أفكار وآراء

الملكة الراحلة وأجندة الإعلام الدولي

مثل إعلان وفاة الملكة اليزابيث الثانية ملكة بريطانيا الخميس الماضي وما زال حدثا عالميا بكل معنى الكلمة، ليس فقط لارتباطه بأهمية شخص الملكة، وأهمية المنصب الذي كانت تشغله، وما سوف يترتب على رحيلها من نتائج على مستوى دولة كبيرة بحجم بريطانيا وعلى مستوى العالم، ولكن أيضا لأن وسائل الإعلام الدولية المهيمنة أرادت أن يكون خبر الوفاة على رأس أجندة الأخبار في العالم كله، ليس فقط لساعات قليلة ولكن لأيام قد تمتد حتى ربما بعد مواراة جثمانها الثرى في لندن الاثنين القادم، ينشغل خلالها الناس بهذا الحدث، وينسون مؤقتا ما يشهده العالم من صراعات وكوارث ومشكلات أكثر أهمية من وفاة ملكة، كانت قد بلغت من العمر 96 عاما، وأمضت نحو 70 عاما علي العرش.

اهتمام الإعلام الدولي بجذب اهتمام شعوب العالم حتى أولئك الذين لم يكونوا، وربما لم يكن آباؤهم وأمهاتهم قد ولدوا بعد عندما أصبحت اليزابيث هي الملكة. هذا الاهتمام بالملكة الراحلة لم يكن بسبب دورها في السياسة العالمية، فقد ظلت طوال فترة توليها العرش البريطاني تملك ولا تحكم، وتتجنب تماما الخوض في المشكلات السياسية الداخلية والخارجية أو حتى التعبير عن رأيها في أحداث العالم، مكتفية برعاية أسرتها وممارسة هواياتها في تربية الخيول والكلاب ورحلات الصيد، والاستمتاع بأموالها وحياتها.

الواقع أن الاهتمام المبالغ فيه من جانب وسائل الإعلام الدولية بوفاة الملكة وتصدر هذا الحدث الأجندة الإخبارية العالمية حتى في الدول البعيدة والفقيرة التي تعاني الغالبية العظمي من مواطنيها من الجوع والفقر والمرض، يثير تساؤلات عديدة حول استمرار صلاحية نظرية الأجندة أو ترتيب الأولويات التي تنسب لوسائل الإعلام دورا وتأثيرا مهما في بناء ووضع أجندة اهتمامات الجمهور، وتقوم من خلاله - ربما بشكل يومي- بتحديد وإبراز الأحداث والقضايا والموضوعات التي تريد أن يهتم بها العالم ويتابع تطوراتها بصرف النظر عن ارتباطها بحياة الناس ومشاكلهم ومتطلباتهم.

لا جدال في أن شخص الملكة الراحلة يستحق الاهتمام، خاصة وأنها قادت بلادها بعد الحرب العالمية الثانية طوال النصف الثاني من القرن العشرين والعشرينية الأولى من القرن الواحد والعشرين الحالي إلى ما هي عليه الآن. وظلت حتى ما قبل وفاتها بيوم واحد تؤدي الوظائف والمهام المهمة الموكلة لها، وكان آخرها قبول استقالة رئيس الوزراء بوريس جونسون وتكليف خليفته ليز تراس بتشكيل حكومة جديدة. وبصفتها ملكة لدول الكومنولث التي تضم 15 مملكة وأكثر من 50 دولة، نجحت إليزابيث في الإبقاء على ارتباط بريطانيا بمستعمراتها السابقة. وفي عام 1999، رفض الأستراليون إجراء استفتاء لتصبح بلادهم جمهورية في تصويت يُنظر إليه على أنه كان يعكس الولاء لإليزابيث وليس للمملكة المتحدة. يضاف إلى ذلك أنها ضربت الرقم القياسي في البقاء كملكة لمدة 70 عاما، متجاوزة بذلك جدتها الملكة فكتوريا التي كانت قد أمضت 63 عاما على العرش. وخلال ولايتها الطويلة شهدت رحيل وقدوم 15 رئيسا للوزراء في بريطانيا، و14 رئيسا أمريكيا، وسبعة باباوات. ومع ذلك يبقى السؤال عن سر وضع خبر وفاتها على رأس الأجندة الإخبارية العالمية لعدة أيام، وفي دول قد لا يعينها الأمر كثيرا.

إنها سطوة وهيمنة وسائل الإعلام العالمية الكبرى التي تؤثر بالتبعية في اهتمامات وسائل الإعلام الوطنية. واقع الحال أن هذا التركيز الإعلامي له أهداف عديدة منها ما هو دعائي وما هو سياسي اقتصادي، وما هو إعلامي. ويتمثل الهدف الدعائي في تقديري في محاولة غسل سمعة بريطانيا الاستعمارية التي استنزفت ثروات الدول التي كانت تحتلها عندما صعدت اليزابيث إلى العرش، وقبل أن تغرب شمس الإمبراطورية، وذلك من خلال تقديم نموذج إنساني صالح تمثله الملكة التي نذرت حياتها لخدمة شعبها والحفاظ على مصالحه ودعم القيم والعملية الديمقراطية في بلادها. ويمكن القول إن وسائل الإعلام الغربية استخدمت لتحقيق هذا الهدف أسلوبا شائعا من أساليب الدعاية هو أسلوب خلط أو التلاعب بالأوراق، والذي يتم من خلاله اختيار واستخدام الحقائق جنبا إلى جنب مع الأكاذيب، وأشكال الإيضاح أو الإلهاء، والتصريحات المنطقية وغير المنطقية للوصول إلى أفضل صورة ممكنة عن شخص الملكة، وهو أسلوب مماثل لأسلوب «التحريف» الذي يتم استخدامه في علوم اللغة والدلالة، ويهتم باختيار الحجج أو الأدلة الداعمة لموقف ما وإغفال الحجج التي لا تدعمه. والحجج المختارة قد تكون صحيحة أو خاطئة. ويحقق هذا الأسلوب نجاحا كبيرا حين يستند إلى حجج صحيحة، مع إغفال الحجج الأخرى المكافئة لها في الصحة.

صحيح أن هناك مقاومة واضحة لهذه الدعاية يحاول أصحابها تقديم خطاب بديل ومغاير لخطاب الدعاية البريطانية الغربية المرتبط بالملكة الراحلة، من خلال تأكيد مسؤوليتها ومسؤولية بلادها عن المآسي والحروب والمجاعات والكوارث الإنسانية التي شهدها العالم قبل وطوال السبعين عاما التي اعتلت فيها عرش بريطانيا، ومع ذلك فإن هذه المقاومة تبقى محدودة القيمة والأثر، وتكاد تقتصر على بعض المؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي في بعض دول العالم بما في ذلك بعض الدول العربية.

إذا انتقلنا للأسباب السياسية الاقتصادية للاهتمام الإعلامي البريطاني الغربي بوفاة الملكة اليزابيث، يتضح أن الأطراف الفاعلة في النظام الغربي تحاول أن تجعل من وفاة الملكة طوق نجاة من الضغوط الشديدة والأزمات المتلاحقة التي يعاني منها الاقتصاد البريطاني على وجه التحديد، والأوروبي الأمريكي بوجه عام، خاصة في ظل استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا والصراع الصامت مع الصين. جاء موت الملكة في وقت مثالي للغاية لرجال الاقتصاد الذين يواجهون مخاطر زيادة التضخم ويحاولون الحد من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية. وقد بدأ توظيف حدث موت الملكة حتى قبل وقوعه بساعات عندما أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة ليز تروس التي كلفتها الملكة قبل يوم واحد من وفاتها، طرح أكبر حزمة لتنشيط الاقتصاد البريطاني تكلف أكثر من مائة مليار جنيه إسترليني، وتشمل برامج جديدة للحماية الاجتماعية ودعم الشركات، لتجنب خطر الركود الاقتصادي.

أخيرا وليس آخرا فإن وسائل الإعلام العالمية التي بالغت وما زالت في تغطية وفاة الملكة وتبعتها في ذلك وسائل الإعلام في مختلف دول العالم، ربما تسعى من وراء ذلك إلى التأثير في آراء واتجاهات جمهورها من جانب، وصرف انتباهه عن قضايا أخرى قد تكون أكثر أهمية من جانب آخر. ففي الأيام الأولى لوفاة الملكة تراجعت إلى حد كبير المساحات التي منحتها وسائل الإعلام لأحداث وتطورات الحرب في أوكرانيا، والمحادثات النووية الغربية مع إيران، وضحايا العنف في مالي، واللقاء المتوقع بين الرئيسين الصيني والروسي في قمة منظمة شنجهاي للتعاون التي ستعقد هذا الأسبوع بمدينة سمرقند في أوزبكستان وغيرها من الأحداث. ولا شك أن الاهتمام المبالغ فيه بوفاة الملكة الذي انتقل من وسائل الإعلام العالمية إلى وسائل الإعلام العربية يعود إلى ما يسمى تأثير وسائل الإعلام الكبرى، والذي يعد عاملا من أهم العوامل التي تؤثر في أجندة وسائل الإعلام. فمن الواضح أن وسائل الإعلام النخبوية مثل وكالات الأنباء ووكالات الصور العالمية مثل رويترز»، و«الفرنسية»، و«اسوشيتدبرس»، وكذلك الصحف الكبرى مثل «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، و«الجارديان» وغيرها، ومحطات الأخبار العالمية مثل سي إن إن» و«بي بي سي» قد نجحت في وضع الحدث البريطاني الخالص على رأس الأجندة الإخبارية لغيرها من وسائل الإعلام.