منوعات

آيات شيطانية

 
تعرّض الكاتب البريطاني سلمان رشدي، البالغ من العمر 75 عاما، والمولود في كشمير بالهند عام 1947م، لمحاولة اغتيال، واتهام هادي مطر، أمريكي من أصل لبناني، عمره 24 عاما، في ولاية غرب نيويورك. وبحسب موقع «CNN بالعربية» الإلكتروني فإن مطر (سيحاكم بتهمة الشروع في القتل من الدرجة الثانية والاعتداء من الدرجة الثانية).

هادي مطر.. لا يُعرف قبل هذا الحدث، أما سلمان رشدي فهو كاتب وروائي، فاز عام 1981م بجائزة البوكر الأدبية على روايته «أطفال منتصف الليل»، وحتى صدور روايته «الآيات الشيطانية» عام 1988م لم يكن مشهورا خارج حقله الأدبي، وبإفتاء الزعيم الإيراني روح الله الخميني عام 1989م بهدر دمه على روايته هذه ذاع صيته في العالم، وحضر في ضمير المسلمين بكونه مرتدا عن الإسلام، ومسيئا لمقام النبي الأكرم، وثار ضده آلاف المسلمين في العديد من مدن العالم. وفي المقابل.. وجد رشدي تعاطفا من الغرب وحماية من دوله، وحصل على أوسمة لريادته الأدبية.

تابعتُ تطورات الأحداث المتعلقة بـ«الآيات الشيطانية» منذ صدور فتوى الخميني بقتل مؤلفها، وقرأت كثيرا مما قيل عنها. لقد صدرت وأنا على مقعد الدراسة بجامعة السلطان قابوس، وزاد اهتمامي بها تخصصي في «أصول الدين». الرواية.. تقوم بالأساس على قضيتين من السيرة النبوية:

الأولى.. ما روي حول سلامة مصدرية الوحي القرآني، حيث جاء في بعض كتب السيرة أن النبي عندما كان يتلو «سورة النجم» ووصل إلى قول الله: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى)؛ ألقى الشيطان على لسانه قوله: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)، فظهر النبي كأنه يمتدح الأصنام، لكن الله تدارك وحيه -كما في «سورة الأنبياء»- بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ).

الثانية.. الطعن في عرض نساء النبي الكريم، خاصةً السيدة عائشة، متكئا رشدي على «حادثة الإفك»، والتي جاءت براءتها في «سورة النور»: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وإذا كانت «قصة الغرانيق» لا تصح بحسب منهج رواة الحديث؛ فإن القرآن قد برأ السيدة عائشة من «حادثة الإفك». بل لا يوجد فيه ما يصرّح بأنها وقعت للسيدة عائشة، ولذلك يرفض ابن قرناس صاحب «سنة الأولين» أن تكون نزلت فيها، ولا يبعد لدي استقامة رأيه، وأن عائشة لُزَّت فيها من قِبَل المفسرين بسبب الصراع السياسي والمذهبي. وهذا يدل على أن الرواية معلقة في فضاء الأدب وخياله، لا أساس لها، ولا قيمة معتبرة لمطاعنها.

لمّا صدرت فتوى الخميني كنا في الجامعة، يدّرسنا حينها الدكتور عبدالله محمود شحاته (ت:2002م) أحد علماء الأزهر وله تفسير للقرآن الكريم، وكانت «الآيات الشيطانية» وفتوى الخميني حديث الجميع، وقد أدان الدكتور شحاته الرواية مع رفضه للفتوى، ولمّا سألناه: وكيف ينتصر المسلم لنبيه الكريم؟ رد: عليكم أن تتعلموا، وبالعلم تنصرون الإسلام ونبيه. كان رده مؤثرا، وما زلت أسأل نفسي: هل نصر المسلمون دينهم ونبيهم بردود فعلهم العنيفة، أم أنهم أساؤوا للإسلام؟

أؤكد.. على رفض الإساءة إلى أنبياء الله وشرائعهم المنزلة، وأدعو أن يبرم عقد أخلاقي عالمي بإدانة أية إساءة لهم ولشرائعهم، وأن يوجد تمييز بين الإساءة إلى الأديان والنقد الموضوعي للمعتقدات الدينية، ومَن لا يعرف الفرق بينهما فلا يجدر به أن يكتب سطرا حول الدين وأحكامه وشرائعه. لكن علينا أن نقرّ بأن هناك أزمة معرفية لدى المسلمين، قضية رشدي و«آياته الشيطانية» نموذج كاشف لها.

منذ سنوات.. جرى بيني وبين أحد الأصدقاء حديث حول «الآيات الشيطانية» والموقف حيالها، فكان تعليقي بما تعلمته من الدكتور شحاته، أن خير رد على مَن يسيء إلى الإسلام هو أن نمتلك العلم الذي ننفع به البشرية، والناس ستقدرنا وتحترم ديننا لمّا ترى قوتنا في مسك زمام الحياة بالعلم. ولمّا تدبّرت الآيات الواردة في القضيتين اللتين تعرضت لهما «الآيات الشيطانية» وجدت فيها دعوة للعلم، ففي «سورة الأنبياء»، يقول الله: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)، ألا يجدر بنا أن نواجه ما يتعرض إليه الإسلام وكتابه المنزل بالعلم الدافع إلى الإيمان، والعمل بما جاء به القرآن، بدلا من العنف المنفّر من الدين، والذي قد تزهق به نفوس معصومة، وفي مقدمتها نفوس المسلمين؟

وفي «حادثة الإفك» يقول الله: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)، ففي الآية تحذير من الخوض في هذه القضايا وغيرها بدون علم. بالإضافة إلى الحض في القرآن على العلم كقول الله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، و(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ). وفي «سورة النور» قبل الحديث عن «حادثة الإفك» جاء تشريع قانوني في الزنا؛ إثباتا وعقوبة، وتشريع آخر فيمن يقذف المحصنات، ألا ينبغي للمفكرين المسلمين والمتخصصين منهم في القانون أن يسعوا إلى سن قوانين دولية تجرّم من يتعدى على الأديان ومقدساتها، خاصةً.. الأنبياء الكرام، امتثالا لما جاء به القرآن وتطبيقا لإرشاداته الحكيمة، والسعي إلى تبني هذه القوانين والعمل على تطبيقها من قِبَل المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة؟

جاء في الموقع الإلكتروني لـ«BBC» بأن هاني مطر المتهم بمحاولة اغتيال سلمان رشدي لم يقرأ من «الآيات الشيطانية» سوى صفحتين، فكيف يسوغ له -إن ثبتت التهمة عليه- أن يقتل شخصا على رواية لم يقرأها؟ وهذه ليست أزمة مطر وحده، بل هي أزمة معرفية عامة لدى المسلمين، فكثير منهم يحكمون على الآخرين، بل ويسعون إلى تصفيتهم جسديا، لمجرد أنهم سمعوا عنهم، أو أن جمهور المسلمين غاضبون منهم، دون أن يتحققوا من طبيعة الأمر، وما الحكم فيه. والقرآن يرفض الفعلين؛ يرفض الحكم بمجرد السماع كما يرفض الانسياق الجماعي، ويمنع كذلك الحكم على الشيء ما لم يكن قد علم حقيقته، قال الله: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا). والمفارقة.. أن يسخط على الرواية مَن لا يقرأ إلا باللغة العربية، مع أنه لم يترجم منها للعربية إلا حوالي ثلثها ترجمةً ركيكة، لا تمثل الرواية التي وُصِفت بأنها «قطعة فنية». لا يتأتى فعلاً الحكم على عمل روائي إلا من مختص في الأدب والقانون، فالله يقول: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل)، ولا يجوز الحيود عن العدل.

ختاماً.. إن نقد منظومتنا المعرفية؛ لا يعني دعوة إلى تبني منظومات الآخرين، بل علينا أن ننقد كل المنظومات نقداً موضوعياً، فقد وضع الله للكون ميزان القسط. ثم علينا أن ننطلق في بناء رؤيتنا المعرفية من القرآن، الذي مقصده هداية الناس والرحمة بهم، وليس من أهوائنا الثائرة التي أقصى غايتها الثأر من الآخرين.