أعمدة

عن أحوال الموسيقى في مدينة صلالة (3 - 3 )

كلام فنون

 
على الرغم من صعوبة تحديد تاريخ معين لبدء استعمال آلة العود في صلالة بنوعيها: عود القمبوس، وعود الشبوط (المشرقي) كما يسميه البعض، إلا أنه من الواضح أن استعمالهما في الغناء المحلي أحدث تطورًا مهمًا في التلحين والأداء.

ومنذ سبعينيات القرن العشرين يمكننا متابعة بروز توجهين فنيين مهمين في غناء صلالة، الأول: توجه فني محافظ على القوالب الفنية، والضروب الإيقاعية المتوارثة، وأساليب أدائها مع إدخال بعض الآلات الموسيقية غير التقليدية، وآخر تجديدي يعيد بناءها أو اقتباس أخرى، والتلحين والأداء بأساليب الموسيقى العربية. من هنا نعتقد، إن العوادين تزعموا النزعات التطويرية في الصيغ الفنية والألحان وأساليب الأداء.

وفي الواقع كان ولا يزال التسميع أهم قوالب غناء العوادين الفني في صلالة، ومنطلقًا لتعدد الأغصان باللحن الواحد كما في أغنية الفنان سالم بن علي «صافي ودادك»، وهو بالمناسبة صاحب هذا التجديد في غناء ظفار، لم يسبقه إليه أحد حسب علمي. والتسميع؛ فن غنائي لا يصاحبه رقص، وبمعى آخر هو غناء نص شعري بصوت حسن على لحن جديد أو متوارث، أضاف إليه العوادون المصاحبة بآلة العود والضرب الإيقاعي أولاً ثم مختلف أنواع الآلات الموسيقية. ومعظم أغاني العوادين الرواد مثل: مسلم بن علي، وسالم بن علي، وسالم بن محاد، وأحمد غدير وغيرهم على هذا النمط الغنائي. ومن الأمثلة على ذلك ( لا الحصر): أغنية مسلم بن علي: «في الوسط خيّم» وأغنية «العسكري» لسالم بن محاد، ويقول في مطلعها:

كل ما جيت بازور الحبايب.. احصل العسكري واقف على الباب

ومن أساليب العوادين إلى جانب ابتكار الألحان الجديدة إعادة صياغة ألحان غيرهم، وأدائها بأسلوب التسميع رغم أنها قد تعود إلى أنماط موسيقية أخرى.

ولم تكن البرعة أو الطبل العربي أو الربوبة أو الشرح فنون شائعة في غناء العوادين المنحدرين من أصول ريفية أو بدوية، ولكنها شائعة في غناء زملائهم الحضر، وهؤلاء أكثر محافظة على هذه الأنماط الفنية وإجادة لها، وفي السنوات الأخيرة اقترب أسلوبهم جميعا في تنويع الآلات الموسيقية.

وكان الفنان مسلم بن علي بن عبدالكريم الغساني أكثر مطربي صلالة العوادين انتشارًا وتأثيرًا في ظفار، وكان الفنان سالم بن علي لا يخفي تأثره به وشقيه عازف العود عبدالكريم وبدايته كانت مع أغانيهما. ولكن هذا السياق التطوري انقطع تقريبًا عند الجيل الذي جاء بعد هؤلاء المؤسسين الرواد في ظل غياب برامج تدريبية لتطوير مهارات الموسيقيين في صلالة، وتراجع النشاط الفني وتحويله إلى مقاولات تجارية موسمية كان الطرف الموسيقي هو الخاسر فيه فنيًا وماديًا.

ومن الأمثلة البارعة التي اخترتها لتوضيح طريقة العوادين في إعادة صياغة ألحان زملائهم من الاتجاه المحافظ «صوت طبل عربي» مشهور في صلالة يعود إلى الفنان عوض القعيطي بعنوان: « مرحبا يا سيد السادة.. مرحبا يا سيد ساداتي ». تعامل الفنان سالم بن علي سعيد مع هذا الصوت بأسلوب إبداعي بحيث لا يمكن لغير العارفين باللحن الأصلي تمييز الإضافات الجديدة التي نفذها عليه. وفي الواقع أنا معجب جداً بخيال الفنان سالم بن علي الفني، وتجربته اللحنية.

وفي هذه المناسبة من الأهمية التوضيح بأن العوادين يسلكون في هذا المجال أكثر من طريقة فنية منها مثلاً: تلك التي اتبعها سالم بن علي مع لحن القعيطي وهي استبدال النص، وإضافة جمل لحنية غنائية وآلية جديدة إلى اللحن الأصلي، مما أدى إلى توسيع مساحته النغمية، وتسكينه في قالب فني جديد. ومن وجهة نظري فإن اللحن الأصلي الذي يتحول إلى مذهب عند سالم بن علي كان لحناً رائعاً، ومن أشهر ما لحن وغناء الفنان عوض القعيطي رحمة الله عليه. وفي هذه المناسبة من المهم ذكره، إن هذه التطورات الفنية صاحبها تطور في أسلوب كتابة النص الشعري. وهكذا، لن يجد المستمع للعملين الفنيين: «سيد السادة» و«يا هلا بالزهر لي ثامر» صعوبة في ملاحظة أمرين هامين في أداء عوض القعيطي صاحب اللحن الأصلي، والفنان سالم بن علي الذي أعاد صياغة اللحن. الأمر الأول، انتماء القعيطي المغني والشاعر والملحن إلى الأسلوب المحافظ في التلحين والأداء ولغة النص الشعري الغارقة في المحلية. وفي الأمر الثاني نجد أن الفنان سالم بن علي قد وسع من مساحة اللحن الصوتية وأضاف جمل غنائية جديدة، وتوزيع موسيقي غير معتادة، ونوّع في الآلات الموسيقية المستعملة، فيما تولى الشاعر علي الصومالي إعادة كتابة النص بأسلوبه الحميني الجميل الذي يستوعبه جميع الناس.