أفكار وآراء

الذكاء الاصطناعي: التشريع والمجتمع

تحدثتُ الأسبوع الفائت في مؤتمر: «مواطنة الذكاء الاصطناعي: من عُمان إلى العالم» الذي جرت أشغاله في محافظة ظفار، لقد كان أحد أهم الهواجس شيوعًا وتكرارًا في جلسات المؤتمر هو هاجس التشريع، أو الكيفية التي يمكن من خلالها أن تواكب/ تنظم/ تؤطر التشريعات المحلية الاستخدامات/ الارتدادات/ العمليات التي تقوم على الأتمتة والذكاء الاصطناعي.

ولعل قضية التشريع المواكب للتقنيات المتقدمة وما تفرزه من نقاشات وإشكالات أحد أهم الجدليات التي تشغل اليوم العاملين في حقل التشريع كما تشغل العاملين في الحقول التي تقوم عليها هذه التقنيات والتطبيقات وأدواتها.

هناك اتجاهات مختلفة في هذه المسألة بين تيارات تؤيد التوافق على مدونات أخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي واتجاهات أخرى ترى في إيجاد سياسات مؤسسية أو وطنية تحدد المبادئ العامة للاستخدامات وتنبه إلى المحاذير وتؤطر بشكل عام نطاق المسؤوليات، وهناك اتجاهات أخرى تدعو إلى التريث ورصد القضايا الناشئة والتجريب، مع وجود تيارات في كل دول العالم تدفع بضرورة إيجاد تشريعات وطنية عليا لوضع الضوابط والجزاءات وتحديد أطر الاستخدام وتبيان الأحكام والأدوار وتأطير التعديات.

في تقرير مؤشر الذكاء الاصطناعي لعام 2022 الصادر عن جامعة ستانفورد تشير التحليلات إلى أن القوانين المتصلة بالذكاء الاصطناعي أو تلك التي تحتوي على إشارة حول «الذكاء الاصطناعي» في 25 دولة حول العالم ارتفعت من قانون واحد في عام 2016 إلى ما يقترب من 18 قانون في عام 2021 وهو يعكس الضرورات الملحة للمعالجة التشريعية لمسألة الذكاء الاصطناعي والقضايا المثارة حولها، إلا أن التشريعات المتصلة بهذا السياق يتوجب أن تكون متنبهة للآتي:

1- أولها: أنها متصلة بالتقنية، والتقنية بطبيعتها متجددة في ابتكار أدواتها وتحديث نهجها، ومراكمة تطبيقاتها، والتشريع بطبيعته لابد أن يكون حاويًا جامعًا مؤطرًا وبالتالي فإن احتمال ظهور بعض الثغرات القانونية وارد في أي نص يتعاطى مع هذه التقنيات.

2- ثانيها: أن القضايا الناتجة عن تعاظم تلك التقنيات والتطبيقات تظهر حينًا بعد آخر ويصعب حصرها وتتداخل مع أشكال أخرى من القضايا المتصلة بالحياة المدنية والبيانات الشخصية، وعليه فإن أي تشريع يسن في هذا الاتجاه لابد أن يكون ملمًا بكافة القضايا المحتملة التي قد تنشأ عن الاستخدامات وأن يكون متكاملًا غير متعارض مع منظومة التشريعات والقوانين الأخرى.

3- الطبيعة التي يتفاعل فيها البشر/ المجتمع مع الآلة، والأمُكن المتاحة لهم لإدماجها في أنشطة إنتاجهم ومعيشهم وتفاعلاهم وعلاقاتهم وأعمالهم تختلف من سياق مكاني لآخر باختلاف خصوصية الثقافة والمجتمع والموارد والإتاحة والوصول وعليه فإن تأطير النصوص التشريعية في هذا الشأن يجب أن يتناغم مع الطريقة التي يطور بها المجتمع تفاعله مع التقنية أو التطبيقات الناتجة عنها والمحتملة لاستخداماتها في سياق خصوصية الثقافة والمجتمع.

لتجاوز هذا الإشكال عملت بعض الدول على ما يُعرف بـ«التشريعات التجريبيةExperimental legislation» وفكرة التشريعات التجريبية تتماشى مع فكرة التجريب في استقطاب أو عمل وتشغيل التقنيات أو ما يُعرف بـ«Sandbox » حيث يسمح للتقنية/ التطبيق بالعمل ضمن بيئة مراقبة ومحددة ومحصورة ويتم اختبار أفضل التدخلات التشريعية لتنظيم عملها وفي نفس الإطار مراقبة القضايا الناشئة التي يمكن أن تنشأ عن الاستخدام أو الإدماج وتطوير النصوص القانونية والمعالجات التشريعية الملاءمة في حينه لتلك القضايا.

يرتبط هذا الأمر بالتجريب على قطاعات أو مؤسسات بعينها لفهم الكيفية التي سيستجيب من خلالها التشريع ويكون من خلالها مرنًا للتعاطي مع كل ما ينشأ من عتبات للتطبيق وبالتالي الوصول إلى أقصى درجات الشمول التشريعي أو الإحاطة القانونية. ومثال على ذلك قانون الذكاء الاصطناعي الذي أقرته روسيا مطلع 2020 وهو تشريع تجريبي أقر لمدة خمس سنوات يضع ما يُعرف بصناديق الحماية الرقمية كمختبر للابتكارات الجديدة وتتبع القضايا القانونية والأخلاقية الناشئة عنها وخصوصًا في تأثيرها على منظومة حماية البيانات الشخصية للأفراد.

على مستوى المجتمع هناك الكثير من الأطروحات التي تتناول تأثير الذكاء الاصطناعي على بيئات العمل والوظائف المطلوبة وعلى تجربة المستخدمين وعلى كلف إنجاز الأعمال والمهارات وتغيير ثنائية العلاقة بين الفرد والزمن.

إلا أننا نعتقد أن ثمة ضرورات ثلاث أساسية ينبغي التنبه إليها في الدخول إلى هذا العصر أولها: الوعي بقيمة البيانات الشخصية وما الذي تعنيه بالنسبة للفرد في عالم البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي وكيف يمكن للفرد أن يتحكم في تلك البيانات ويفهم صيغة التدابير القانونية لحمايتها وكيف يقدمها أو يمتنع عن تقديمها وكيف يوظفها أو يتجنب توظيفها.

الأمر الآخر هو «المرونة المهارية». في الحديث عن وظائف سيتم أتمتتها يتصور البعض أننا لن نجد شواغر وظيفية في المستقبل بفعل الآلة أو أن نطاق واسع من العاملين لن يستطيعون تعويض وظائفهم التي قد تحل الآلة محلها.

والواقع أن الأمر مرتبط بما نسميه «المرونة المهارية» وهي قدرة النظم التعليمية وإدراك الفرد الذاتي على امتلاك المهارات المتقدمة التي تمكنه في الانتقال من ممارسة «مهمة/ وظيفة/ مجال عمل» إلى آخر.

بحسب تقارير الإسكوا فإنه خلال الـ(15-20) سنة القادمة سيتغير بفعل الأتمتة 14% من الوظائف الحالية و 32% من الوظائف الجديد. وبالتالي فإن المرونة المهارية التي نشير إليها قد تكون أحد أدوات تكيف المجتمعات مع هذا الانتقال.

يقول توماس فيري في حديثه لنشرة «مستقبليات» أن هناك قانونين يحكمان قدرات المستقبل، الأول« أنه مع كل أتمتة وتطور تقني ينشأ نقص في الجهد ولكنه يؤدي إلى زيادة في القدرات»، والثاني «سيصبح باستطاعتنا التفكير على نحو أسرع وإنجاز الأعمال على نحو أفضل وأسرع من ذي قبل».

وبالتالي فإن الفرد المتكيف في تقديرنا هو القادر على مجاراة هذا التحول مهاريًا وقدراتيًا.

أما الضرورة الثالثة التي نشير إليها فهي الاستعداد لتجربة عميل أكثر تخصيصًا، حيث ستتيح البيانات الضخمة والتطور المتسارع في إدماج إمكانات الذكاء الاصطناعي كما هو معلوم في صنع تجارب تتناسب مع أذواقنا/ تفضيلاتنا/ خياراتنا/ إمكاناتنا/ ميولنا/ أوقاتنا... بناء على ما يتوفر عنا من بيانات لدى المؤسسات وعليه فإن هذه التجارب سواء كانت في قطاعات الصحة أو التعليم أو المأكل والمشرب أو الإقامة والسفر وغيرها ستكون أكثر تناسبا مع ما نريد إلا أنها تحمل في الجانب الآخر ضرورة لتوسع وعينا بضرورة تحسين قرارنا الاستهلاكي وألا يكون محكومًا بما يصمم لنا من تجارب المستهلكين أو نستهدف به من حملات تسويق مخصصة أو وكزات سلوك محددة.