أفكار وآراء

أوكرانيا وشتاء القرار المقبل

من الواضح أن الحرب التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا، والتي بدأها الرئيس فلاديمير بوتن في عام 2014 وتوسعت في فبراير من عامنا هذا، اتخذت منعطفا دراماتيكيا في أعقاب نجاح القوات الأوكرانية، في أقل من أسبوع، في تحرير نحو 3400 ميل مربع (8800 كيلومتر مربع) من أراضيها في منطقة خاركيف شمال شرق البلاد. كان المنظرون الاستراتيجيون الروس، الذين ركزوا في ما يبدو على الهجوم المضاد الأوكراني الجاري في جنوب البلاد، غير مستعدين لهذه الهجمات.

ما حدث كان منعطفا في الحرب حقا، لكنه لا يشكل نقطة تحول بعد. من المبكر للغاية أن نستقرئ من مكاسب أوكرانيا في منطقة واحدة، ناهيك عن الاستنتاج بأن ما حدث في خاركيف يبشر بمكاسب مماثلة في البلد بأسره. فلا تزال روسيا تحتل الغالبية العظمى من الأراضي التي استولت عليها في عام 2014 وفي وقت لاحق، ويرى كثيرون من الروس أن شبه جزيرة القرم بشكل خاص ملكا خالصا لهم. ويشير هذا إلى أن استردادها سيكون أمرا بالغ الصعوبة، خاصة وأن إدارة العمليات الهجومية تتطلب قوة عسكرية أكبر من تلك المطلوبة للدفاع.

مع ذلك، يظل ما أنجزته أوكرانيا مهما بكل المقاييس وأدى إلى تحول كبير في فِـكر الحكومة الأوكرانية، كما عَـلِـمت بشكل مباشر من زيارتي لكييف. قبل بضعة أشهر، كان الهدف من منظور العديد من الأوكرانيين هو بقاء أوكرانيا مستقلة وقادرة على الحياة ــ حتى ولو لم تكن الدولة تمتلك كل أراضيها. لكن أهداف الحكومة الأوكرانية في هذه الحرب ــ التي تحدد ما يشكل نصرا ــ أصبحت أكثر طموحا، بسبب القوة الروسية والمكاسب الأخيرة التي حققتها القوات الأوكرانية على الأرض. في الإجابة على سؤالي، دعا وزير الدفاع أوليكسي ريزنيكوف إلى استعادة جميع أراضي أوكرانيا، بما في ذلك ما استولت عليه روسيا في عام 2014. ثم أضاف إلى هذا الدعوة إلى فرض تعويضات اقتصادية على روسيا لتمويل فاتورة إعادة البناء التي تقدر بنحو 350 مليار دولار. وأصر على إخضاع أولئك في روسيا المسؤولين عن هذا العمل وما ارتبط به من جرائم حرب للمساءلة القانونية.

سوف تؤثر التطورات العسكرية الأخيرة أيضا على السياسات التي تنتهجها الدول الأوروبية، حيث أشعل ارتفاع أسعار الطاقة شرارة المعارضة لتزويد أوكرانيا بالسلاح والمال. لكن الحجة القائلة بأن التفوق العسكري الروسي جعل الدعم المقدم لأوكرانيا عديم الفائدة تبين الآن أنها جانبت الصواب. ومع قيام روسيا بقطع إمدادات الغاز، سيجعل النجاح العسكري الذي حققته أوكرانيا مؤخرا من الأسهل على الحكومات الأوروبية تبرير التضحيات الاقتصادية والشخصية أثناء ما يَـعِـد بأن يكون شتاء قاسيا.

يخلف الهجوم المضاد في أوكرانيا تأثيرا قويا على السياسة الروسية أيضا. فسوف يضطر بوتن، الذي يواجه انتقادات متزايدة من القوى القومية المحافظة في الداخل، إلى اتخاذ القرار بشأن ما إذا كان عليه أن يضاعف المجهود الحربي، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن تدبير التكاليف اللازمة. إن القيام بالمزيد وطلب المزيد من الشعب الروسي ليس بلا مخاطر سياسية محلية، لكنه قد يكون في نظر بوتن أقل خطورة من مسار العمل الذي يؤدي إلى هزائم عسكرية إضافية متتالية.

في الوقت الراهن، من المحتمل أن يدوم القتال العنيف في شمال شرق وجنوب البلاد عدة أشهر أخرى. ولكن في نهاية المطاف، سيتضاءل نطاق القتال نتيجة للطقس القارس البرودة وعدم قدرة أي من الجانبين على تحمل عمليات عسكرية ضخمة.

الواقع أن انحسار القتال على هذا النحو من شأنه أن يوفر الوقت للتأمل والتفكير. يتعين على قادة أوكرانيا أن يفكروا في توسيع أهدافهم الحربية وما إذا كانت جميعها على ذات القدر من الأهمية. وهنا، ستكون التكاليف الاقتصادية المتنامية المترتبة على الحرب بين الاعتبارات الرئيسية: خسارة ما يقدر بنحو ثلث الناتج، والتضخم الذي بلغ خانة العشرات، وهبوط قيمة العملة، وارتفاع الديون إلى عنان السماء، والاعتماد المتزايد على المساعدات الخارجية. وسوف تتباطأ عملية إعادة البناء الاقتصادي بسبب عدم اليقين حول ما إذا كان الصراع ليستمر.

ثم هناك التكاليف البشرية. تكبدت أوكرانيا عددا كبيرا من الخسائر في الأرواح في صفوق القوات المسلحة وبين المدنيين، في حين اضطر ما يقرب من 13 مليون أوكراني إلى النزوح داخليا أو الحياة كلاجئين في مختلف أنحاء أوروبا. سوف تضغط أوكرانيا لتحقيق نصر عسكري تام، لكن التعلق بهذا الهدف يثير التساؤل حول ما إذا كانت الحاجة قائمة لاستكشاف إمكانية بعض التنازل في ما يخص الأهداف، ربما على أساس مؤقت.

روسيا أيضا تواجه اختيارات. يحتفظ بوتن بالعديد من الخيارات التي من شأنها أن تزيد من الصعوبة التي تواجهها أوكرانيا في محاولة استعادة المزيد من الأراضي التي تحتلها روسيا. حتى وقتنا هذا، رفض بوتن الاعتراف بأن روسيا تخوض حربا تتطلب التجنيد الإلزامي والتعبئة على نطاق واسع، إما لأنه استخف بخصمه أو لأنه قلق إزاء ردود الفعل السياسية في الداخل. قد يتغير هذا في أي وقت، كما قد يتغير حرص الكرملين على تجنب مهاجمة أي دولة في حلف شمال الأطلسي أو استخدام الأسلحة الكيميائية أو حتى الأسلحة النووية. ما يجب على بوتن أن يكون حريصا على دراسته ووزن عواقبه هو الرد العسكري والاقتصادي المحتمل من جانب الغرب وما إذا كان ليتركه ذلك في حال أفضل أو أسوأ في الداخل.

ينبغي للغرب، من جانبه، أن يستمر في تزويد أوكرانيا بالدعم العسكري والاقتصادي الذي تحتاج إليه كما ونوعا. لا يخلو الأمر من أسباب استراتيجية قوية للقيام بهذا، بما في ذلك ردع العدوان في المستقبل من جانب روسيا، أو الصين، أو أي جهة أخرى. بالإضافة إلى هذا، يجب أن يُـحـمَـل بوتن وغيره في روسيا حملا على إدراك الثمن الذي سيدفعونه نظير توسيع نطاق الحرب جغرافيا أو عن طريق استخدام أسلحة الدمار الشامل. ويجب أن تكون خطط تنفيذ مثل هذه الاستجابات جاهزة إذا فشل الردع.

لكل هذا، من الواضح أن ما ينتظرنا ليس فقط 'شتاء السخط' (كما وصفه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في اجتماع عقد في كييف الأسبوع الماضي) بل وأيضا شتاء القرار. الأمر الذي يبدو مؤكدا هو أن الحرب ستستمر في المستقبل المنظور. من غير المتصور أن يوافق بوتن على المطالب الأوكرانية، ومن المستحيل أن نرى أوكرانيا تستقر على أقل من ذلك كثيرا. ويتبقى لنا أن نرى كيف قد تؤثر القرارات المتخذة بعيدا عن ساحة المعركة هذا الشتاء على مسار الحرب بقدوم الربيع.

• ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية، شغل سابقا منصب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية وكان المبعوث الخاص للرئيس جورج دبليو بوش إلى أيرلندا الشمالية ومنسق مستقبل أفغانستان.

** خدمة بروجيكت سنديكيت