أفكار وآراء

الحضارة والإبداع

لا حضارة من دون إبداع؛ لأن كل حضارة هي نتاج إبداعها؛ وبالتالي فإن غياب الإبداع يعني موت الحضارة أو أفولها. التاريخ يعلّمنا هذه الحقيقة التي تنطوي على بداهة. والإبداع هنا ينبغي أن نفهمه بمعناه الواسع، فهو ليس مقصورًا على الإبداع في الفن والأدب، وإنما يمتد إلى الإبداع في مجال الفكر والفلسفة، وفي مجال العلم ذاته بمفهوميه الضيق والواسع، وأنا أعني بالمجال الضيق العلوم الطبيعية والرياضية، وأعني بالمجال الواسع سائر العلوم الإنسانية.

والسبيل الأول لنهضة الإبداع هو التعليم، وبعد ذلك تكون أهمية أي شيء آخر مما يمكن أن يُسهِم في ارتقاء الإبداع في مجتمع ما، ومن ذلك دور المؤسسات الثقافية والإعلامية. فعلى سبيل المثال: الطالب الذي لم يتعلم أن يتقن اللغة العربية، لا ننتظر منه أن يكون أديبًا يومًا ما، ولا حتى كاتبًا صحفيًّا للمقال. والطالب الذي لم يوفر له التعليم حدًا أدنى من المعرفة بالفن في سائر تجلياته، لن ننتظر منه أن يكون فنانًا أو حتى مجرد متذوق للفن. ولهذا فإنه من الأخطاء الكبرى في التعليم في الكليات العلمية (التي تسمى بالكليات العملية) هو ذلك الحرمان لطلبة هذه الكليات من التعرف على شيء من العلوم الإنسانية التي تتعلق بالفكر والثقافة والفن. ولذلك فإن هذا النوع من التعليم قد أنتج لنا عقولًا ضيقة الأفق تفتقر إلى كل ما يتعلق بالفكر والوجدان. وهذا هو السبب نفسه في أننا أصبحنا نرى عقولًا قابلة لأن تمتلئ بالأفكار السطحية والساذجة، وأحيانًا بالمعتقدات المتطرفة؛ بينما كنا- فيما مضى- نجد الشاعر والفنان من بين هؤلاء الدراسين، رغم كونه في الأصل عالمًا أو طبيبًا!

الحضارة العربية الإسلامية لم تعد قادرة على الإبداع منذ ثمانية قرون، ولم يتبق لنا سوى أن نتغنى في كل مناسبة بما أنجزه أسلافنا من أمثال: الخوارزمي وابن الهيثم وابن النفيس (في مجال العلوم والطب)، وابن رشد (في مجال الفلسفة)، وابن العربي (في مجال التصوف الفلسفي)، وابن خلدون (في مجال التاريخ وعلم الاجتماع)، وغيرهم كثير. ولكننا لا نجد في الأخلاف من يطاول مثل هذه القامات المبدعة في أي مجال من المجالات. ومن الصحيح القول بأن حضارتنا لم تمت، وإنما هي في مرحلة سُبات أو سكون طيلة هذه القرون؛ وهذا يعني أن هناك شيئًا كان ينبض فيها بين حين وآخر من خلال إبداع ما. بل يمكن القول بأنه كانت هناك محاولات نهضوية جادة، ويكفي شاهدًا على ذلك مشروع النهضة المصرية منذ عصر محمد علي، وهو مشروع سعى إلى تأسيس دولة ناهضة قوية ممتدة الأطراف، وتنامى عبر قرن من الزمان حتى أثمر إبداعات عظيمة؛ ولكن هذا المشروع لم يقدَّر له التواصل في الزمان والامتداد في المكان؛ لأسباب عديدة لا يتسع المجال لذكرها في هذا المقام.

وعلى هذا، فإن سؤال شكيب أرسلان: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟ هو سؤال لا يزال مطروحًا، رغم كل المشروعات الفكرية النهضوية في عالمنا العربي. والواقع أن هذه المشروعات ظلت واحدية البعد، أعني أنها كانت تختزل مشروع النهضة في بعد ما أو آخر، وتراوحت بين المطالبة باقتداء الغرب المتحضر من خلال استيراد منجزاته العلمية والفكرية، أو بالتوفيق بين رؤية الغرب ومواقفه الليبرالية وبين المواقف الكامنة في التراث الإسلامي. ولكن مشكلة هذه التيارات الفكرية الإصلاحية أو النهضوية تكمن في أنها لم تفطن إلى لب المشكلة التي تكمن في غياب الإبداع ذاته؛ وبالتالي لم تفطن إلى مواطن الداء الحقيقية التي تحول دون الإبداع الشامل والمتواصل.

وفيما يلي سأحاول بإيجاز التنويه إلى أهم الشروط اللازمة لتجاوز أزمة الإبداع في واقعنا الراهن، وإن كان كل شرط منها يستحق دراسة مستفيضة:

*التحرر من الخلط بين الديني والدنيوي: هذا الخلط يتبدى في إرجاع معظم الناس كل شؤون الدنيا إلى الدين؛ فكل شيء يُرَاد تقييمه -بل تفسيره أحيانًا- على أساس الدين، حتى إن كان شأنًا خالصًا من أمور الدنيا، وحتى دون فهم للمرجعية الدينية أو النص الديني الذي يستشهدون به.

تفكيك علاقة الدين بالسلطة: أعني تفكيك تلك العلاقة المريضة التي تتمثل في استخدام الدين بهدف بلوغ السلطة، في مقابل السلطة التي تريد أن تستخدم الدين لتحقيق مآربها. فكلا الموقفين يتبنيان خطابًا سلطويًّا يتسم برفض التعددية، ويستخدم الدين كأداة للسياسة.

* الإيمان بأن الإسلام في جوهره ليس مشروعًا للحكم وإنما للدعوة التي يمكن أن يهتدي بها الحكم الرشيد: فالحقيقة الغائبة عن الدوجماطيقية الدينية هي أن الحضارة الإسلامية لم تزدهر إلا في تلك الفترات التي استلهمت فيها جوهر الدين باعتباره قوة روحية محفزة على التقدم بالعلم والإبداع في شتى مناحي الحياة.

إصلاح العقل العربي: والواقع أن هذا الشرط هو أهم الشروط؛ لأن كل الشروط السابقة تتوقف عليه. وأنا أعني به تغييرا جذريا في بنية الذهنية العربية نفسها، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تأسيس تعليم ليبرالي يُسهم مع مؤسسات الثقافة والإعلام في أن يُشيع في روح المجتمع قيم الديمقراطية والدولة المدنية والمواطنة والإيمان بحرية الفكر والاعتقاد؛ ويحفز روح الإبداع في نفوس الناس على سائر الأصعدة.