نوافذ: الحب من أول رحلة
السبت / 28 / محرم / 1444 هـ - 23:22 - السبت 27 أغسطس 2022 23:22
سليمان المعمري
وقع أحمد بن ناصر في حب جزيرة مصيرة من أول رحلة، رغم أنه لا يتذكّر متى كانت بالضبط، لكنه منذ ذلك التاريخ أعاد زيارتها مرات ومرات، وفي كل مرة تطأ فيها قدماه أرضها يعتريه الاندهاش نفسه، والرهبة ذاتها، ولأن العشاق لا يطيقون للحبّ كتمانًا فقد قرر أخيرًا البوح بهذا الحب في كتاب «أتلانتس بحر العرب: تدوينات من الرحلة إلى جزيرة مصيرة» الصادر مؤخرًا ضمن سلسلة إصدارات مجلة نزوى الثقافية.
لا نتعرف على سرّ العنوان إلا في الصفحة الأخيرة من الكتاب الذي يقع في 88 صفحة من القطع المتوسط، عندما يتحدث ابن ناصر عن مدينة «أتلانتس» ويورد ما ورد في الكتابات التاريخية عنها، أنها مدينة غرقت في أعماق البحار، وبعد أن يستدرك بأنه لا يعلم إن كانت هذه المعلومة صحيحة أم لا، يقول إن لكل إنسان «أتلانتس» الخاصة به، وأنه وجد أخيرًا «أتلانتسه»، المدينة التي «صعدت إلى السطح، ومدت جذورها للأرض، وأرخت شطآنها، وأرست جبالها، وحفرت وديانها، فكانت جزيرة مصيرة».
ورغم أن أحمد بن ناصر معروف لدينا بأنه رحّالة يهوى استكشاف الأماكن والكتابة عنها، إلا أنه عندي أديب قبل كلّ شيء. فما يكتبه ليس مجرد وصف عابر لهذه الرحلات، وإنما أدب رفيع زاخر بالتأملات الوجدانية، والحسّ الإنساني، والرؤى المغايرة في الحياة والكائنات والأشياء. يشهد على ذلك كتابه الأول ذو العنوان المضلل «قواعد الرحلة الأربعون» الصادر عن دار نثر عام 2021م، الذي يوحي لأول وهلة أنه سيتكلم عن قواعد واشتراطات ينبغي اتباعها لمن يود أن يكون رحالة، في حين نكتشف بعد قراءة الكتاب أنها شذرات بديعة نابعة من صميم نفس إنسانية متأمّلة للحياة والرحلة والسفر.
ينهض «أتلانتس بحر العرب» على القصص التي يؤمن المؤلف بأنها «الطريقة الأسهل والأكثر تشجيعًا على القراءة»، لذا فإننا نجد الكتاب زاخرًا بالحكايات التي عاشها ابن ناصر؛ أو سمعها، أو قرأ عنها، ولسان حاله عبارة وردتْ في ختام أحد الفصول: «ابتسمتُ لحظتها، لأنه أصبحت عندي ذكرى أخرى وقصة أخرى أحكيها».
ومن حكاية إلى أخرى يقودنا المؤلف برشاقة؛ من المعزات الثلاث التي ضاعت في الجبل الأحمر، إلى السلحفاة التي وجدها ملقية على الشاطئ بعد فقدها أحد أطرافها الجانبية فحملها وساعدها في العودة إلى البحر في موقف إنساني نبيل. ومن القنفذ الذي وجده في غرفته التي استأجرها للمبيت في الجزيرة، إلى شاطئ «بياض» ومقابره المجهولة. ومن حادثة السفينة «بارون إنّرديل» سنة 1904 والأزمة الدبلوماسية التي سببتها بين عُمان وبريطانيا، إلى سكة قطار مصيرة التي تأسست سنة 1943م. ومن إعصار عام 1977 الذي دمّر أحياء سكنية كثيرة في مصيرة، إلى حَكايا السفن التي مرت بالجزيرة أو غرقت فيها.
يميل ابن ناصر إلى الرحلات الفردية، ويلاحظ بهذا الخصوص أن العمانيين إجمالًا «يستنكرون الخروج إلى رحلة خلوية وحيدا، باختلاف طريق الرحلة من مشي أو دراجة هوائية أو نارية أو حتى السيارة»، ويعزو هذا الاستنكار إلى عدم قدرتهم على معرفة الفرق بين الوحدة والعزلة بدقة، وهو الفرق الذي أورده الفيلسوف الأمريكي ألمانيّ الأصل بول تيليش في قوله: «اللغة ابتكرت كلمة الوحدة لوصف ألم أن تكون وحيدا، وابتكرت كلمة العزلة لتصف شرف أن تكون وحيدا».
وأتصوّر أن هذه العزلة التي نَعِمَ المؤلف بشرفها هي التي أتاحت له أن يكون «دودة قراءة»، إن جاز التعبير، وهذا ما يفسّر أن كتابه ممتلئ بالخبرات القرائية. فمجرد حديثه عن اسم العبّارة «دانة1» التي أقلته في رحلته الأولى إلى مصيرة يذكّره بالسفينة «جرانما» التي أقلت تشي جيفارا وفيدل كاسترو إلى كوبا خلال الثورة الكوبية، والسفينة «بيجل» التي سافر داروين على متنها في رحلة طويلة ليعود بعدها بنظرية «النشوء والارتقاء». وتأمله لسلحفاة نافقة أمام أحد شواطئ الجزيرة يذكّره بتأمل حي ابن يقظان في قصة ابن طفيل الشهيرة لأمه الظبية الميتة وحيرته أمام الموت الذي يتعرف عليه لأول مرة. وحديث ابن ناصر عن الأمان الذي ارتبط دائمًا باليابسة يقفز به إلى صرخة الفيلسوف هيجل الفرِحة كلما رأى القهوة التي ينتظرها قادمة في يد خادمه: «اليابسة، اليابسة، إني أرى اليابسة»، ويعنون الفصل الذي يسرد زيارته للمنارة الوحيدة في مصيرة بعنوان رواية لفرجينيا وولف «إلى المنارة»، وغير ذلك من الاستشهادات القرائية التي لا تبدأ بدستيوفسكي ولا تنتهي برنا الضوياني.
يقول أحمد بن ناصر: إنه أراد بكتابة رحلاته إلى مصيرة أن تكون دعوة غير مباشرة إلى من لم تسبق له زيارة هذه الجزيرة أن يفعل. وأنا أضيف أنه حتى من سبقت له زيارتها لن يملك بعد قراءته هذا الكتاب الجميل إلا العودة إليها من جديد، لتأمل ما فاته من جَمال وفتنة آسرة.
لا نتعرف على سرّ العنوان إلا في الصفحة الأخيرة من الكتاب الذي يقع في 88 صفحة من القطع المتوسط، عندما يتحدث ابن ناصر عن مدينة «أتلانتس» ويورد ما ورد في الكتابات التاريخية عنها، أنها مدينة غرقت في أعماق البحار، وبعد أن يستدرك بأنه لا يعلم إن كانت هذه المعلومة صحيحة أم لا، يقول إن لكل إنسان «أتلانتس» الخاصة به، وأنه وجد أخيرًا «أتلانتسه»، المدينة التي «صعدت إلى السطح، ومدت جذورها للأرض، وأرخت شطآنها، وأرست جبالها، وحفرت وديانها، فكانت جزيرة مصيرة».
ورغم أن أحمد بن ناصر معروف لدينا بأنه رحّالة يهوى استكشاف الأماكن والكتابة عنها، إلا أنه عندي أديب قبل كلّ شيء. فما يكتبه ليس مجرد وصف عابر لهذه الرحلات، وإنما أدب رفيع زاخر بالتأملات الوجدانية، والحسّ الإنساني، والرؤى المغايرة في الحياة والكائنات والأشياء. يشهد على ذلك كتابه الأول ذو العنوان المضلل «قواعد الرحلة الأربعون» الصادر عن دار نثر عام 2021م، الذي يوحي لأول وهلة أنه سيتكلم عن قواعد واشتراطات ينبغي اتباعها لمن يود أن يكون رحالة، في حين نكتشف بعد قراءة الكتاب أنها شذرات بديعة نابعة من صميم نفس إنسانية متأمّلة للحياة والرحلة والسفر.
ينهض «أتلانتس بحر العرب» على القصص التي يؤمن المؤلف بأنها «الطريقة الأسهل والأكثر تشجيعًا على القراءة»، لذا فإننا نجد الكتاب زاخرًا بالحكايات التي عاشها ابن ناصر؛ أو سمعها، أو قرأ عنها، ولسان حاله عبارة وردتْ في ختام أحد الفصول: «ابتسمتُ لحظتها، لأنه أصبحت عندي ذكرى أخرى وقصة أخرى أحكيها».
ومن حكاية إلى أخرى يقودنا المؤلف برشاقة؛ من المعزات الثلاث التي ضاعت في الجبل الأحمر، إلى السلحفاة التي وجدها ملقية على الشاطئ بعد فقدها أحد أطرافها الجانبية فحملها وساعدها في العودة إلى البحر في موقف إنساني نبيل. ومن القنفذ الذي وجده في غرفته التي استأجرها للمبيت في الجزيرة، إلى شاطئ «بياض» ومقابره المجهولة. ومن حادثة السفينة «بارون إنّرديل» سنة 1904 والأزمة الدبلوماسية التي سببتها بين عُمان وبريطانيا، إلى سكة قطار مصيرة التي تأسست سنة 1943م. ومن إعصار عام 1977 الذي دمّر أحياء سكنية كثيرة في مصيرة، إلى حَكايا السفن التي مرت بالجزيرة أو غرقت فيها.
يميل ابن ناصر إلى الرحلات الفردية، ويلاحظ بهذا الخصوص أن العمانيين إجمالًا «يستنكرون الخروج إلى رحلة خلوية وحيدا، باختلاف طريق الرحلة من مشي أو دراجة هوائية أو نارية أو حتى السيارة»، ويعزو هذا الاستنكار إلى عدم قدرتهم على معرفة الفرق بين الوحدة والعزلة بدقة، وهو الفرق الذي أورده الفيلسوف الأمريكي ألمانيّ الأصل بول تيليش في قوله: «اللغة ابتكرت كلمة الوحدة لوصف ألم أن تكون وحيدا، وابتكرت كلمة العزلة لتصف شرف أن تكون وحيدا».
وأتصوّر أن هذه العزلة التي نَعِمَ المؤلف بشرفها هي التي أتاحت له أن يكون «دودة قراءة»، إن جاز التعبير، وهذا ما يفسّر أن كتابه ممتلئ بالخبرات القرائية. فمجرد حديثه عن اسم العبّارة «دانة1» التي أقلته في رحلته الأولى إلى مصيرة يذكّره بالسفينة «جرانما» التي أقلت تشي جيفارا وفيدل كاسترو إلى كوبا خلال الثورة الكوبية، والسفينة «بيجل» التي سافر داروين على متنها في رحلة طويلة ليعود بعدها بنظرية «النشوء والارتقاء». وتأمله لسلحفاة نافقة أمام أحد شواطئ الجزيرة يذكّره بتأمل حي ابن يقظان في قصة ابن طفيل الشهيرة لأمه الظبية الميتة وحيرته أمام الموت الذي يتعرف عليه لأول مرة. وحديث ابن ناصر عن الأمان الذي ارتبط دائمًا باليابسة يقفز به إلى صرخة الفيلسوف هيجل الفرِحة كلما رأى القهوة التي ينتظرها قادمة في يد خادمه: «اليابسة، اليابسة، إني أرى اليابسة»، ويعنون الفصل الذي يسرد زيارته للمنارة الوحيدة في مصيرة بعنوان رواية لفرجينيا وولف «إلى المنارة»، وغير ذلك من الاستشهادات القرائية التي لا تبدأ بدستيوفسكي ولا تنتهي برنا الضوياني.
يقول أحمد بن ناصر: إنه أراد بكتابة رحلاته إلى مصيرة أن تكون دعوة غير مباشرة إلى من لم تسبق له زيارة هذه الجزيرة أن يفعل. وأنا أضيف أنه حتى من سبقت له زيارتها لن يملك بعد قراءته هذا الكتاب الجميل إلا العودة إليها من جديد، لتأمل ما فاته من جَمال وفتنة آسرة.