّ بها أبطال الفيلم لتغيّر من مصائرهم، كما حدث في مشهد تقديمها للطعام للجندي المختبئ في القبو المخصّص لتخزين المياه، أو في مشهد مهاجمة الدواعش للجنود الذين بقوا في أحد المواقع لتغطية انسحاب رفاقهم، وحين قتلهم التنظيم تظهر لتجد واحدا من أبطاله، هو ابن الطبيب الجراح، على قيد الحياة، فتعطيه السكين لبتر الذراع المصاب، فيفعل، ثم تغيب.

يبدأ البناء السردي من مشهد لقاء ثلاثة جنود مع عالم الآثار خالد الأسعد عندما يلتقون به في المتحف الذي دخلوه لحماية الآثار، ونقلها إلى المتحف المركزي بدمشق، للحفاظ عليها من طوفان الظلام الذي كان في طريقه لتدمر، والتقاطهم 'سيلفي' معه، وحصول كلّ جندي على نسخة من الصورة بعد طباعتها، ثم يتوجه كل واحد إلى واجبه متتبعا نهايات تراجيدية للجنود الثلاثة من جانب، وآبائهم من جانب آخر، وعالم الآثار، والمخرج لا يرى أن تلك النهاية تراجيدية لأن موتهم شهادة في سبيل وطن صمد بوجه موجة ظلام قادمة من عصور سحيقة، بل بداية لحلم جديد، فهم 'أحياء عند ربهم يرزقون' لذا يظهرون مبتسمين في المشهد الأخير البانورامي الذي صوّر في مسرح روماني بقلب تدمر، ليجتمعوا بزنوبيا، كسرًا للعتمة المطبقة، التي غلّت الفيلم.

لقد كانت الخبرة السينمائية حاضرة، فأنزور من العلامات البارزة في الدراما السورية، وتاريخه مرصّع بإنجازات فنية عالية، وهو في هذا الفيلم كما قال في كلمته عند افتتاح 'الأيام السينمائية السورية في عُمان' إنه يسعى لصناعة ذاكرة سينمائية للحرب فجاءت الصورة جميلة، ونجحت الكاميرا في إظهار أبعاد المشهد، محاولا إمساك العصا من المنتصف، ليقدّم عملا فنيا متجنّبا الوقوع في الطرح المباشر، والتعبئة الجماهيرية، وأسهمت موسيقى الفنان رعد خلف في تعميق المشاهد، وتصعيد إيقاع الحزن في فيلم جاء مطعّما بالمنولوجات كمشهد عواء الذئب، وقصيدة لشاعر المحكية الكبير عمر الفرا:

اقنص معي يا ذيب

جوعك مثـل جوعـي

يا نفتـرس هـالـليـل

يا يطحنو ضلوعي

وطغت مشاعر البطولة على الممثلين الذين وقفوا شامخين كنخيل تدمر، وغاب الخوف، ومن بينها مشهد قيام جندي جريح بقطع يده، وآخر استقرت رصاصة في بطنه، فيقوم بإخراجها بنفسه، مغالبًا الجوع والعطش، ونزيف الدم ليدفن الصناديق التي تحمل الآثار في الصحراء بعد أن غرست عجلات سيارته بالرمل! فيما كانت التنظيم المتشدد في الغالب عامة، ولم يظهر الفيلم التنظيم كايديولوجيا تحمل الدمار، موليا النتائج أهمية أكبر.

أما الأداء، فلم يعتمد المخرج، كعادته في أعماله، على النجوم بل دأب على رفد السينما السورية بوجوه جديدة، فالفيلم من أداء: حمادة سالم، ومصطفى سعد الدين، ولجين إسماعيل، وجوان الخضر، ومجد نعيم، وجهاد الزغبي.

وفي الختام يحسب للمخرج أنه قدّم وثيقة دراميّة متحدّيا الظروف الإنتاجية الصعبة قبل أن ينخر ذاكرة الحرب سوس النسيان، وتتراكم الرمال على دم 'تدمر'.