بندقية «عويدة» (2-2)
الثلاثاء / 30 / صفر / 1444 هـ - 15:53 - الثلاثاء 27 سبتمبر 2022 15:53
تحدثنا في الجزء الأول حول مفهوم التخيّيل التاريخي، وفي هذا الجزء نُكمل ما تبقى.
* حول البطولة الجماعية:
يضطلع السرد في البيرق بتقويض مفهوم البطل الشعبي الأوحد والخارق زمانًا ومكانًا ليؤسس بدلًا عنه بطولة وحراك المجموع البشري ككُّل، بدءًا من 'ناصر بن حمد، وعويدة وصالحا، وخديجة، مرورا بأهل الحارة نساءً ورجالا وصغارًا، ليغدو المصير بإنقاذ القرية هاجس الجميع.
وهذا المكوّن يُذكرنا بتعبير المنهج التكويني للوسيان غولدمان بمفهوم الرؤية Vision الذي اقترحه في منهجه النقدي ليبرز من خلاله الكيفية التي تُعبر بها المجموعات الطبقية عن أشواقها وطموحاتها الفردية وأفكارها الملتحمة مع قيمها ومعتقداتها وقناعاتها.
وينبع الحسَّ العام بالبطولة من أبعاد بناء الشخصيّات كالرئيسة مثلا: «أقسمَ صالح بخالقه أنّه سينتقم لبيته ولحارته-ص204'، والثانوية مثلا: 'اسمع مِنّي، هذي الصَّمعة ما أنزّلها من كتفي ما دامت الحرب قائمة، الحرب حربنا والبلاد بلادنا-ص327'، وكذلك الصغار الذين جاء حديثهم في مستوى متقارب إلى حد بعيد، مثلا: 'قال لهم حمود في حماس في يوم من الأيام أذهب إلى قمة الجبل، وأتدرّب على حمل السلاح، وأحارب من هدموا بيوتنا، ولن يوقفني شيء، أتجاوز الوادي وأنتقم لحارتي وأبناء حارتي-ص286'.
تنطوي جمالية بناء شخصية عويدة على تضافر خصائص الشخصية المركزية التي تدور حولها الأحداث، ومن خلالها نرى كلّ شيء، وبواسطتها تؤدي كما أشرنا في موضع سابق قيامها بمهمة الإبلاغ. فعويدة تجسّد تراجيديا الأم بما يكتنز من إحالات، سواء المُعلنة أو المُضَمرة. في أعقاب دخول العسكر لهدم بيوت الحارة وتذكرّها لبندقية ناصر يأخذ سير الرواية بعدًا ليكشف عن مكوّن عويدة الصلّد، فلم تضعف أو ترتبك فالبندقية في يدها وأمامها العسكر 'بل ألقمت البندقية رصاصة كانت في يدها الأخرى وبسرعة ودقة وبمهارة أذهلت الضابط والعسكر الذين معه، صوّبت بندقيتها تجاههم...إلخ-ص155'، لينتهي الفصل بإطلاق عويدة رصاصتها في الهواء. عند هذا الموقف ستتجه مشاعر القراء إلى الرغبة أن تَطلق عويدة الرصاصة في صدر العدو، لكن الحكاية لم تكتمل وعليه: هل ستتذكر عويدة ذلك الموقف؟ وماذا يمكن أن تقول عنه؟ إنّ إدراكها لعدم فائدة المُقاومة يُرجح كفة التراجع والانسحاب من المعركة.
يبدأ الفصل رقم (47) بجملة قوية تقطع الأنفاس: 'الجيش في الحارة، الجيش في الحارة'، ومع تقدم الأحداث بانتشار الجنود وتحليق الطائرات وسؤال خديجة الذي يتنزّل في زمن الماضي الممتد مع الحاضر: 'ماذا يريدون منهم أكثر ممّا فعلوه فيهم-ص350' واعتمال الغضب في أعماقها واستمرار الحصار خمسة أيام بلياليها ليتبع ذلك الفصل (48) لنشاهد فيه مقتل خديجة برصاص رشاشات العسكر، وأراه من أكثر الفصول ألمًا ووجعًا لسهولة مطابقة مقتلها مع أحداث شبيهة معاصرة لنا. إن مقاومة أهل حارة الوادي، يمكن عدّه موقفا طبيعيا لشخصيات الرواية، فالفضاء الثقافي ينبع من قيم الكرامة والشجاعة التي تربوا فيها لذلك يجدون أنفسهم يتبنون وجهة النظر الخاصة بالرؤية ويسيرون من خلالها بدرجات متباينة من الوعي.
حول كائنات الجن وعلم السحر
تبني الرواية سردها التخيلي من عوالم مملكة الجن الخفية التي لا نعلم عنها إلا في حدود ما جاء في الرواية، وتبدى ذلك في علاقة ناصر زوج عويدة بما جرى معه في ليلة باردة دخل بسببها إلى كهف يطلب الدفء ويدفعه الفضول ليتتبع رائحة العطر النفاذة ومنجذبا نحو الضوء فيلتقي هناك مع (شمهروش) الذي يخبره أن (ميمونة) ابنة شيخ الجن قد تربصت به فأحبته وتمنت الزواج منه، فوافق أبوها نزولا تحت إصرارها، وحينما سألهم عن مهرها أخبروه أن مهرها كلمة، والسّر في تلك الكلمة التي لا يجب أن يفشيها لأحد! (ص21-26).
فالاستعانة بمكوّن الجن والسحرة، من شأنه أن يضفي على الواقعية الاجتماعية في بعدها العجائبي نشاطا وتوسعًا وخصوبة، لذلك يضطلع السرد بنسج بعض الموتيفات المتكررة ذات الوَحَدات السردية الصغيرة التي سيكون لها تأثيرها في مجرى أحداث الرواية، فمنذ الصفحة (25) وفي غيرها من الصفحات لا نتعرف على وجود مملكة الجن وما تتمتع به من قوانين وناموس وأعراف يمكن أن يجهلها الإنسان السوّي فحسب، بل نشاهد الاعتقاد المتأرجح ما بين اليقين والظن، والعلم، والجهل، والطاقة التخيلية التي تمتلكها تلك القوى العجائبية الخفية للتأثير على مصائر الشخصيات وتبدل أحوالها (الطفل حمد مثلا-ص34) ولا شك، سيظل هذا الجزء من عالم الرواية مجهولا بالنسبة إلينا، لكِّونه موتيف بتعبير الشكلانيين جامدًا، ووفقا لمعجم السرديات 'فالموتيفات الجامدة لا تُغير أيّ موقف.' فالاتصال الأول الحاصل بين (ابن الليل) والجنية (ميمونة) ما زال يفتح شهيتنا كقراء لمعرفة ماذا يُمكن أن يحصل من تغيرات!.
ويقابل عالم (مملكة الجن) في الأرض، عالم آخر شديد العمق والغرابة، إنّه عالم العبودية والعنصرية، ويُتستر ويُتكتم حول خلفيته التي قَدم منها! كأن الكاتبة تضع أمامنا لعبة المُكعب السحري (روبيك) لتكرّس لِما يعتمل في مجتمع حارة الوادي من انقسامات طبقية وملابسات تاريخية معقدة. وبنظرة عمودية تنشغل الكاتبة بتنوّع حياة عوالم شخصيات البيرق، سواء التي يمتدّ تاريخها القبلي إلى الجدّ السابع، أو تلك القادمة من تجارة العبيد. فنتعرّف على الخادمة (زْوَردَة) التي اشتراها ناصر لأمه من أحد تجار زنجبار كي تساعدها في أعمال البيت وكيف اتسمت علاقتهما بالشفافية والمودة-ص68، وفي موازاة علاقة الخادمة الهادئة بأسيادها، هناك علاقة أخرى مبنية على الاحتجاج والرفض المُعلن تمثله علاقة خصيف: 'الجايب قنحه معه'، والمُحمّل بذكريات موجعة عن 'حارة الوادي ونخيلها وفَلَجها وحروبها وجوع أهلها وفقرهم' ليفتح السرد على فضاءات متوترة، تارة تُجلي الماضي، وتارة أخرى تشكّك في استقرار الحاضر فيما يخصُّ مفاهيم المساواة والتحضّر. فهذه شخصية العارفة (صبيحة) تكشف سّر خصيف وأمه (حبيبة) الخادمة والشيخ الذي لم يجرؤ على الاعتراف بأبوته له للحفاظ على مكانته الاجتماعية! إن (خصيف) نموذجا للتمرد الواعي، وموقفه ذلك لا يمكن فصله عن الأسباب التي دفعته إلى اختيار طريق الرحيل.
ختاما:
في مستوى الإنجاز السردي للرواية، فإنّ البيرق للكاتبة شريفة التوبي من بين الروايات العمانية القليلة التي تتجه إلى ما يُعرف في السرد العربي الحديث برواية الأجيال أو الرواية النهرية كما يُعرفها الأديب واسيني الأعرج قائلا: 'يُطلق مصطلح الرواية النهرية على الروايات ذات المساحات الطويلة، والأجواء الكثيرة التي توحدها إشكالية مشتركة، قبل أن يُختزل المفهوم في الرواية الواحدة والطويلة'، ويذهب كلٌّ من حمزة فاضل يوسف وحسن مجّد عبدالكريم في بحثهما (رواية الأجيال: مشكلة المصطلح وتكوّن النوع الأدبي) إلى تعريفها على هذا النحو: 'تُعرّف رواية الأجيال بأنها رواية طويلة جدا يشترك في صنع أحداثها عدد كبير من الشخصيات المنتمية -في الغالب- إلى أجيال متعددة.'
وعطفًا على هذا التخريج الذي أرتاح إليه مؤقتا، ومن أجواء عالم حارة الوادي التي نَسجت شريفة التوبي أحداثها في زمن الخمسينيات من القرن العشرين، يُمكن القول إن بندقية عويدة 'الصّمَعة' لم تَنطلق منها كُّل رصاصاتها.
حفلت الرواية جماليا بطابع التصوير الأثنوجرافي لأنماط العيش والعادات والتقاليد في زمن الخمسينيات -الطابع الغالب على فصول الرواية- دون التضحية بفكرة خيوط المقاومة (الفصل 19 مثلا)، ويدفع هذا إلى استنتاج أن الكاتبة سعت أن تسرد تفاصيل الحياة الاجتماعية في حارة الوادي وفعل البطولة الوطنية الجماعية لمقاومة العدو بالسير في خط مواز لمستوى البناء التقليدي للرواية، دون استثمار لحيل سردية إلا في مناطق قليلة كمخاوف وأحلام عويدة التي تتحقق.
إن الكاتبة تجعل من العلم أحد أشكال مقاومة العدو لا المصالحة معه، وما تمرّد صالح وجموع الذين أُلقيَ بهم في سجن القلعة؛ موقفا لتبني طريق المقاومة والسير فيه، ويشير نشيد التَّيمينَة في الفصل الأخير إلى انفتاح ذلك الطريق في المرتبة الدينية التي تخللت بنية فضاء الرواية:
'الحمدلله الذي هدانا آمين، للدين والإسلام، واجتبانا آمين'
إن الأدب كما يكتب صلاح فضل في (مناهج النقد المعاصر) هو 'إنتاج تخيلي وإبداعي يُغاير نوعيا طبيعة الحياة الخارجية بكل ما يعتمل فيها من عوامل متعددة'، وعليه ستظل البيرق رواية فنية تخيلية تدفع القارئ إلى اختبار الجّدل المتكرر حول علاقة الرواية بالتاريخ ورؤية الواقع الاجتماعي في حقبة زمنية لم يُشتبك معها الكثير على نحو جادّ، وسَيجد القراء أنفسهم ينتظرون إجابات عن الكلمة التي لم يقلها لنا ناصر؟ وأين ذهبت قروش الفضة الكثيرة؟ وهل سيظهر أثرها؟ وهل هناك دورا ستلعبه الجنية الفاتنة؟ إنها أسئلة ستضطلع بإجابتها الروائية شريفة التوبي في الجزء المُكمل للحكاية غير المُكتملة.
* حول البطولة الجماعية:
يضطلع السرد في البيرق بتقويض مفهوم البطل الشعبي الأوحد والخارق زمانًا ومكانًا ليؤسس بدلًا عنه بطولة وحراك المجموع البشري ككُّل، بدءًا من 'ناصر بن حمد، وعويدة وصالحا، وخديجة، مرورا بأهل الحارة نساءً ورجالا وصغارًا، ليغدو المصير بإنقاذ القرية هاجس الجميع.
وهذا المكوّن يُذكرنا بتعبير المنهج التكويني للوسيان غولدمان بمفهوم الرؤية Vision الذي اقترحه في منهجه النقدي ليبرز من خلاله الكيفية التي تُعبر بها المجموعات الطبقية عن أشواقها وطموحاتها الفردية وأفكارها الملتحمة مع قيمها ومعتقداتها وقناعاتها.
وينبع الحسَّ العام بالبطولة من أبعاد بناء الشخصيّات كالرئيسة مثلا: «أقسمَ صالح بخالقه أنّه سينتقم لبيته ولحارته-ص204'، والثانوية مثلا: 'اسمع مِنّي، هذي الصَّمعة ما أنزّلها من كتفي ما دامت الحرب قائمة، الحرب حربنا والبلاد بلادنا-ص327'، وكذلك الصغار الذين جاء حديثهم في مستوى متقارب إلى حد بعيد، مثلا: 'قال لهم حمود في حماس في يوم من الأيام أذهب إلى قمة الجبل، وأتدرّب على حمل السلاح، وأحارب من هدموا بيوتنا، ولن يوقفني شيء، أتجاوز الوادي وأنتقم لحارتي وأبناء حارتي-ص286'.
تنطوي جمالية بناء شخصية عويدة على تضافر خصائص الشخصية المركزية التي تدور حولها الأحداث، ومن خلالها نرى كلّ شيء، وبواسطتها تؤدي كما أشرنا في موضع سابق قيامها بمهمة الإبلاغ. فعويدة تجسّد تراجيديا الأم بما يكتنز من إحالات، سواء المُعلنة أو المُضَمرة. في أعقاب دخول العسكر لهدم بيوت الحارة وتذكرّها لبندقية ناصر يأخذ سير الرواية بعدًا ليكشف عن مكوّن عويدة الصلّد، فلم تضعف أو ترتبك فالبندقية في يدها وأمامها العسكر 'بل ألقمت البندقية رصاصة كانت في يدها الأخرى وبسرعة ودقة وبمهارة أذهلت الضابط والعسكر الذين معه، صوّبت بندقيتها تجاههم...إلخ-ص155'، لينتهي الفصل بإطلاق عويدة رصاصتها في الهواء. عند هذا الموقف ستتجه مشاعر القراء إلى الرغبة أن تَطلق عويدة الرصاصة في صدر العدو، لكن الحكاية لم تكتمل وعليه: هل ستتذكر عويدة ذلك الموقف؟ وماذا يمكن أن تقول عنه؟ إنّ إدراكها لعدم فائدة المُقاومة يُرجح كفة التراجع والانسحاب من المعركة.
يبدأ الفصل رقم (47) بجملة قوية تقطع الأنفاس: 'الجيش في الحارة، الجيش في الحارة'، ومع تقدم الأحداث بانتشار الجنود وتحليق الطائرات وسؤال خديجة الذي يتنزّل في زمن الماضي الممتد مع الحاضر: 'ماذا يريدون منهم أكثر ممّا فعلوه فيهم-ص350' واعتمال الغضب في أعماقها واستمرار الحصار خمسة أيام بلياليها ليتبع ذلك الفصل (48) لنشاهد فيه مقتل خديجة برصاص رشاشات العسكر، وأراه من أكثر الفصول ألمًا ووجعًا لسهولة مطابقة مقتلها مع أحداث شبيهة معاصرة لنا. إن مقاومة أهل حارة الوادي، يمكن عدّه موقفا طبيعيا لشخصيات الرواية، فالفضاء الثقافي ينبع من قيم الكرامة والشجاعة التي تربوا فيها لذلك يجدون أنفسهم يتبنون وجهة النظر الخاصة بالرؤية ويسيرون من خلالها بدرجات متباينة من الوعي.
حول كائنات الجن وعلم السحر
تبني الرواية سردها التخيلي من عوالم مملكة الجن الخفية التي لا نعلم عنها إلا في حدود ما جاء في الرواية، وتبدى ذلك في علاقة ناصر زوج عويدة بما جرى معه في ليلة باردة دخل بسببها إلى كهف يطلب الدفء ويدفعه الفضول ليتتبع رائحة العطر النفاذة ومنجذبا نحو الضوء فيلتقي هناك مع (شمهروش) الذي يخبره أن (ميمونة) ابنة شيخ الجن قد تربصت به فأحبته وتمنت الزواج منه، فوافق أبوها نزولا تحت إصرارها، وحينما سألهم عن مهرها أخبروه أن مهرها كلمة، والسّر في تلك الكلمة التي لا يجب أن يفشيها لأحد! (ص21-26).
فالاستعانة بمكوّن الجن والسحرة، من شأنه أن يضفي على الواقعية الاجتماعية في بعدها العجائبي نشاطا وتوسعًا وخصوبة، لذلك يضطلع السرد بنسج بعض الموتيفات المتكررة ذات الوَحَدات السردية الصغيرة التي سيكون لها تأثيرها في مجرى أحداث الرواية، فمنذ الصفحة (25) وفي غيرها من الصفحات لا نتعرف على وجود مملكة الجن وما تتمتع به من قوانين وناموس وأعراف يمكن أن يجهلها الإنسان السوّي فحسب، بل نشاهد الاعتقاد المتأرجح ما بين اليقين والظن، والعلم، والجهل، والطاقة التخيلية التي تمتلكها تلك القوى العجائبية الخفية للتأثير على مصائر الشخصيات وتبدل أحوالها (الطفل حمد مثلا-ص34) ولا شك، سيظل هذا الجزء من عالم الرواية مجهولا بالنسبة إلينا، لكِّونه موتيف بتعبير الشكلانيين جامدًا، ووفقا لمعجم السرديات 'فالموتيفات الجامدة لا تُغير أيّ موقف.' فالاتصال الأول الحاصل بين (ابن الليل) والجنية (ميمونة) ما زال يفتح شهيتنا كقراء لمعرفة ماذا يُمكن أن يحصل من تغيرات!.
ويقابل عالم (مملكة الجن) في الأرض، عالم آخر شديد العمق والغرابة، إنّه عالم العبودية والعنصرية، ويُتستر ويُتكتم حول خلفيته التي قَدم منها! كأن الكاتبة تضع أمامنا لعبة المُكعب السحري (روبيك) لتكرّس لِما يعتمل في مجتمع حارة الوادي من انقسامات طبقية وملابسات تاريخية معقدة. وبنظرة عمودية تنشغل الكاتبة بتنوّع حياة عوالم شخصيات البيرق، سواء التي يمتدّ تاريخها القبلي إلى الجدّ السابع، أو تلك القادمة من تجارة العبيد. فنتعرّف على الخادمة (زْوَردَة) التي اشتراها ناصر لأمه من أحد تجار زنجبار كي تساعدها في أعمال البيت وكيف اتسمت علاقتهما بالشفافية والمودة-ص68، وفي موازاة علاقة الخادمة الهادئة بأسيادها، هناك علاقة أخرى مبنية على الاحتجاج والرفض المُعلن تمثله علاقة خصيف: 'الجايب قنحه معه'، والمُحمّل بذكريات موجعة عن 'حارة الوادي ونخيلها وفَلَجها وحروبها وجوع أهلها وفقرهم' ليفتح السرد على فضاءات متوترة، تارة تُجلي الماضي، وتارة أخرى تشكّك في استقرار الحاضر فيما يخصُّ مفاهيم المساواة والتحضّر. فهذه شخصية العارفة (صبيحة) تكشف سّر خصيف وأمه (حبيبة) الخادمة والشيخ الذي لم يجرؤ على الاعتراف بأبوته له للحفاظ على مكانته الاجتماعية! إن (خصيف) نموذجا للتمرد الواعي، وموقفه ذلك لا يمكن فصله عن الأسباب التي دفعته إلى اختيار طريق الرحيل.
ختاما:
في مستوى الإنجاز السردي للرواية، فإنّ البيرق للكاتبة شريفة التوبي من بين الروايات العمانية القليلة التي تتجه إلى ما يُعرف في السرد العربي الحديث برواية الأجيال أو الرواية النهرية كما يُعرفها الأديب واسيني الأعرج قائلا: 'يُطلق مصطلح الرواية النهرية على الروايات ذات المساحات الطويلة، والأجواء الكثيرة التي توحدها إشكالية مشتركة، قبل أن يُختزل المفهوم في الرواية الواحدة والطويلة'، ويذهب كلٌّ من حمزة فاضل يوسف وحسن مجّد عبدالكريم في بحثهما (رواية الأجيال: مشكلة المصطلح وتكوّن النوع الأدبي) إلى تعريفها على هذا النحو: 'تُعرّف رواية الأجيال بأنها رواية طويلة جدا يشترك في صنع أحداثها عدد كبير من الشخصيات المنتمية -في الغالب- إلى أجيال متعددة.'
وعطفًا على هذا التخريج الذي أرتاح إليه مؤقتا، ومن أجواء عالم حارة الوادي التي نَسجت شريفة التوبي أحداثها في زمن الخمسينيات من القرن العشرين، يُمكن القول إن بندقية عويدة 'الصّمَعة' لم تَنطلق منها كُّل رصاصاتها.
حفلت الرواية جماليا بطابع التصوير الأثنوجرافي لأنماط العيش والعادات والتقاليد في زمن الخمسينيات -الطابع الغالب على فصول الرواية- دون التضحية بفكرة خيوط المقاومة (الفصل 19 مثلا)، ويدفع هذا إلى استنتاج أن الكاتبة سعت أن تسرد تفاصيل الحياة الاجتماعية في حارة الوادي وفعل البطولة الوطنية الجماعية لمقاومة العدو بالسير في خط مواز لمستوى البناء التقليدي للرواية، دون استثمار لحيل سردية إلا في مناطق قليلة كمخاوف وأحلام عويدة التي تتحقق.
إن الكاتبة تجعل من العلم أحد أشكال مقاومة العدو لا المصالحة معه، وما تمرّد صالح وجموع الذين أُلقيَ بهم في سجن القلعة؛ موقفا لتبني طريق المقاومة والسير فيه، ويشير نشيد التَّيمينَة في الفصل الأخير إلى انفتاح ذلك الطريق في المرتبة الدينية التي تخللت بنية فضاء الرواية:
'الحمدلله الذي هدانا آمين، للدين والإسلام، واجتبانا آمين'
إن الأدب كما يكتب صلاح فضل في (مناهج النقد المعاصر) هو 'إنتاج تخيلي وإبداعي يُغاير نوعيا طبيعة الحياة الخارجية بكل ما يعتمل فيها من عوامل متعددة'، وعليه ستظل البيرق رواية فنية تخيلية تدفع القارئ إلى اختبار الجّدل المتكرر حول علاقة الرواية بالتاريخ ورؤية الواقع الاجتماعي في حقبة زمنية لم يُشتبك معها الكثير على نحو جادّ، وسَيجد القراء أنفسهم ينتظرون إجابات عن الكلمة التي لم يقلها لنا ناصر؟ وأين ذهبت قروش الفضة الكثيرة؟ وهل سيظهر أثرها؟ وهل هناك دورا ستلعبه الجنية الفاتنة؟ إنها أسئلة ستضطلع بإجابتها الروائية شريفة التوبي في الجزء المُكمل للحكاية غير المُكتملة.