أفكار وآراء

السرد .. الإعلام .. والناس

تزامنت قراءتي لكتاب الدكتور إبراهيم المهنا بعنوان: «Oil Leaders: An Insider’s Account of Four Decades of Saudi Arabia and OPEC's Global Energy Policy» مع بحثي في مجموعة من الدراسات عن تأثير السرد في تقنيات تغيير السلوك والتدخلات السلوكية وهو المجال الذي أبحث فيه حاليًا. كتاب المهنا الذي حصد نقاشات موسعة في أوساط الأكاديميين والمتخصصين في الطاقة مؤخرًا أراه دلالة بارزة على الطريقة التي يدفعنا بها السرد إلى اجتراح حقول بدافع الفضول (غير حقول اختصاصنا أو اهتمامنا)، فكوني لست متابعًا ممحصًا في شؤون قطاع الطاقة ودهاليزه وتحولاته فإن قراءة مثل هذا الكتاب المتخصص يعتبر أمرًا فارقًا بالنسبة لي ولكنني حينما دققت في السبب وجدته كامنًا خلف «قوة السرد».

يتحدث المهنا في كتابه عن دهاليز قطاع النفط العالمي والمحكات والمحطات التاريخية في صنع القرار المتعلق بأسواق الطاقة عبر العقود التي عمل فيها مع وزارة الطاقة في المملكة العربية السعودية، ويتناول الشخصيات المؤثرة، وما كان يجري خلف الاجتماعات المغلقة، والصورة غير الظاهرة لثنائية الطاقة والسياسة عبر مواقف معلومة وغير معلومة، وبما أنني لست في صدد كتابة مراجعة حول الكتاب في هذه المساحة، فإن إشارتي إليه تأتي من باب التأكيد على الطريقة التي تقدم بها بعض الحقائق أو المعلومات تغدو محددًا أساسيًا لطريقة قبولنا لها أو طريقة انجذابنا إليها أو تفاعلنا معها أو دفعنا للقفز من حقل اهتمام معين لآخر، وكما أقول دائمًا فإن هذا العالم هو عبارة عن قصص تتجاذبنا وتؤثر في إدراكنا وتغير تصوراتنا وتتحكم في سردية تعاطينا مع الحياة، وبالنسق نفسه تلك السردية تتشكل سلوكاتنا وتصرفاتنا ونبني توقعاتنا.

إن المهنا في كتابه استطاع أن ينقلنا من ذلك القطاع الذي لطالما نتلقاه بمنطق الأرقام الجامدة والعقود واللغة المتخصصة والبيانات المتصلبة إلى رواية قصة تعتمد على ثلاثة عناصر أساسية أولها: تقريب صورة ذلك العالم/ القطاع إلى المتلقي سواء (المختص/ غير المختص)، وثانيها: رواية غير المروي عن دهاليز ذلك العالم وكيف يظهر لنا مجتزءًا عبر حقائق منتقاة ومعلومات مقاسة بعناية، وثالثها: أنه عبر تلك الأطروحة يستطيع تغيير تصوراتنا حول قيم كثيرة في القطاع الذي يتناوله كقيمة القوة والسلطة ورمزية السيطرة.

من المقالات التي تزامنت قراءتي لها مع قراءة الكتاب تلك التي كتبها قسطنين هويت بعنوان: «The Power of Narratives in Decision Making» والذي يشير فيها إلى الطريقة التي يؤثر بها السرد على عمليات الدماغ ويوجه اتخاذ القرار لدى الأفراد ويتحكم في السلوك.

يقول هويت: إن «القصص جزء أساسي من هويتنا. لا يفكر البشر من منظور القصص فحسب، بل إنها سيطر عليها ويدخلها وينقلها ويتأثر بها أيضًا». ويدلل في سياق ذلك بالكثير من التجارب التي حاولت استخدام قوة السرد لتغيير السلوك مثل الدراسة التي أجريت على 95 طبيبًا لقياس مدى تذكرهم لإرشادات استخدام بعض الأدوية حيث عرضت عليهم بطريقتين: الأولى طريقة سردية والأخرى عن طريق الإرشادات المباشرة (المعلومات) وكانت النتيجة أن الأطباء الذين تعرضوا لسرد حول إرشادات الأدوية أكثر عرضة لتذكر محتوى التوجيه في ساعة واحدة من أولئك الذين تعرضوا لملخص الإرشادات (المعلومات).

يمكن أن تكون قوة السرد أكثر فاعلية حينما يتصل الأمر بالإعلام أو بناء الثقة بالخطط الوطنية والسياسات العامة والرؤى الاستراتيجية، من تقديمها في صورة مؤشرات/ أرقام/ بيانات قد لا يعني المتلقي العام كثيرًا ما الذي سيلامسه منها، أو كيف ستؤثر على نسق عيشه، ولكن الاعتبار المهم هنا هو ألا يحيد السرد عن دقة المعلومات، فالعنصر الأساس في تأثير القصة هو الدقة والمصداقية. يسحبنا هذا الأمر إلى ضرورة النظر في الرسالة الاتصالية التي تصمم للإعلام والإخبار والإقناع والتأثير ببعض السياسات والاستراتيجيات العامة، حيث يمكنها في تقديرنا أن تكون أكثر تأثيرًا فيما لو ركزت على الآتي:

- ما يدفع الناس للشعور بحيزهم المكاني والزماني الراهن أكثر من الحيز العام الجامع.

- ما يدفع الناس إلى تخيل المستقبل كنمط حياة وممارسات (إنسان المستقبل) أكثر من التوقعات في هيئة بيانات وأرقام ومؤشرات.

- ما يدفع الناس إلى استدراك مستقبلهم القصير - المتوسط أكثر مما يدفعهم للتعلق بالمستقبل البعيد.

- ما يدفع الناس إلى تخيل مستقبلهم كعلاقات وأنماط تواصل وتنظيمات مجتمعية أكثر مما يدفعهم لتخيل المستقبل في صورة هياكل ومؤسسات وأنظمة وتشريعات.

- ما يدفع الناس لتخيل مستقبلهم الذين يشاركون في بنائه وتكون لمستهم حاضرة في تطويره أكثر من مما يدفعهم لتخيل المستقبل الذي يُمنح/ يُفرض/ يتصور لهم أو عليهم.

تلك هي أسس عامة نعتقدُ بتأثيرها في تصميم أي رسالة تواصلية توجهُ إلى الأفراد وتستدمج منظور السرد/ القصص. كما أن الناس قد يلامسهم سرد ما وراء السياسة/ الاستراتيجية وقد يؤثر فيها في لحظة ما أكثر من حقائقها المتضمنة فيها. كأن تحكى قصة الوصول إلى ذلك المنتج أو دهاليز العمل عليه أو الكشف عن خبايا النقاشات والعمل الموسع الذي جرى لتأطيره.

إن هناك فرصًا موسعة يتيحها السرد لبناء الثقة العامة سواء كانت تلك الثقة مرتبطة بالمؤسسات أو مرتبطة بالعمل الاستراتيجي أو مرتبطة بمجمل الاتجاهات العامة شريطة أن يكون ذلك السرد مستندًا إلى الدقة. تقول ميلاني جرين التي تبحث في التواصل بالسرد في جامعة بوفالو: إن المعلومات القوية بأي شكل من الأشكال جيدة. لكن هذا ليس كافيا بالضرورة. يمكن للقصة العاطفية المفعمة بالحيوية أن تعطي دفعة إضافية لجعلها تبدو أكثر واقعية أو أكثر أهمية. إذا نظرت إلى الأوقات التي تغيرت فيها معتقدات شخص ما، فعادةً ما يكون ذلك بسبب قصة «تضربه في القلب».