أعمدة

صدام حضارات أم صراع قوى

khamis
 
khamis
25 ديسمبر 1991م.. أعلن ميخائيل جورباتشوف (ت:2022م) استقالته من رئاسة الاتحاد السوفييتي وإلغاء مكتب رئيس الاتحاد، وسلّم كافة سلطاته إلى الرئيس الروسي بوريس يلتسين (ت:2007م)، واعتُرِف باستقلال الدول المشكلة للاتحاد. كان ذلك يومًا مشهودًا، لم يحصل مثله في تاريخ الإنسانية، فلأول مرة يفكك كيان ضخم استحوذ على قطاع ضخم من الكرة الأرضية، ويمثّل القطب الموازي للقطب الأمريكي، ومشاركه ومنافسه، بل كان يهدد المنظومة الرأسمالية، حتى دخلت معه في حرب باردة، يصفها البعض بالحرب العالمية الثالثة، لما حصل فيها من استقطاب قسّم العالم إلى معسكرين: شرقي وغربي، ولتخفيف وطأة الانقسام نشأت منظمة عدم الانحياز عام 1955م، لتضم الدول التي نأت بنفسها عن المعسكرين، إلا أن الصراع بينهما ظل متواصلاً، دفع العالم فاتورته من الدماء والمؤامرات. وقد انعكس ذلك على منطقتنا، ولم تسلم سلطنة عمان من لفح ناره، حيث واجهت امتداداته العنيفة في ظفار، حتى أطفأها السلطان قابوس بن سعيد (ت:2020م) في بداية حكمه، وتمكن من بناء دولة حديثة.

لم يأتِ إدراكي لانقسام العالم لمعسكرين متأخرًا عند سقوط الشيوعية، بل فتحت عيني على الحياة ورأيت الحرب مستعرة بين الرأسمالية والشيوعية. لم تكن معاركهما على أرضهما، وإنما على أراضي الشعوب الأخرى، وكان آخرها الحرب السوفييتية الأفغانية في أفغانستان. حيث تحترب الليبرالية الرأسمالية والشيوعية الماركسية على أرض المسلمين؛ مستغلين الأيديولوجية الإسلامية وقياداتها السياسية لتجييش المحاربين المسلمين، واستنزاف النفط العربي لدفع فاتورة الحرب الثقيلة، حينها كان يُصوَّر الصراع بأنه بين الإيمان والكفر، وأن الشيوعية الملحدة لم توجد إلا لتدمِّر الإسلام وتبيد خضراء المسلمين.

فجأة.. ينهار الاتحاد السوفييتي وتتفكك دوله، وتنتهي «نظرية الصراع العقدي»؛ لتبدأ «نظرية صدام الحضارات» مع تنفيذ أجندات «النظام العالمي الجديد»، وكان صامويل هنتجتون هو الداعية لها. لم يعد الصراع حول الدين، وإنما حول الحضارة، فهذه المرحلة لا تحتاج إلى محاربين عقديين، بل إلى صراع دولي، فقد أصبح هؤلاء عبئًا على المنطقة، وخطرًا على الغرب ذاته، حتى وصل إلى أمريكا نفسها، فشُن عليها هجمات في 11 سبتمبر 2001م، وهذا يحصل لأول مرة في تأريخ هذه الدولة القارة المحصنة بالبحار الشاسعة.

«نظرية صدام الحضارات».. تقوم على فكرة أن العالم يتكوّن من كتل حضارية؛ منها: الصينية الكونفوشيوسية والهندية الهندوسية والعربية الإسلامية والغربية المسيحية، وأن العالم متجه نحو الصدام بين هذه الكتل، ويأتي في الواجهة الصدام بين الكتلتين الإسلامية والمسيحية. ولكن.. هل فعلاً هناك صدام حضارات؟ من يتأمل المشهد الكلي لسير الصراع البشري، وعلى أقل تقدير منذ بداية القرن العشرين الميلادي، لا يجد إلا صراعًا بين القوى العالمية التي لا تحسب حسابًا لدين، ولا لحضارة أو ثقافة. فالحربان العالميتان وحروب الاستعمار، والغزو الأمريكي للمنطقة، كلها صراع هيمنة دولية؛ غرضه الأول وضع اليد على الثروات، والسيطرة على الأسواق، والسيادة على العالم. وأما التنظير فما هو إلا قراءة للواقع أو تبرير للأحداث، فحتى الثورات التي تستند على مقولات فلسفية كالشيوعية، في الواقع هي أداة من أدوات الصراع التي استعملها الثوار البلاشفة، وبظني.. لو أن كارل ماركس (ت:1883م) شهد الثورة الشيوعية لاستغرب من استغلال نظريته. فالنظريات والمعتقدات لا تنشئ بنفسها صراعًا كونيًا إلا في ظل استغلال سياسي واسع وعميق لها.

اليوم.. ندرك أن ما حصل منذ الثمانينيات حتى الحرب الروسية الأوكرانية الحالية هي حروب قوى، وليست حروب معتقدات وثقافات، وأنها ليست على المنطقة العربية لذاتها، ولا خوفًا من القوة الإسلامية الناهضة، لقد مرت هذه الحروب بمرحلتين:

المرحلة الاستعمارية الأوروبية: الغرض منها نهب الثروات؛ بدءًا باستغلال الممرات البحرية وانتهاءً باستعباد البشر للخدمة في المصانع الغربية، فالنهضة الكبرى التي حصلت لأوروبا، ما كان لها أن تقوم لولا أن دولها غزت العالم، فأدارت محركاتها بزيوت بهارات الهند، وصنعت منتجاتها من خامات إفريقيا، واحتلت موانئ المسلمين لتكون محطات عبور لحاوياتها، وفرّغت تجاراتها في أرض الصين، وكانت دماء الشعوب هي الوقود الذي تدفأت به أوروبا في شتائها القارس.

وقد بدأت هذه المرحلة بالأفول عند ظهور النفط، حيث احتاجت الرأسمالية أن تغيّر لون جلدها في استغلال الشرق؛ خاصةً.. مع تنامي الحس الثوري؛ بسبب صعود ثلاث قوى: الفكر اليساري الذي اكتسح العالم، والانبعاث الإسلامي ضد المحتل، والقومية العربية الداعية إلى عدم الانحياز، لقد أصبح العالم حينها تهيمن عليه لغة التحرر من الاستعمار؛ مما اضطر الغرب أن يغيّر استراتيجيته باتجاه تمكين حكومات موالية له ومدعومة منه، في ظل معركته مع الشيوعية.

المرحلة النفطية الأمريكية: ابتدأت مع ظهور النفط في المنطقة، فبعد صعود أمريكا عقب الحرب العالمية الأولى، وتحولها إلى شرطي العالم، انتقلت الهيمنة من أوروبا إليها. وقد صاحب ذلك اتخاذها من المسلمين دروعًا لمواجهة الشيوعية، واستراتيجية هذه الحرب لا تزال مستمرة، وما رأيناه من انتفاضة بعض الجماعات الإسلامية كالقاعدة، إن هو إلا ردة فعل على السياسة الأمريكية في المنطقة.

بالنظر للخارطة الجيوسياسية للعالم، فإن الصراع منذ قيام الثورة البلشفية حتى الآن هو صراع بين الأمريكان والروس، أي بين قوى عالمية تريد أن تفرض هيمنتها على العالم، ولا علاقة لذلك بأديان وحضارات وثقافات، إلا بكونها وقودًا للحرب، فالنزاع ليس لأجلها، وإنما بها. وها هو الصراع بين روسيا والغرب يرجع، وقد أدرك الروس أن معاداة الأديان هي القوة الكاسحة التي أسقطت الاتحاد السوفييتي، فتبنوا العقيدة الأرثوذكسية وحضارة الأمة الروسية، في مقابل الليبرالية الغربية، وبعكس ما جرى من تبني الفكر الشيوعي المعادي للأديان؛ يبشرون الآن بتعددية تعادي الليبرالية الغربية؛ بكونها ثقافة أحادية همشت ثقافات العالم، ومست الأديان عندما «علمنت» المجتمعات، وخرمت الأخلاق بتشريع الشذوذ الجنسي والإجهاض، والعلاقات الجنسية خارج المنظومة الأسرية للزواج.

أمريكا.. لا تزال سادنة الليبرالية وترى فيها «نهاية التاريخ»؛ كما نظّر لها فرانسيس فوكوياما، وحتى الآن لا نرى انحسارًا للأطروحة الليبرالية، مع ملاحظة المعارضة العالمية لها؛ أولاً من قِبَل المسلمين، بكونهم مقاوِماً تقليدياً لكل ما يخالف فكرهم وثقافتهم، وثانياً من قِبَل اليسار، لاسيما في الغرب ذاته، إلا أن ذلك ليس كافياً أن يقوّض الليبرالية. في المقابل.. لابد لروسيا وهي تواصل صراعها مع القوة الغربية الأمريكية أن توجد لها مبررًا ثقافيًا لحرب صعدوها، فالبشر بطبيعتهم يريدون مبررات دينية وأخلاقية وفلسفية للقوى الصاعدة؛ خاصةً.. إن كان خصمها يستعمل كافة أدوات الحرب، ومنها التنظير الفلسفي والتبرير الأخلاقي والديني.

لقد تبنت روسيا أطروحات الكسندر دوجين في نظريته الأوراسية؛ والتي يسميها «النظرية الرابعة»، ويقصد بها البديلة عن النظريات الثلاث: الاشتراكية والقومية والليبرالية، وهي نظرية تعادي كل ما يدور في فلك الليبرالية، وتفسح مجالاً للتنوع الديني والحضاري، وتؤيد نهوض التعددية القطبية في قيادة العالم؛ وسواءً أكانت هذه التعددية هندوسية هندية أم إسلامية عربية أم كونفوشيوسية صينية، أم غيرها، طالما أنها تكسر الاحتكار الليبرالي الغربي. وروسيا.. في صراعها مع الغرب تستند على هذه النظرية؛ ليست بكونها مرجعية أيديولوجية، وإنما بوصفها «مبرراً أخلاقياً» لما تقوم به، وقد طالعنا منذ مدة تصريح بوتين برفضه الليبرالية الغربية، كل ذلك وسيلة من وسائل صعود القوة، وليس عقيدة ينبني عليها هذا الصعود.

إن إدراك آليات الصراع في العالم هو ما يجنب المنطقة موجة جديدة من العنف، وهو ما قد يدفع بالساسة والمفكرين في عالمنا الإسلامي إلى أن ينهجوا نهجاً واعياً لبناء دولهم بما تطمح إليه شعوبهم من العزة والتمكين والحرية والازدهار في عالم لا يحترم إلا القوي.