أفكار وآراء

ضرورة المختبر الاجتماعي

باقتراب الرؤية التنموية (عُمان 2040) من عامين على شروع العمل بأجندتها ومجمل التحولات الهيكلية التي هيئت لأولوياتها الوطنية مسار الانطلاق سواء كان فيما يتصل بإعادة هيكلة البناء والنظم والإجراءات الحكومية أو في تمهيد ومراجعة البنى التشريعية ذات الأولوية أو في مجمل عمليات تحقيق التوازن المالي وتسريع وتيرة المشروعات التنموية تصبح الحاجة ملحة إلى محاولة تشخيص اجتماعية لما يُمكن أن نسميه 'مُجتمع الرؤية'. وهو المجتمع الذي حددت له وثيقة الرؤية سياق تصوريًا كونه 'مجتمع إنسانه مُبدع، معتز بهويته، مبتكر ومنافس عالميًا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام'. وتقتضي محاولة التشخيص التي نعنيها هنا طرح مجموعة من الأسئلة كالتالي:

ما الذي تغير في سياق 'مجتمع الرؤية'. وهنا نقصد على مستوى الأنساق الاجتماعية الأكبرى والأدوار المطلوبة منها. هل ثمة ملامح أولية تشيئ إلى أن هناك تحول في أدوار تلك الأنساق باتجاه تخليق 'مجتمع الرؤية' المنشود؟

هل اكتملت التهيئة التشريعية والبرامجية والاستراتيجية التي يمكن أن تمهد باتجاه الشروع في تنفيذ الأولويات الوطنية المتصلة بـ 'مجتمع الرؤية'؟ ونركز هنا على أولوية 'المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية' كونها أولية متمايزة في طبيعة مستهدفاتها التي لابد أن تخضع لقياس مزودج كيفي – كمي لفهم تحولاتها ومستوى التقدم المحرز في تحقيقها.

هل علينا أن نمسك بظواهر اجتماعية معينة تحت المجهر الاجتماعي وتعتبر أولويات مرحلة لمعالجتها ولتخليق نقاش مؤسسي جامع حولها قصد التصدي لها أو التكيف معها في إطار 'مجتمع الرؤية'؟

تلك أسئلة أولية وتحت كل سؤال يطرح 'مجتمع الرؤية' عديد الأسئلة التفصيلية التي نعتقد أن 'ضرورة المختبر الاجتماعي' فيها لا تقل أهمية عن المختبرات الأخرى الموجهة للشأن الاقتصادي. مؤخرًا أثارت الأرقام التي تضمنها 'تقرير الحالة الزواجية في سلطنة عُمان (إصدار 2022/بيانات 2021)' نقاشًا موسعًا وخاصة عبر وسائط الوصل الاجتماعي وعبر تفسيرات واسعة لارتفاع حالات الطلاق. وهو ما يقتضي في تقديرنا إيجاد تحليلات أكثر منهجية لمثل هذه القضايا تأخذ في الاعتبار عوامل منها مدى توازي المسألة مع النمو السكاني وعلاقتها بالأوضاع الاقتصادية للأفراد وخاصة (الأسر التي يحدث فيها الطلاق) إضافة إلى عوامل التغير في بناء أو تركيبة الأسرة وقياس التحول من الأسر الممتدة إلى النووية وكيف يحدث ذلك بشكل دوري على مستوى تركيبة المجتمع مع الأخذ في الاعتبار كذلك عوامل التحضر وأدوارها ومسائل التغير في المفاهيم المرتبطة بالزواج والعملية الزواجية. هذه الأسئلة قد تجيب عنها بعض الدراسات التي تجرى على فترات متفرقة وعلى عينات محدودة إلا أننا نرى بضرورة رصد أكثر مؤسسية وبشكل أكثر استمرارية للوصول إلى الحكم المنهجي على الظاهرة والتعامل الأسلم معها. وبعد ذلك يمكن إجراء 'مختبرات اجتماعية' يدعها إليها المختصين المؤسسيين والأكاديميين والعاملين في التشريع والمتعاملين مع قضايا الأسرة للخروج ببرامج ومبادرات (على المستوى الوطني) تأخذ صفتها على غرار أية مبادرات أخرى تخرج من المختبرات التي تصمم لتحديد التوجهات الوطنية أو القطاعية.

وقس على قضية الحالة الزواجية كذلك النقاش الذي أخذ حيزًا مجتمعيًا واسعًا حول بعض الاتجاهات الفكرية وتداعيها إلى الواقع الاجتماعي العُماني وطريقة تعامل القاعدة المجتمعية معها. فمثل هذه النقاشات في تقديرنا يجب كذلك أن توضع تحت المختبر الاجتماعي ما دام أن الرؤية الوطنية قد تناولت أولوية مستقلة تعنى بـ 'الهوية' وتشتغل على الوصول إلى تحقيق أهداف استراتيجية من بينها:

'مجتمع معتز بهويته ومواطنته وثقافته...'

'مجتمع أفراده يتصفون بالمسؤولية، مدركون لحقوقهم، وملتزمون بواجباتهم'.

وقد تقف المختبرات التي ندعو إليها كذلك على تشخيص أسئلة مرتبطة بالحالة السكانية وما إذا كانت الأحجام السكانية الحالية داعمة للاقتصاد ومتناسقة مع مستهدفاته ومن الممكن أن تطرح كذلك أسئلة مرتبطة بالآلية التي يمكن من خلالها تكييف أنشطة السكان المحليين في محافظات معينة مع اتجاهات الاستراتيجية العُمرانية وكيفية خلق أنشطة انتاج قائمة للسكان المحليين تتوافق مع ما تطمح إليه الاستراتيجية من نموذج اقتصادي وانتاجي لكل محافظة. ويمكن أن تشخص المختبرات كذلك بعض التجارب والممارسات الدولية الفضلى وقائمة على الابتكار في تعزيز الرفاه الاجتماعي في مفهومه المتكامل. في واحدة من التجارب التي يرصدها تقرير الابتكار الحكومي لتعزيز الرفاه الاجتماعي الصادر عن مركز محمد بن راشد للابتكار الحكومي يرصد التقرير مبادرة ' ” ThriveNYCالتي نفذت في ولاية نيويورك والتي تستهدف الحد من تداعيات الأمراض النفسية وتعميم الصحة النفسية بين سكان الولاية حيث كانت المعطيات قبل 2015 تشير إلى الآتي:

واحد من كل خمسة بالغين في نيويورك معرض لاحتمال الإصابة بمرض نفسي.

نسبة حوادث الانتحار في المدارس ترتفع لتصل إلى 8%

نصف مليون من المقيمين في نيويورك معرض في أي وقت للإصابة بالاكتئاب.

خسرت المدينة في معدلات الانتاجية السنوية ما يزيد عن 14 مليار دولار.

وضعت المدينة استراتيجية متكاملة تقوم على تعزيز الصحة الاستباقية في الأمراض النفسية. والمميز في فكرة المبادرة أنها درست سلسلة الصحة النفسية بكاملها ووضعت في كل جزء منها مبادرات تنفيذية تعزيز استباق وقوع المرض النفسية لفئات السكان في المراحل العمرية المختلفة.

إذن نتوقع كتصور أولي للمختبرات الاجتماعية أن تناقش محاور من قبيل 'الهوية والقيم المجتمعية في عالم متغير – المشكلات والظواهر الاجتماعية القصوى – السياسات السكانية والعمرانية والاتساق الاقتصادي – دور المؤسسات المجتمعية في الابتكار الاجتماعي – الابتكار الحكومي في تقديم الخدمات الاجتماعية) وأن يخرج من كل محور من هذه المحاور تشخيصًا دقيقًا للواقع مستندًا إلى الأرقام والنقاشات المعمقة للمختصين والتنفيذيين في المجالات ذات العلاقة ويؤمل أن تخلص إلى مبادرات وطنية (متوسطة – طويلة) المدى لمعالجة الإشكالات المنبثقة من كل محور أو للاستثمار والتعزيز الأمثل للقيم والمكن والفرص التي يمثلها معطى كل محور من المحاور المذكورة. إن ضرورة المختبر الاجتماعي في اللحظة الراهنة ضرورة قصوى لمناقشة المشكلات والظواهر الاجتماعية بمنهجية أكبر ولتكون هواجسنا تجاه الهوية والقيم والقضايا الاجتماعية هواجس دقيقة وليكون اشتغالنا أكثر منهجية تجاه 'مجتمع الرؤية' الذي نريده بحلول 2040.