هل تحمل دفاعات الديمقراطية بذور دمارها؟
الاثنين / 15 / صفر / 1444 هـ - 21:28 - الاثنين 12 سبتمبر 2022 21:28
ترجمة - أحمد شافعي -
لو أن الديمقراطية مهدَّدة في الولايات المتحدة، فأي نظام أيديولوجي هو الذي يهدد بإزاحتها؟ في الوقت الذي يبدي فيه كثير من الأمريكيين الإعجاب بالملكة البريطانية الراحلة إليزابيث الثانية، لا توجد حركة من أجل الملكية هنا. فماذا إذن عن الفاشية أو الشيوعية؟ يعني، ربما، لكن خارج خيالات أنصارهما الملتهبة، ليست لهما قاعدة اجتماعية ذات شأن.
ماذا عن نظام إجرامي أو استبدادي غامض التكوين؟ ذلك أقرب إلى المعقول، لكن تذكروا أنه حتى الغوغاء الذين حاولوا منع انتقال السلطة في 2021 كان يحركهم وهم بأنهم يحمون الديمقراطية من التزوير. وماذا عن الأوليجاركية أو حكم القلة؟ تلك نزعة دائمة في الديمقراطيات، لكن الأثرياء منقسمون سياسيا ولعلهم لا يستطيعون أن يتغلبوا على المشاركة الشعبية في السياسة وإن أرادوا ذلك.
إن البنية الديمقراطية في أمريكا تهتز فعليا، ولكنها تهتز تحت وطأة ثقلها ذاته. والخطر على الديمقراطية (حتى الآن) لا يأتي من نظام غاصب، ولكن من الأيديولوجية الديمقراطية نفسها. أو هذه على الأقل إحدى القراءات الممكنة لدراسة جديدة مهمة حول المواقف الديمقراطية نشرتها مجلة العلوم السياسية الأمريكية للأكاديمي الدنماركي سوثان كرشنارجان.
يثير حديث «الدفاع عن الديمقراطية» في الولايات المتحدة انقسامًا حادًا متوقعًا بين المواطنين الذين يفضلون الديمقراطية والمواطنين الذين لا يفضلونها. لكن كرشنارجان يسلك نهجًا أدق من ذلك. فهو يبين أن المواطنين الذين يؤيدون الديمقراطية عن وعي ذاتي يمكن في الوقت نفسه أن يدعموا أفعالًا غير ديمقراطية على نطاق كبير حينما يكون ذلك في مصلحتهم السياسية، وذلك دونما اعتراف بالتناقض.
الديمقراطية بطبيعة الحال عملية تحددها عناصر مثل الانتخابات النزيهة وحرية التعبير. ويمكن أن تفرز العملية الديمقراطية نتاجات ليبرالية أو محافظة من قبيل زيادة الهجرة أو تقليلها أو زيادة الإنفاق الاجتماعي أو تقليله. في 2020 و2021، استعمل كرشنارجان في دراسة مسحية أجريت بعناية «مقولات» مصممة من أجل استنباط كيفية تفاعل رؤى الأمريكيين للديمقراطية مع انحيازاتهم الحزبية. والنتيجة هي أن أغلب الناس يخلطون بين العملية الديمقراطية والنتاجات السياسية المفضلة لديهم.
تبين لكرشنارجان أن المشاركين في الدراسة «يميلون إلى نزع الشرعية عن الرؤى التي يعارضونها معتبرين أنها غير ديمقراطية، حتى لو لم تكن كذلك». تقول الدراسة إنه «عند مواجهتهم بسلوك يساري معياري تمامًا» مثل تنفيذ مشروع أوباما كير للرعاية الصحية ـ «فإن 48% من المواطنين اليمينيين يرون أنه يجعل البلد «أقل ديمقراطية’». و«بالعكس، عند مواجهتهم بسلوك يميني معياري» من قليل إلغاء نظام أوباما كير للرعاية الصحية فإن «46% من المواطنين اليساريين يعتبرون أنه يجعل البلد «أقل ديمقراطية».
وحتى عند مبالغتهم في تقدير الانتهاكات الديمقراطية للجانب المعارض، عزف الأمريكيون عن تحديد الانتهاكات التي قام بها جانبهم بحسن نية. «حينما وجه اليساريون بسلوك يميني غير ديمقراطي» مثل الحد من الأماكن التي يمكن أن ينفذ فيها الليبراليون حملاتهم الانتخابية «رأى 62% منهم ذلك غير ديمقراطي بشدة. وعندما يواجهون سلوكًا يساريًا نمطيًا غير ديمقراطي، فإن 36% فقط هم الذين يرونه كذلك». والهوة نفسها قائمة في اليمين.
يخلق هذا حوافز ضارة للسياسيين المتطرفين. إذ يكتب كرشنارجان أنه «كلما كان الانتهاك غير الديمقراطي واضحا وضوحا لا لبس فيه، ازداد الناس استقطابًا في تصوراتهم عن مدى منافاته للديمقراطية»، فضلًا عن أن «التحيزات ليست موجودة ببساطة في أقطاب الطيف السياسي وإنما هي موجودة حتى لدى المواطنين من ذوي الميول العادية إلى أي من الاتجاهين السياسيين».
بشكل حاسم، يتبين لكرشنارجان في تحليله أن المشاركين لا يرون أنهم يضحون بقيمهم الديمقراطية حتى حينما تحكي أجوبتهم على الاستطلاع قصة معاكسة. فالمنطق القائم على الدوافع «يعفيهم من النتائج البغيضة عن حالة الديمقراطية من خلال تغيير فهمهم لماهية الديمقراطية في كل موقف معين». ففي العقلية الحزبية -أي عقول أغلبنا- تكون الانتهاكات لأعراف الديمقراطية أقل بروزا حينما تكون موجهة ضد جماعة مرفوضة.
أي أن السلوك الخارج على العرف يكتسب مبررات داخل الإطار الديمقراطي وليس خارجه. وتلك النتيجة تتسق مع طريقة ممارسة السياسة الأمريكية اليوم: ولنضرب مثالا واحدا بالرؤساء من كلا الحزبين إذ يميلون إلى ارتداء عباءة التفويض الشعبي عندما يهمشون الكونجرس ويوسعون السلطة التنفيذية.
لو أن الديمقراطية الأمريكية سيئة الأداء، فالمشكلة لا تكمن في أن الأمريكيين يتبنون نظاما غير ديمقراطي في الحكم، أو حتى ينصرفون عن الديمقراطية على المستوى المجرد. بل إننا، على العكس تماما، منغمسون أيديولوجيا في نقاء ديمقراطيتنا لدرجة أن أكثر ما يفعله الحزب الآخر يبدو بمثابة تهديد له. وذلك الإحساس بالتهديد يبرر بدوره سياسة المقاومة باعتبارها إجراء مضادا، ويجعل المواطنين أكثر تسامحا مع انتهاكات الحزب الذي يؤيدونه.
فالمعركة في أمريكا اليوم إذن ليست معركة بين الديمقراطية واللاديمقراطية، وإنما هي بين رؤيتين متعارضتين لسيادة الشعب. ومفهوم الديمقراطية المتفق عليه عموما والمختلف على جزئياته بضراوة لم تكن له قط حدوده الثابتة. ومع كل ازدياد في المخاطر المتصورة، تزداد غواية الدعوة إلى تدمير الأعراف السياسية، وإضفاء المنطقية على تدميرها باعتباره ضرورة من ضرورات الديمقراطية.
وإن حقيقة تعرض الديمقراطية للخراب على يد أنصارها لا على أيدي خصومها قد تعني مثلما يكتب كرشنارجان أن التحدي «أبشع مما هو معترف به حتى الآن». فغياب أي بديل مطمئن في الولايات المتحدة يؤكد السلطة القائمة للفكرة الديمقراطية. لكن ربما تكون هذه الفكرة ذاتها قد أصبحت استنزافية تمامًا لو أن بإمكانها أن تبرر تدميرها التدريجي. ومن أجل الحفاظ على خير ما في الديمقراطية، قد يكون الأمريكيون بحاجة إلى استعادة أشكال أخرى من الفضائل السياسية.
جيسون ويليك كاتب مقال منتظم في واشنطن بوست، يكتب في القضايا التشريعية، والأفكار السياسية، والشؤون الدولية.
المقال مترجم عن واشنطن بوست
لو أن الديمقراطية مهدَّدة في الولايات المتحدة، فأي نظام أيديولوجي هو الذي يهدد بإزاحتها؟ في الوقت الذي يبدي فيه كثير من الأمريكيين الإعجاب بالملكة البريطانية الراحلة إليزابيث الثانية، لا توجد حركة من أجل الملكية هنا. فماذا إذن عن الفاشية أو الشيوعية؟ يعني، ربما، لكن خارج خيالات أنصارهما الملتهبة، ليست لهما قاعدة اجتماعية ذات شأن.
ماذا عن نظام إجرامي أو استبدادي غامض التكوين؟ ذلك أقرب إلى المعقول، لكن تذكروا أنه حتى الغوغاء الذين حاولوا منع انتقال السلطة في 2021 كان يحركهم وهم بأنهم يحمون الديمقراطية من التزوير. وماذا عن الأوليجاركية أو حكم القلة؟ تلك نزعة دائمة في الديمقراطيات، لكن الأثرياء منقسمون سياسيا ولعلهم لا يستطيعون أن يتغلبوا على المشاركة الشعبية في السياسة وإن أرادوا ذلك.
إن البنية الديمقراطية في أمريكا تهتز فعليا، ولكنها تهتز تحت وطأة ثقلها ذاته. والخطر على الديمقراطية (حتى الآن) لا يأتي من نظام غاصب، ولكن من الأيديولوجية الديمقراطية نفسها. أو هذه على الأقل إحدى القراءات الممكنة لدراسة جديدة مهمة حول المواقف الديمقراطية نشرتها مجلة العلوم السياسية الأمريكية للأكاديمي الدنماركي سوثان كرشنارجان.
يثير حديث «الدفاع عن الديمقراطية» في الولايات المتحدة انقسامًا حادًا متوقعًا بين المواطنين الذين يفضلون الديمقراطية والمواطنين الذين لا يفضلونها. لكن كرشنارجان يسلك نهجًا أدق من ذلك. فهو يبين أن المواطنين الذين يؤيدون الديمقراطية عن وعي ذاتي يمكن في الوقت نفسه أن يدعموا أفعالًا غير ديمقراطية على نطاق كبير حينما يكون ذلك في مصلحتهم السياسية، وذلك دونما اعتراف بالتناقض.
الديمقراطية بطبيعة الحال عملية تحددها عناصر مثل الانتخابات النزيهة وحرية التعبير. ويمكن أن تفرز العملية الديمقراطية نتاجات ليبرالية أو محافظة من قبيل زيادة الهجرة أو تقليلها أو زيادة الإنفاق الاجتماعي أو تقليله. في 2020 و2021، استعمل كرشنارجان في دراسة مسحية أجريت بعناية «مقولات» مصممة من أجل استنباط كيفية تفاعل رؤى الأمريكيين للديمقراطية مع انحيازاتهم الحزبية. والنتيجة هي أن أغلب الناس يخلطون بين العملية الديمقراطية والنتاجات السياسية المفضلة لديهم.
تبين لكرشنارجان أن المشاركين في الدراسة «يميلون إلى نزع الشرعية عن الرؤى التي يعارضونها معتبرين أنها غير ديمقراطية، حتى لو لم تكن كذلك». تقول الدراسة إنه «عند مواجهتهم بسلوك يساري معياري تمامًا» مثل تنفيذ مشروع أوباما كير للرعاية الصحية ـ «فإن 48% من المواطنين اليمينيين يرون أنه يجعل البلد «أقل ديمقراطية’». و«بالعكس، عند مواجهتهم بسلوك يميني معياري» من قليل إلغاء نظام أوباما كير للرعاية الصحية فإن «46% من المواطنين اليساريين يعتبرون أنه يجعل البلد «أقل ديمقراطية».
وحتى عند مبالغتهم في تقدير الانتهاكات الديمقراطية للجانب المعارض، عزف الأمريكيون عن تحديد الانتهاكات التي قام بها جانبهم بحسن نية. «حينما وجه اليساريون بسلوك يميني غير ديمقراطي» مثل الحد من الأماكن التي يمكن أن ينفذ فيها الليبراليون حملاتهم الانتخابية «رأى 62% منهم ذلك غير ديمقراطي بشدة. وعندما يواجهون سلوكًا يساريًا نمطيًا غير ديمقراطي، فإن 36% فقط هم الذين يرونه كذلك». والهوة نفسها قائمة في اليمين.
يخلق هذا حوافز ضارة للسياسيين المتطرفين. إذ يكتب كرشنارجان أنه «كلما كان الانتهاك غير الديمقراطي واضحا وضوحا لا لبس فيه، ازداد الناس استقطابًا في تصوراتهم عن مدى منافاته للديمقراطية»، فضلًا عن أن «التحيزات ليست موجودة ببساطة في أقطاب الطيف السياسي وإنما هي موجودة حتى لدى المواطنين من ذوي الميول العادية إلى أي من الاتجاهين السياسيين».
بشكل حاسم، يتبين لكرشنارجان في تحليله أن المشاركين لا يرون أنهم يضحون بقيمهم الديمقراطية حتى حينما تحكي أجوبتهم على الاستطلاع قصة معاكسة. فالمنطق القائم على الدوافع «يعفيهم من النتائج البغيضة عن حالة الديمقراطية من خلال تغيير فهمهم لماهية الديمقراطية في كل موقف معين». ففي العقلية الحزبية -أي عقول أغلبنا- تكون الانتهاكات لأعراف الديمقراطية أقل بروزا حينما تكون موجهة ضد جماعة مرفوضة.
أي أن السلوك الخارج على العرف يكتسب مبررات داخل الإطار الديمقراطي وليس خارجه. وتلك النتيجة تتسق مع طريقة ممارسة السياسة الأمريكية اليوم: ولنضرب مثالا واحدا بالرؤساء من كلا الحزبين إذ يميلون إلى ارتداء عباءة التفويض الشعبي عندما يهمشون الكونجرس ويوسعون السلطة التنفيذية.
لو أن الديمقراطية الأمريكية سيئة الأداء، فالمشكلة لا تكمن في أن الأمريكيين يتبنون نظاما غير ديمقراطي في الحكم، أو حتى ينصرفون عن الديمقراطية على المستوى المجرد. بل إننا، على العكس تماما، منغمسون أيديولوجيا في نقاء ديمقراطيتنا لدرجة أن أكثر ما يفعله الحزب الآخر يبدو بمثابة تهديد له. وذلك الإحساس بالتهديد يبرر بدوره سياسة المقاومة باعتبارها إجراء مضادا، ويجعل المواطنين أكثر تسامحا مع انتهاكات الحزب الذي يؤيدونه.
فالمعركة في أمريكا اليوم إذن ليست معركة بين الديمقراطية واللاديمقراطية، وإنما هي بين رؤيتين متعارضتين لسيادة الشعب. ومفهوم الديمقراطية المتفق عليه عموما والمختلف على جزئياته بضراوة لم تكن له قط حدوده الثابتة. ومع كل ازدياد في المخاطر المتصورة، تزداد غواية الدعوة إلى تدمير الأعراف السياسية، وإضفاء المنطقية على تدميرها باعتباره ضرورة من ضرورات الديمقراطية.
وإن حقيقة تعرض الديمقراطية للخراب على يد أنصارها لا على أيدي خصومها قد تعني مثلما يكتب كرشنارجان أن التحدي «أبشع مما هو معترف به حتى الآن». فغياب أي بديل مطمئن في الولايات المتحدة يؤكد السلطة القائمة للفكرة الديمقراطية. لكن ربما تكون هذه الفكرة ذاتها قد أصبحت استنزافية تمامًا لو أن بإمكانها أن تبرر تدميرها التدريجي. ومن أجل الحفاظ على خير ما في الديمقراطية، قد يكون الأمريكيون بحاجة إلى استعادة أشكال أخرى من الفضائل السياسية.
جيسون ويليك كاتب مقال منتظم في واشنطن بوست، يكتب في القضايا التشريعية، والأفكار السياسية، والشؤون الدولية.
المقال مترجم عن واشنطن بوست