أفكار وآراء

بوتين يحاول أن يغلب الغرب في لعبة الجنون

ترجمة أحمد شافعي -

بضمِّه أجزاء من أوكرانيا يوم الجمعة، أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العنان لتحويل روسيا إلى كوريا شمالية عملاقة. ستكون دولة معزولة غاضبة مصابة بجنون العظمة، لكن النسخة الروسية ـ خلافا لكوريا الشمالية ـ ستكون ممتدة عبر إحدى عشرة منطقة زمنية، من البحر المتجمد الشمالي إلى البحر الأسود ومن حافة أوروبا الحرة حتى حافة ألاسكا، وذات آلاف من الرؤوس النووية.

لقد عرفتُ روسيا وهي قوية، ومخيفة، لكني عرفتها وهي مستقرة أيضا، تحمل اسم الاتحاد السوفييتي. وعرفت روسيا حين كان عندها أمل، وقدرة على التحول إلى بلد ديمقراطي في ظل حكم ميخائيل جورباتشوف وبوريس يلتسين وحتى بوتين نفسه حينما كان أصغر عمرا. وعرفت روسيا حينما صارت مزعجة في ظل حكم بوتين الأكبر عمرا، فتقرصن مواقع الإنترنت الأمريكية، لكنها كانت لم تزل مستقرة، موثوقا فيها كمصدِّر للنفط وشريك أمني بين الحين والآخر للولايات المتحدة حينما كنا نحتاج إلى مساعدة موسكو إذا لزم الأمر.

لكن ليس بيننا من عرف روسيا اليائسة التي يبدو أن بوتين عازم على إيجادها، روسيا التي جعلت بعضا من خيرة مهندسيها ومبرمجيها وعلمائها الموهوبين يهربون من أي منفذ يمكنهم العثور عليه. ستكون هذه روسيا التي فقدت كثيرا من شركائها التجاريين فلم يبق لها من وسيلة للازدهار إلا بأن تكون مستعمرة غاز ونفط للصين.

روسيا كهذه ليس من شأنها أن تكون خطرا سياسيا وحسب. ولكنها سوف تكون مأساة إنسانية هائلة الحجم. فتحويل بوتين روسيا إلى ما يشبه كوريا الشمالية إنما هو تحويل لبلد منح العالم ذات يوم بعض أشهر المؤلفين والملحنين والموسيقيين والعلماء إلى بلد مختلف.

لكن مع ما جرى يوم الجمعة من ضم، يصعب انتظار أي نتاج آخر ما بقي بوتين في السلطة. لماذا؟ لقد اشتهر عن منظِّر الألعاب توماس شيلنج قوله إنك إذا ما لعبت مع سائق لعبة مواجهة السيارات، فخير وسيلة للفوز ـ أي خير وسيلة تحمل بها السائق الآخر على الانحراف أولا من الطريق الذي تتواجهان فيه ـ هي أن تعمد قبل بدء اللعبة بخلع مقود سيارتك وإلقائه من النافذة. فتكون رسالتك إلى السائق الآخر هي هذه: إنني أود أن أخرج من الطريق، لكنني لم أعد أستطيع أن أسيطر على سيارتي. فالأفضل أن تنحرف أنت!

ومحاولة التفوق على الخصم في الجنون تخصص لكوريا الشمالية. والآن تبنَّى بوتين ذلك بإعلانه في صخب هائل ضم روسيا لأربع مناطق أوكرانية: منطقتي لوهانسك ودنيتسك المدعومتين من روسيا واللتين تقاتل فيهما قوات موالية لبوتين قوات موالية لكييف منذ 2014، ومنطقتي خيرسون وزابوريزهيا المحتلتين منذ ما بعد فترة قصيرة من حرب فبراير. في قاعة جليلة من قاعات الكريملين، أعلن بوتين يوم الجمعة أن مواطني المناطق الأربع سيصبحون مواطنين روسيين إلى الأبد.

ما الذي يعتزمه بوتين؟ لا يمكن للمرء إلا أن يتكهن. ولنبدأ بسياساته الداخلية. قاعدة موسكو الشعبية لا تتمثل في طلبة جامعة موسكو. قاعدته هي القوميون اليمينيون الذين ازدادوا غضبا بسب ما حصل لروسيا في أوكرانيا. وللحفاظ على تأييدهم، ربما يكون بوتين قد شعر بالحاجة إلى إظهار أنه ـ باستدعائه للاحتياطي وإعلانه الضم ـ يخوض حربا حقيقية من أجل روسيا الأم، وليس مجرد عملية عسكرية خاصة مبهمة.

غير أن هذا قد يكون أيضا محاولة من بوتين للتلاعب وصولا إلى تسوية تفاوضية محابية له. فلن أندهش إذا ما أعلن قريبا عن استعداده لوقف إطلاق النار، واستعداده لإصلاح خطوط الأنابيب واستئناف الشحن إلى أي بلد مستعد للاعتراف بضم روسيا.

وقد يزعم بوتين حينئذ لقاعدته القومية أنه حصل على شيء من جراء حربه حتى لو أن هذا الشيء باهظ على نحو هائل، وأنه الآن يرضيه التوقف. وليس ثمة هنا غير مشكلة واحدة، هي أن بوتين لا يسيطر حقا على الأرض التي يضمها.

ذلك يعني أنه لا يستطيع التوصل إلى أي صفقة ما لم يقم بإخراج الأوكرانيين من كامل الأرض التي يزعم الآن ضمها، وإلا فسوف يكون هذا تسليما للأرض التي أعلن للتو أنها أراض روسيا ذات سيادة. وقد يكون هذا تطورا منذرا للغاية بالشر. فجيش بوتين المنهك لا يبدو قادرا على الاستيلاء على المزيد من الأرض، بل يبدو في واقع الأمر أنه يخسر المزيد كل يوم.

بإعلانه ضم أرض لا يحكم سيطرته عليها، أخشى أن بوتين يضع نفسه في مأزق لعله يشعر يوما أنه غير قادر على الهرب منه إلا بسلاح نووي.

وعلى أي حال، يبدو أن بوتين يتحدى كييف وحلفاءها الغربيين أن يواصلوا الحرب حتى الشتاء ـ والتضييق على إمدادات الغاز الطبيعي في أوروبا واحتمال وصول الأسعار إلى ارتفاعات فلكية ـ لاسترداد الأراضي التي وضع وكلاؤه الأوكرانيون بعضها تحت نفوذ روسيا منذ عام 2014.

هل ستنحرف أوكرانيا بالسيارة التي تستقلها هي والغرب من طريقه؟ هل سيبرمون مجبرين صفقة مع بوتين لإنهاء الحرب؟ أم ستواجهه أوكرانيا والغرب بالإصرار على ألا يخرج بوتين من هذه الحرب بمكاسب في الأرض، فنتمسك بمبدأ عدم السماح بالاستيلاء على الأرض بالقوة؟

لا تنخدعوا: ستشهد أوربا ضغطا داخليا من أجل الانحراف بالسيارة والقبول بعرض بوتين. ومن المؤكد أن هذا هو هدف بوتين، أن يقسم التحالف الغربي لينجو بـ'نصر' يحفظ ماء وجهه.

لكن ثمة مخاطرة قصيرة المدى بالنسبة لبوتين. إذا لم ينحرف الغرب بسيارته من طريقه، ولم يختر إبرام صفقة معه، بل ضاعف من قوته بمزيد من الأسلحة والدعم المالي لأوكرانيا، فثمة فرصة لأن ينهار جيش بوتين.

هذا ما لا يمكن التنبؤ به. ولكن إليكم ما يمكن التنبؤ به تماما: ثمة دينامية قائمة الآن سوف تدفع روسيا في ظل حكم بوتين إلى المزيد من التقدم صوب النموذج الكوري الشمالي. تبدأ بقرار بوتين قطع أغلب إمدادات الغاز الطبيعي عن أوربا الغربية.

وفي قطاع الطاقة ثمة خطيئة أساسية واحدة: فإياك أن تكون مصدرا غير موثوق به. لأن أحدا لن يثق بك مرة أخرى أبدا. وقد جعل بوتين من نفسه مصدرا غير موثوق به لبعض من أقدم زبائنه وأفضلهم، ابتداء بألمانيا وأغلب بلاد الاتحاد الأوربي. وهذه البلاد تبحث الآن عن مصادر بديلة طويلة الأمد للغاز الطبيعي وبناء المزيد من مصادر الطاقة المتجددة.

سوف يلزم ما بين عامين إلى ثلاثة أعوام لإنشاء شبكات خطوط أنابيب من شرق المتوسط والغاز الطبيعي المسيل من الولايات المتحدة وشمال أفريقيا للبدء في الحلول المستدام محل الغاز الروسي على نطاق كبير. لكن حينما يحدث ذلك، وحينما يتزايد إمداد الغاز الطبيعي العالمي بصفة عامة ليعوض خسارة الغاز الروسي ـ ومع تكاثر عمل مصادر الطاقة المتجددة ـ قد يواجه بوتين تحديا اقتصاديا حقيقيا. فقد يظل زبائنه القدامي يشترون بعض الطاقة من روسيا، لكنهم لن يعتمدوا مطلقا على روسيا اعتمادا تاما مرة أخرى. وسوف تعتصره الصين طلبا لتخفيضات.

باختصار، بوتين يقضي على أضخم موارده ـ بل ربما مورده الوحيد ـ للدخل المستدام بعيد المدى. وفي الوقت نفسه، يضمن بضمه لأراضي أوكرانيا أن العقوبات الغربية المفروضة على روسيا سوف تبقى مفروضة عليها، بل وقد تتسارع، وهو ما لن يؤدي إلا إلى تسارع انتقال روسيا إلى حالة الدولة الفاشلة، مثلما سينتقل من روسيا المزيد والمزيد بالتأكيد من أصحاب المهارات القابلة للتسويق عالميا.

لست مبتهجا بشيء من هذا. ولكن هذا هو الوقت الذي حان فيه أن يكون قادة الغرب أشداء وأذكياء معا. إنهم بحاجة إلى أن يعرفوا متى ينحرفون بالسيارة ومتى يرغمون السائق الآخر على الانحراف، ومتى يتركون نزرا من الكرامة للسائق الآخر، حتى لو تصرف بما ليست فيه أدنى مراعاة لأحد غيره. قد يكون الأمر أن بوتين لم يترك لنا خيارا إلا أن نتعلم التعايش مع كوريا شمالية روسية، على الأقل طالما هو في السلطة. ولو أن هذا هو الحال، فسيكون لزاما علينا أن نخرج بأفضل نتيجة، لكن أفضل نتيجة لن تكون إلا عالما أقل استقرارا.

• توماس فريدمان كاتب عمود في صحيفة نيويورك تايمز في الشؤون الخارجية مؤلف كتاب 'من بيروت إلى القدس'.

** 'خدمة نيويورك تايمز' ترجمة خاصة لجريدة عمان.