أفكار وآراء

مرايا الأزمنة !

ربما ندرك اليوم بصورة ما، نوستالجيا ما سُمي بالزمن الجميل، وهو زمن أطلقته المجتمعات الأوروبية على تلك الحقبة من نهاية القرن التاسع عشر وحتى قبيل بداية الحرب العالمية الأولى في عام 1914 من القرن العشرين.

أما الزمن الجميل -بحسب البعض- في المنطقة العربية فهو قد كان «على الأرجح» خلال الخمسينيات حتى منتصف ستينيات القرن الماضي. حيث أمكن لطبقات عديدة من البشر في المجتمعات العربية أن تتوفر على مستوى لا بأس به من المعرفة العامة أو ما يُعرف بالثقافة العامة وذلك بفضل الاكتراث لقواعد وتقاليد رصينة في إنتاج الخطاب الثقافي الذي كانت تتحكم في إنتاجه نخب متميزة، إلى جانب الإنتاج الإعلامي (الصحافة) إضافة إلى التفاعل من الأطوار الجديدة للمجتمعات العربية بعد استقلال الدولة العربية الحديثة.

لكن ما هو مثير للسؤال اليوم؛ هل يمكن أن يعاد زمن كذلك الزمن الجميل في زماننا هذا، وإذا ما كانت الأسباب التي توفرت لإنتاج ذلك الزمن الجميل بمثقفيه العاميين من كافة طبقات المجتمع فهل اليوم هناك ضابط أصلا يؤدي إلى تكرار ذلك الزمن في أيامنا هذه؟ هذا السؤال في تقديرنا هو مما يتصل بأمور عديدة قبل الإجابة عليه مثلا؛ هل كان ذلك الزمن في حقيقته زمنا جميلا أم أن الأمر مجرد نوستالجيا يستدعيها النظر إلى ماضي الأيام. لكن الإجابة على مثل هذا الأسئلة ربما تضعنا أمام طريقة للمقارنة يمكن من خلالها قياس الأمر عبر فكرة التقدم المطرد مثلا. وهذه الفكرة بدورها ستضع علامات استفهام كبيرة إذا ما حاولنا أن نضعها موضع قياس لزمننا الجميل حيال مجتمعات أخرى لكي يمكننا إدراك الفرق؟ هكذا سنجد جملة من أسباب مختلفة ستضعنا على محك السؤال الحقيقي حول ما إذا كان الزمن العربي في الخمسينيات حتى منتصف الستينيات زمنا جميلا بحق أم أنه زمن مشوب بحلاوة ماضي الذكريات!

يمكن القول إن الإجابة تكمن في تصوّرنا لإيقاع الزمن، آنذاك، أي طبيعة الحياة التي كانت تحكمها قواعد ظلت متشابهة في القوالب العامة للحياة العصرية مع بعض الفروقات بين مجتمع وآخر، أقصد الحياة العصرية التي عمقت للناس إيمانا متفائلا بالمستقبل على نحو كان فيه العلم يعد بفتوحات كبيرة في إنتاج تيسيرات الحياة المادية، فيما كانت مركزية الحضارة الأوروبية تصبغ بقية العالم بأطوارها المطردة باتجاه المستقبل.

لهذا فإن طبيعة إيقاع الزمن في القرن العشرين كانت وتائر التطور فيه تتسارع لكن على خطى القرن التاسع عشر مع سرعة ملحوظة لصالح القرن العشرين. وبناء على هذا الاستنتاج؛ نتصوّر أن ما نعيشه اليوم منذ ثورة المعلوماتية والاتصال طور مختلف وجديد يدخل فيه العالم على إيقاع سرعة بوتائر تطور عالية، والأخطر من ذلك لا أحد يمكن أن يتنبأ بما يخفيه المستقبل القريب من مفاجآت العالم الذي نعيشه اليوم، لذلك فإن أسطورة الزمن الجميل التي يتخيلها البشر ويسقطون عليها ما يحبون من حياة ماضية ربما لا يمكنها أن تصمد في عالمنا الذي نعيشه.

لقد تعددت منصات المعرفة والتواصل، وتداخلت الحيوات بفعل الثورة الرقمية، إلى درجة يمكن القول معها إن التأثيرات المتعددة الوجهة والمكان والمتباينة في عمقها وضحالتها ستبدو اليوم، ظاهريا، على سوية واحدة من سطح الاستعراض الذي يشهده المتلقي عبر الشاشات الثلاث «التلفزيون - الموبايل» الكمبيوتر، وأصبح التحكم في الاختيار من تلك العروض مع ما تعكسه الوفرة من مفارقة تبعث على الملل السريع أكبر مسوغ للتسطيح، وبالتالي إذا ما تعذرت مع هذه الوفرة والسرعة أي حيازة لقدرة على مراكمة معرفة أو خبرة فإن الإشكالية هنا ستعكس إحساسا بعالم نشعر أنه يوفر لنا ما نريد دون أن تكون إرادتنا الملولة متناسبةً مع ما نريده في أسرع وقت مع أكبر قدر! لكل ذلك لا يمكننا أبدا العودة إلى الماضي أو استعادته إلا في خيالاتنا أو في الأفلام التي تستعيد تلك الحيوات المنقضية عبر التمثيل.

إن الذي تحكم في إنتاج الزمن الجميل من قوالب وتقاليد أصبح اليوم جزءا من الماضي، ليس لأن الأدوات تغيرت فحسب، وإنما كذلك، لأن العالم تغير عما كان مطردا عليه خلال 200 عام من مراكمة لفكرة تقدم تسير باتجاه قابل لأفق التوقع المطرد. أما اليوم فإن أفق التوقع مع المدى القريب جدا لمستقبل حيواتنا الرقمية أصبح غير ممكن!