هوامش.. ومتون: أشياء الناس ورماد الفجيعة
الأربعاء / 10 / صفر / 1444 هـ - 15:33 - الأربعاء 7 سبتمبر 2022 15:33
في قصيدته 'رحلة الطير'، هل كان الشاعر الراحل سامي مهدي، يستشعر الذي سيجري لطائر القصيدة، بعد أن أفرد جناحيه، مبتدئا رحلته الأخيرة؟ وأعني تحديدا قوله:
'لم أكنْ أَعْرف أنّا فُرَقاءْ
ولنا آلهةٌ شتّى وأنّا سُفَهاءْ
لم نُصِبْ من منطقِ الطيرِ
وَمِنْ سرّ 'فريدِ الدينِ' إلاّ الغُلَواءْ
لم نكنْ نبحثُ عن مسرى
إلى باب السماءْ'
هل كان رحيله، إشارة لنا لنرى الشقّ الواسع في حياتنا الثقافيّة، بل وغياب الحسّ الإنساني عندما ننبري لمحاكمة شاعر بين يدي ربّ رحيم؟
ورغم الرماد الذي ذراه البعض على شاهدة قبره الشعرية، وبعيدا عن الموقف السياسي، والظروف الملتبسة، التي لا أريد الخوض بها هنا في مقام رثائه، يظلّ الشاعر والناقد 'سامي مهدي' الذي توفّي ببغداد، علامة مميّزة في الشعرية العربية، فهو واحد من أهم شُعراء الستينيات، بدأ رحلته مع القصيدة بديوانه الأوّل 'رماد الفجيعة' الصادر عام 1966م، وعلى مدى أكثر من نصف قرن من الكتابة والعمل الثقافي، ترك رفّا من الكتب احتلّت حيّزا من المكتبة العربيّة، ولم يتوقف عطاؤه عند منجزه الشعري، وهو ليس بالعادي، كما حاول البعض التقليل منه، بل تجاوزه إلى النقد، حتى أن الدكتور ضياء خضير وضع كتابا أسماه (سامي مهدي ناقدا)، ورآه متميّزا 'في مشروعه النقدي، كما هو متميز في مشروعه الشعري' كما يقول في كتابه الذي حاول من خلاله 'إلقاء أضواء على جوانب من الجهود المثابرة والمتّصلة لهذا الناقد والباحث'، وله آراء متفرّدة، في كتبه النقدية التي أبرزها: أفق الحداثة وحداثة النمط، الموجة الصاخبة، نظرات جديدة في أدب العراق القديم، رامبو: الحقيقة والأسطورة، في الطريق إلى الحداثة، وكلّنا نتذكّر دعوته الجريئة إلى إعادة النظر في 'ثقافة السيّاب' في الثمانينيات، وما أثارته تلك الدعوة من جدل في الأوساط الثقافية العراقية، رغم أنه يقرّ بتأثره بالسياب، الذي تعلم منه 'بناء القصيدة بناء مكتملا، مكتفيا بنفسه مفتوحا على خارجه' كما كتب في مقال له نشره في جريدة الأخبار عام 2015م.
أمّا جهوده في الترجمة، التي لم تسلم من القذف، فهي كثيرة، فقد ترجم عن الفرنسية كتبا عديدة لعل أبرزها: جاك بريفير، وهنري ميشو، كما ترجم مختارات من الشعر العالمي، والشعر الإسباني، ولم يرتفع صوت في حياته يُنكر عليه ذلك، وله في السرد رواية واحدة هي (صعودا إلى سيحان)، وعلى كثرة اهتماماته ومشاغله، ومناصبه الوظيفية التي شغلها، ظلّ مواظبا على الكتابة الشعريّة، ويعرف عنه الذين عملوا معه الصرامة، والجدّيّة في العمل، وحين كنت أنشر في جريدة 'الجمهورية' خلال ترؤسه لها، قبل التحاقي بالعمل فيها، كنت أرى ملاحظاته بقلمه على مقالاتي، وحين أسأل د. صباح ناهي عن ذلك، مستغربا، يجيبني 'رئيس التحرير يطّلع على كلّ شيء يُنشر في الصحيفة، حتى أسعار الفواكه والخُضراوات'!
ونالت دواوينه التي ناهزت العشرين ديوانا، اهتماما نقديّا، فقد تميّزت قصيدته بالتقاط التفاصيل اليومية، وشحنها بطاقة شعرية عالية، ولغة صافية، وأسئلة عميقة، لازمته منذ ديوانه الأوّل:
مَنْ لي بمَنْ يريح موجة بلا قرار
مَنْ لي بمَنْ يرد لهفة السؤال؟
صمت وغير الصمت لم يحتطب السؤال
فالنهر لا يجيب
والريح لا تجيب
والصوت طائر غريب
وظلّ إحساسه بالزوال يهيمن عليه حتى أنه أفرد مجموعة حملت عنوان (الزوال):
أوقفوا العالم فالأشياء تهتزّ
وتجري دون إبطاء
وتمضي المدن، الأمكنة، الناس، البنى، الأفكار من حولي،
ولا أقدر أن أمسك منها أيّ شيء، أيّ شيء
فأخلّيها وأبقى ثاويا وحدي بلا جار
ولا أيّ صديق... آه ما أسرع
ما أبكي وما أضحك ما أسرع أن أوجد
في الكون وأحيا وأموت'
ولم يتوقّف عن الكتابة، فقد بقي على تواصل مع الأصدقاء، والمتابعين ينشر بشكل شبه يومي في صفحته بالفيسبوك، ويعلّق على الأحداث الثقافية، واليومية، ويجيب عن استفسارات الشباب، وملاحظاتهم، وكنا قد تواصلنا معه للمشاركة في مهرجان 'أثير' للشعر العربي، فرحّب بالدعوة، غير أن المهرجان جرى تأجيله، فنقلت له الاعتذار، وتقبّل الأمر، وخسرنا لقاءه، وزيارة مسقط، وفي لقائي الأخير بصديقه الأثير الكبير حميد سعيد في عمّان الشهر الماضي، كان السؤال الأوّل عن وضع الراحل الصحي، فقد ربطت الشاعرين صداقة عميقة، وقد عكس كتابهما المشترك 'عشرون رسالة ورسالة' القضايا الفكرية التي شغلتهما، في الشعر، والنقد، والحياة، عبر عشرين رسالة متبادلة، بينهما، وكانت الرسالة الحادية والعشرين هي المقدّمة التي كتبها د. خالد علي مصطفى، على شكل رسالة أيضا، واليوم بعد أن رحل الطائر، ليس بوسعي سوى الترحّم على روحه، وتذكير، مَنْ ذرّ الرماد على فجيعة فقده 'ولا تبخسوا الناس أشياءهم'.
'لم أكنْ أَعْرف أنّا فُرَقاءْ
ولنا آلهةٌ شتّى وأنّا سُفَهاءْ
لم نُصِبْ من منطقِ الطيرِ
وَمِنْ سرّ 'فريدِ الدينِ' إلاّ الغُلَواءْ
لم نكنْ نبحثُ عن مسرى
إلى باب السماءْ'
هل كان رحيله، إشارة لنا لنرى الشقّ الواسع في حياتنا الثقافيّة، بل وغياب الحسّ الإنساني عندما ننبري لمحاكمة شاعر بين يدي ربّ رحيم؟
ورغم الرماد الذي ذراه البعض على شاهدة قبره الشعرية، وبعيدا عن الموقف السياسي، والظروف الملتبسة، التي لا أريد الخوض بها هنا في مقام رثائه، يظلّ الشاعر والناقد 'سامي مهدي' الذي توفّي ببغداد، علامة مميّزة في الشعرية العربية، فهو واحد من أهم شُعراء الستينيات، بدأ رحلته مع القصيدة بديوانه الأوّل 'رماد الفجيعة' الصادر عام 1966م، وعلى مدى أكثر من نصف قرن من الكتابة والعمل الثقافي، ترك رفّا من الكتب احتلّت حيّزا من المكتبة العربيّة، ولم يتوقف عطاؤه عند منجزه الشعري، وهو ليس بالعادي، كما حاول البعض التقليل منه، بل تجاوزه إلى النقد، حتى أن الدكتور ضياء خضير وضع كتابا أسماه (سامي مهدي ناقدا)، ورآه متميّزا 'في مشروعه النقدي، كما هو متميز في مشروعه الشعري' كما يقول في كتابه الذي حاول من خلاله 'إلقاء أضواء على جوانب من الجهود المثابرة والمتّصلة لهذا الناقد والباحث'، وله آراء متفرّدة، في كتبه النقدية التي أبرزها: أفق الحداثة وحداثة النمط، الموجة الصاخبة، نظرات جديدة في أدب العراق القديم، رامبو: الحقيقة والأسطورة، في الطريق إلى الحداثة، وكلّنا نتذكّر دعوته الجريئة إلى إعادة النظر في 'ثقافة السيّاب' في الثمانينيات، وما أثارته تلك الدعوة من جدل في الأوساط الثقافية العراقية، رغم أنه يقرّ بتأثره بالسياب، الذي تعلم منه 'بناء القصيدة بناء مكتملا، مكتفيا بنفسه مفتوحا على خارجه' كما كتب في مقال له نشره في جريدة الأخبار عام 2015م.
أمّا جهوده في الترجمة، التي لم تسلم من القذف، فهي كثيرة، فقد ترجم عن الفرنسية كتبا عديدة لعل أبرزها: جاك بريفير، وهنري ميشو، كما ترجم مختارات من الشعر العالمي، والشعر الإسباني، ولم يرتفع صوت في حياته يُنكر عليه ذلك، وله في السرد رواية واحدة هي (صعودا إلى سيحان)، وعلى كثرة اهتماماته ومشاغله، ومناصبه الوظيفية التي شغلها، ظلّ مواظبا على الكتابة الشعريّة، ويعرف عنه الذين عملوا معه الصرامة، والجدّيّة في العمل، وحين كنت أنشر في جريدة 'الجمهورية' خلال ترؤسه لها، قبل التحاقي بالعمل فيها، كنت أرى ملاحظاته بقلمه على مقالاتي، وحين أسأل د. صباح ناهي عن ذلك، مستغربا، يجيبني 'رئيس التحرير يطّلع على كلّ شيء يُنشر في الصحيفة، حتى أسعار الفواكه والخُضراوات'!
ونالت دواوينه التي ناهزت العشرين ديوانا، اهتماما نقديّا، فقد تميّزت قصيدته بالتقاط التفاصيل اليومية، وشحنها بطاقة شعرية عالية، ولغة صافية، وأسئلة عميقة، لازمته منذ ديوانه الأوّل:
مَنْ لي بمَنْ يريح موجة بلا قرار
مَنْ لي بمَنْ يرد لهفة السؤال؟
صمت وغير الصمت لم يحتطب السؤال
فالنهر لا يجيب
والريح لا تجيب
والصوت طائر غريب
وظلّ إحساسه بالزوال يهيمن عليه حتى أنه أفرد مجموعة حملت عنوان (الزوال):
أوقفوا العالم فالأشياء تهتزّ
وتجري دون إبطاء
وتمضي المدن، الأمكنة، الناس، البنى، الأفكار من حولي،
ولا أقدر أن أمسك منها أيّ شيء، أيّ شيء
فأخلّيها وأبقى ثاويا وحدي بلا جار
ولا أيّ صديق... آه ما أسرع
ما أبكي وما أضحك ما أسرع أن أوجد
في الكون وأحيا وأموت'
ولم يتوقّف عن الكتابة، فقد بقي على تواصل مع الأصدقاء، والمتابعين ينشر بشكل شبه يومي في صفحته بالفيسبوك، ويعلّق على الأحداث الثقافية، واليومية، ويجيب عن استفسارات الشباب، وملاحظاتهم، وكنا قد تواصلنا معه للمشاركة في مهرجان 'أثير' للشعر العربي، فرحّب بالدعوة، غير أن المهرجان جرى تأجيله، فنقلت له الاعتذار، وتقبّل الأمر، وخسرنا لقاءه، وزيارة مسقط، وفي لقائي الأخير بصديقه الأثير الكبير حميد سعيد في عمّان الشهر الماضي، كان السؤال الأوّل عن وضع الراحل الصحي، فقد ربطت الشاعرين صداقة عميقة، وقد عكس كتابهما المشترك 'عشرون رسالة ورسالة' القضايا الفكرية التي شغلتهما، في الشعر، والنقد، والحياة، عبر عشرين رسالة متبادلة، بينهما، وكانت الرسالة الحادية والعشرين هي المقدّمة التي كتبها د. خالد علي مصطفى، على شكل رسالة أيضا، واليوم بعد أن رحل الطائر، ليس بوسعي سوى الترحّم على روحه، وتذكير، مَنْ ذرّ الرماد على فجيعة فقده 'ولا تبخسوا الناس أشياءهم'.