أفكار وآراء

عندما تصطدم النظريات بالواقع!

عندما حصل السقوط المروع للاتحاد السوفييتي 1991، تفاجأ العالم بهذا الحدث الذي حصل، ربما لم يتوقعه أحد، لأنه لم تسبقه مقدمات أو توترات دافعة لهذا الانهيار المفاجئ، حتى السفارات الأجنبية في موسكو، لم ترسل لدولها الأحداث التي جرت بين تيار الإصلاح الذي كان يقوده الرئيس جورباتشوف، وبين السياسي «بوريس يلتسين» الذي أصبح رئيساً للاتحاد الروسي بعد ذلك، بعد استقالة جورباتشوف، أو أرغم على الاستقالة عام 1991، بسبب ما آلت إليه الأوضاع السياسية، وبعدها تفكك المعسكر الشرقي أيضاً ـ كما أشرنا في مقالنا الأسبوع الماضي ـ وأتذكر في تلك الفترة التي جرى فيها هذا الانهيار في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، بعد الحدث مباشرة جرى بيني وبين بعض الزملاء في إحدى المؤسسات الصحفية نقاشاً حول ما جرى، وما هي أسبابه؟ وتحليل هذا الحدث ولماذا جرى بهذه الصورة التي لم تكن في الحسابات السياسية؟

كنا ثلاثة من الصحفيين العمانيين، فالزميلان الاثنان قالا: إن السبب الأساسي يعود إلى سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، في إطار الصراع الدولي والحرب البادرة بينهما، والكل يحاول صنع السلاح للدول الداخلة في اتجاهه السياسي والعسكري، مما أدى إلى أزمات اقتصادية للاتحاد السوفييتي، وأسهمت الحرب في أفغانستان بعد دخول السوفييت في الصراع دعماً للنظام الشيوعي الموالي لموسكو، وقلت للزملاء: اعتقد أن سباق التسلح ليس هو السبب الأساسي لما حصل لهذه الدولة العظمى، بدليل أن الاتحاد السوفييتي منذ عدة عقود في تلك الفترة يستورد القمح من الولايات المتحدة، مع أن روسيا في الأساس دولة زراعية، وليست صناعية في تلك الفترة، فلماذا يلجأ النظام السوفييتي للاستيراد من دولة رأسمالية، تعتبر عدوا في إطار الصراع الدولي القائم؟ وهي تريد أن تكشف ظروف الاتحاد السوفييتي الاشتراكي، الذي يطلب القمح منها، ويفترض ألا تطلب القمح منها، وهي تملك ملايين الأفدنة، والتي يفترض أن تستورد دول غربية وشرقية منها وليس العكس! فلماذا يضطر السوفييت أن يستوردوا القمح من دولة رأسمالية؟ وما هي أسبابه؟ وهذا هو مربط الفرس في رأيي.

ويراه أيضاً محللون كثر، وهو أنه بعد الثورة البلشفية عام 1917 وسيطرة الاشتراكيين على النظام القيصري في روسيا، وجد زعيم الثورة «لينين» مصاعب جمة، في التطبيق النظرية الماركسية، في بلد زراعي، وليس صناعياً كما أشرنا آنفاً، و«كارل ماركس» نفسه تنبأ لنظريته الشهيرة في كتابه (رأس المال)، بأن يتم تطبيقها في بلدان صناعية، وخص بالذكر المأنيا وبريطانيا، كدولتين صناعيتين، والأغرب أن هذا التطبيق جاء في دولة زراعية وليست صناعية آنذاك، ولذلك حاول «لينين» تعديل النظرية الماركسية وتغيير قضايا جوهرية في أسسها، ومن هنا تمت تسميتها بـ(النظرية الماركسية اللينينية)، وهذا التعديل تم تكييفه مع الواقع الروسي الاشتراكي بعد الثورة البلشفية، وبعد لينين، جاء الرئيس ستالين خلفاً للينين، وعدل العديد الآراء والأفكار التي وضعها لينين، وبالقوة الصارمة، ومع ذلك بقيت الكثير من السياسات الجامدة التي لا يستطيع أحد الحديث عنها أو مناقشتها، وفي ظل غياب حرية النقد، في ظل دولة شمولية يسيطر عليها الحزب الواحد.

ولذلك أرى أن المسألة لا تتعلق بسباق التسلح بين القطبين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وإن أساس ما جرى له صلة بالفكر الماركسي، وما أضيف عليه من تطبيقات والذي أدى إلى هذا الوضع وإشكالاته، دون أن تحدث أية مراجعات للتطبيقات القائمة، والأمر الآخر الذي نستغرب منه، لماذا تقبل الشعب السوفييتي ما جرى من الانقلاب الكبير على أسس الدولة واتحادها الكبير وتفككها؟ مما جعل «بوريس يلتسين» وهو الرجل الذي لم يكن في صدارة المشهد السياسي السوفييتي وفق التراتبية في هذا النظام، وأن يأمر بقصف البرلمان (الدوما)، ويرغمهم على الاستسلام، دون أن يتحرك الشعب السوفييتي، ويقف معارضاً لما يجري، إن كان راضياً بالتطبيق الماركسي، ونجاح المكتسبات الاشتراكية ،كما يقول البعض؟ والأخطر من ذلك أن يلتسين الذي أهان البرلمان، هو الذي تم انتخابه بعد ذلك، وتولى النظام الجديد، والذي تمت تسميته بالاتحاد الروسي، مع أنه ساهم في إنهاء الكثير من الأفكار الاشتراكية التي كانت مطبقة، مما جعلها تقترب من الدول الرأسمالية في قضية التعددية الحزبية وحرية التملك والتجارة الحرة، وأصبحت روسيا بعد الجديدة، تتبنى الكثير من التطبيقات الليبرالية التي تناقض أسس النظرية الماركسية اللينينية، ثم تبعها المعسكر الشيوعي كله في هذه التغييرات.

ولا شك أن قضية الملكية الخاصة للنظام الغربي ـ مع نقدنا للرأسمالية المتوحشة ـ والتي كانت سبباً لظهور الأفكار المناهضة للظلم الاجتماعي الذي حصل في الغرب، وجاءت ردود الأفعال لها قوية بالقدر التي كانت متعسفة للعمال والفلاحين، وهذا لا يحتاج نقاشا آخر.

ومن الكتاب العرب الذين تأثروا بالماركسية، في بداية حياتهم الفكرية وأعجبوا بالنظرية وأفكارها الحالمة بالوعود الجميلة، لكنهم غيروا وجهتهم الفكرية بعد ذلك، ومن هؤلاء الأكاديمي المصري المعروف الدكتور جلال أمين، وذكر هذا في مذكراته: (رحيق العمر)، وهي تمثل شهادة أكاديمي واقتصادي معروف بتوجهه اليساري، يقول جلال أمين: «كان موقفي من الماركسية منذ ذلك الوقت موقفًا معقدًا بعض الشيء؛ إذ كنت متعاطفًا تمامًا مع التفسير الماركسي للتاريخ، ومع التحليل الماركسي لظاهرة الاستغلال الاقتصادي، ومع الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وإعادة توزيع الدخل، ولكني كنت قد فقدت أي حماس للفلسفة الماركسية. واستقر رأيي على أن مسايرة ماركس في رفضه وكراهيته للاستغلال، لا تلزم المرء بقبول نظريته في تفسير الأسعار، وأن من الممكن أن يقبل المرء نظرية العرض والطلب كأفضل نظرية في تفسير الأسعار، ويكون اشتراكيًا في الوقت نفسه». والواقع نظرية «كارل ماركس» كانت لردة الفعل التي كانت سائدة في الغرب، ولذلك صاغ فلسفته ومذهبه الاقتصادي الديالكتيكي، وفق الواقع الذي عاشه في القرن التاسع عشر، وكانت الفكرة الاقتصادية الرأسمالية غاية في التوحش والظلم في استغلال العمال، وكان ماركس وأسرته عاشوا فترة فقر واضطهاد، ونتيجة للاضطهاد تحولت أسرته من اليهودية إلى البروتستانتية، فأخذ ماركس رؤية حدية من الفكر الرأسمالي، كما عاشها وضاق مرارة تلك المرحلة، كما أن نظرته للدين سلبية، بسبب ممارسات بعض القساوسة كما تقول بعض الكتابات، وهذه من سلبيات النظريات التي تخرج نتيجة الظلم والقهر، والأديان بريئة من هذه الممارسات التي قامت ومورست في المسيحية، وعممت على كل الأديان السماوية، سواء حصل هذا في فترة حياته في ألمانيا، أو بعد انتقاله إلى انجلترا، ثم زياراته لبعض الدول الأوروبية، لكن الإشكالية أن كارل ماركس جعل فلسفته المادية الديالكتيكية كأنها حقيقة علمية مكتملة وحتمية، وغير قابلة للدحض والمراجعة، وليس كفكرة فلسفية، كسائر الفلسفات التي يأخذها منها ويرد، وهذه نتيجة الاعتقاد الخاطئ للأفكار الأحادية، التي يعتقد البعض أنها الخلاص لكل شعوب.

ولذلك مقولة الحتمية التي أطلقها ماركس على صراع الطبقات، وأن طبقة «البروليتاريا» الطبقة العمالية هي التي ستسيطر على طبقة المستغلين الرأسماليين، عندما ينتفي الصراع، وتزول الدولة التي هي رديف للنظام الرأسمالي، أو هي دائماً دولة الطبقة الأولى المسيطرة، لكن مع قيام الدولة الاشتراكية وفق النظرية الماركسية، بقيت الدولة في الاتحاد السوفييتي، بل وازدادت قوة مع الأيام، مع أن الطبقات صفيت تماماً، ولذلك كما يقول المفكر الرئيس البوسني السابق علي عزت بيجوفيتش، إن التناقض بين الطبقات، الذي أصر عليه ماركس في نظريته، باعتباره قضية علمية، خالف تلك التوقعات في المجال العملي، فـ:«لم يثبت التناقض بين قوى الإنتاج، وبين علاقات الإنتاج في النظام الرأسمالي قدر محتوم، فالرأسمالية لم تتغلب على التناقض، لكنها حققت إلى جانب ذلك تقدُّماً، لم يسبق لها مثيل من قبل في مجالات انطلاق الإنتاج والعلم وإنتاجية العمل». ولذلك واجهت النظرية انتقادات كثيرة لوصفها بالعلمية والحتمية التاريخية، التي لابد من انتصارها، وتلاشي النظم الرأسمالية، ومنهم من ناصر حتى الفلسفة الماركسية، من حيث نقد مقولتها التي اقتربت من الغيب في توقعاتها الفكرية. وهذا يعني أن الفكرة أو الرؤية الجامدة، عندما تغيب عن الواقع، إن لم تكن قابلة للمراجعة وإعادة النظر في الفكرة ونقيضها، فإنها لن تصمد كثيراً أمام التحدي الضاغط في بنيانها العليل.