أفكار وآراء

في التاريخ والانتقائية!

بات في حكم المعروف اليوم، أن كل استعادة لتاريخ مضى لا يمكن مقاربة معرفتها إلا بتأويل متعدد الأوجه والطبقات. لأنه إذا كان حتى تشكل الواقعة التاريخية في لحظة وقوعها هو أمر لا يتفق فيه على نقلها تطابقٌ تام بين الرواة الذين علموا بها بكيفيات مختلفة، فإن تعدد التأويل في زمن آخر بعد الواقعة التاريخية لهو أدعى للتأمل.

لهذا يعتبر التاريخ من أخطر العلوم التي تخضع للانتقائية وتعدد مستويات التأويل بما يجعل الحكم المتطابق برأي واحد في حدث تاريخي معين قد لا يكون بتلك الصرامة، بحسب اختلاف الوقائع وأهميتها بطبيعة الحال.

فإذا كان مثلاً ثمة «انتقائية» ما في مدونات كتب التاريخ القديم، لاسيما كتب تاريخ المسلمين التي تم تأليفها في أزمنة ما قبل ظهور الطباعة، فإن مما يشفع لمؤرخي ذلك الزمن حيال ما يمكننا أن نطلق عليه «انتقائية حميدة» هو اضطرارهم لتبني منهجيات في التأليف أملتها حاجة الوقت وتعذر انتشار الكتب على الوجه الذي نراه اليوم!

فالإمام الطبري عنون كتابه الكبير في التاريخ بعنوان لا يخلو من انتقائية حميدة حين أطلق عليه «تاريخ الرسل والملوك» أو كذلك مؤرخي كتب «الطبقات» التي تترجم للخواص من فئات اجتماعية مرموقة المناصب. ولعل لهذه الانتقائية ما يشفع لها في زمن الطبري حيث لم يكن متصوراً أن تنتشر طباعة الكتب بذلك الاتساع من النشر الذي شهدته العصور الحديثة منذ اختراع آلة الطباعة وما أحدثته هذه الآلة من ثورة معرفية ساهمت في توسيع قاعدة القراء في أوروبا على نحوٍ لعب دوراً في تغيير حياة الناس هناك للأفضل.

لقد أصبح علم التاريخ اليوم، مع بروز وسائل الاتصال الحديثة ومحفزات النشر السريع في السوشيال ميديا، أكثر حساسيةً حيال إمكانيات لا متناهية من التحريف والتحوير للوقائع وغير ذلك من الآفات التي ابتلي بها الناس في هذا العصر.

وإذا كانت الأزمنة القديمة قد شهدت تلك الانتقائية في كتابة تاريخ رموز المجتمعات في عصرها، وحصر كثير من الكتب في التأريخ للأحداث الكبرى التي يصنعها الملوك والرؤساء عادةً فإن زمن السوشيال ميديا، ونتيجة للسبب ذاته ولكن في سياق نقيض، هو سهولة الانتشار السريع بدلاً من صعوبة الانتشار قديماً» قد حفز الكثيرين إلى المجازفة بمناولات ونقولات وزيادات تخضع بالأساس لأجنداتهم الباحثة عن الشهرة السريعة قبل أي شيء. هذا فيما أصبح حتى حقل النشر الكتابي عن التاريخ، ونتيجة لضعف مستويات التعليم والأكاديميا في المنطقة العربية سبباً لتغول البعض ممن ليس لهم معرفة بالتاريخ ولكنهم تطفلوا عليه لتحقيق رغبات وأجندات أبعد ما تكون عن النزاهة العلمية والمعرفية التي عرفتها تقاليد هذا الفن وأصوله.

إن الانتقائية في وقائع التاريخ اليوم أصبحت تدخل ليس فقط في مجال كتابة النص التاريخي (الكتاب) كما كان الأمر من قبل، بل أصبحت صناعة إعلامية عبر مؤثرات خطابية وإخراج إعلاني وبروبغاندا متخفية وراء تلك الصناعة بما يجعل من التاريخ في تلك الوسائط خطاباً معداً ومستهدفاً ومعاداً انتاجه بزوايا تأثير معينة – بحسب تعريف ميشيل فوكو للخطاب – الأمر الذي يضعنا أمام مفارقة عجيبة.

التاريخ المؤدلج لا يكف عن كونه أجندة تعمل في ركاب السلطة أو الواقع المؤثر أو المزاج العام للناس، وبطريقة قد لا يمكن معها لفت البسطاء وتنبيهم إلى زيف العروض التي تساق لهم كما لو أنها تاريخاً حقيقياً وشيِّقاً!

إن قدرة تأثير السلطة من ناحية، وسلطة رغبة الخطاب التاريخي حول الوقائع بشكل مرتب ومعاد إنتاجه ليحدث تأثيراً في الواقع، هو مما يمكن القول أنه ليس له صلة بالحقيقة التاريخية أو الواقعة التاريخية.

وهكذا، بموجب الرؤية الذاتية لكتابة تاريخ جماعة ما، تحت ضغط سلطة عامة أو مزاج عام يعكس سلطة لواقع مؤثر؛ يمكن أن يحوِّل بعضهم النسب الأممي والعرقي للشعوب إلى تاريخ لقبيلة مغمورة بطريقة لا تعكس إلا رؤيته الضيقة ووعيه المفكك والمستلب لإكراهات واقع متخلف. وكأن هناك تطابقاً بين النسب الحضاري والنسب السلالي!