أعمدة

المكتبة والصدفة

 
عندما أصادف أي مكتبة في طريقي، أدخلها دون تردد، في إسطنبول بدأتُ أميز المكتبات التي لا تبيع إلا الكتب باللغة التركية، ومع ذلك ثمة سحر في معرفة العناوين وأسماء الأدباء بلغة أخرى. وفي آخر رحلاتي، كنتُ أصاب بالإحباط عندما أدخل إلى مكتبة في ألمانيا لأسأل عن كاتب يكتب بالألمانية، ليعتذر لي بائع الكتب بأن الكتب غير متوفرة. المكتبات كلها تشبه بعضها هنا أو في أمستردام أو في زيوريخ أو في برلين. هنالك رف للكتب الأكثر مبيعا وهي نفسها الكتب التي ستجدها في مكتبة في الكويت، الرياض، ومسقط.

هنالك جدل يصيبني بخيبة الأمل دوما، عن جدوى وجود مكتبات حية في الواقع، في الوقت الذي يمكنك فيه أن تطلب كتابا من على موقع إلكتروني لتحصل عليه في اليوم التالي، أو أن تقرأ الكتاب عبر تطبيقات إلكترونية مدفوعة على أمازون أو أبجد أو على 'جوجل بوكس' وغيرها، وعندما تؤمن بأهمية حضور المكتبة في الواقع، لا تكون أكثر من رومانسي، أو شخص مصاب بالنستالوجيا. مع أنك تملك أسباباً كثيرة لإيمانك هذا، كفكرة أن الكتاب الذي يمكن له أن يغير حياتك ستتعثر به مصادفة في المكتبة، لم تكن تعرف عنه أي شيء قبل تلك اللحظة، ومع ذلك ها هو ذا بين يديك تستعد أنت لتتغير بفضله.

اكتشاف الكتب الجديدة إذن، تصفح الكتب وقراءتها قبل شرائها، سيقول أحدكم إن هذه التطبيقات باتت تمنح عينة مجانية من الكتاب قبل شرائه، لكن ماذا لو أردت أن أقرأ صفحة عشوائية في المنتصف؟ أو بدأت بقراءة الكتاب من الخلف؟ إن إحدى ميزات المكتبة، هذا الكون الكبير، هي الغموض والسحر، عدم التوقع المستمر على عكس قواعد العالم الواقعي الذي نعيش فيه، الذي يزدري الحسية، المكتبة عالم مؤلف من الأحاسيس والفوضى الجارفة، ومتى ما كانت غير ذلك وامتثلت لقواعد اليوم لم تكن أكثر من متجر عادي مثل كل المتاجر الأخرى.

يكتب ماكس نورمان عن الكتاب الجديد لماريوس كوجيجوسكي 'عامل في تجارة الكتب' وهو عبارة عن مذكرات كوجيجوسكي نفسه الذي عمل لفترة طويلة كبائع للكتب. يشك هذا الأخير في أن المكتبات ستختفي من الواقع، خصوصاً مكتبات الكتب المستعملة، لكنه أيضاً يشاهد كيف تحل المكتبات الفاخرة والمجهزة جيدا محل المكتبات الصغيرة، يقول 'أريد الفوضى، أريد قبل كل شيء الغموض'. أفضل ما في المكتبة هو رفوفها الخلفية إننا نفقد يوماً بعد الآخر ومع كل مكتبة تغلق أبوابها لصالح متجر للكتب، القوة التي يمكن لها أن تغير الحياة في العالم و' المزيد من الصدفة التي تغذي الروح البشرية'.

هنالك مكتبي آخر هو جيف دويتش رئيس مكتبة اللاهوت في شيكاغو عبر كتابه الجديد أيضاً 'في مديح المكتبات الجيدة' ويقول في مقدمته أن هذا الكتاب ليس تأبيناً فلا يمكننا السماح بذلك. يقول نورمان عن هذا الكتاب أنه يطلعنا ببساطة عن مجازفتنا الكبيرة إذا ما تخلينا عن الخيال لنسمح للسوق بأن يتحكم في وجود مكتبة أو إغلاقها. بدأت المكتبات بالتخلي عن بيع الكتب وحدها والاعتماد على منتجات جانبية مثل القهوة أو الأدوات المكتبية لأن هامش الربح من بيع الكتب قليل جداً، يعبر دويتش عن رعبه بصورة خاصة من بيع المكتبات للجوارب، وهو ما أضحكني بصورة خاصة عند قراءة ما كتبه نورمان عن الكتاب. إن هذا بالضبط هو النموذج التجاري لأمازون عند تأسيسها 'استخدام الكتب لجذب العملاء إلى منتجات أكثر ربحية'.

بالنسبة لدويتش فإن المكتبة الجيدة تتعلق بإنشاء مساحة يمكن للزائر فيها أن يغرق في التصفح البطيء، وهي حالة يصفها بأنها واقعة بين قطبي التركيز والإلهاء الذي تشعر به وأنت في شوق لالتقاط الكتاب التالي من الرف والانتقال لكتاب آخر بعده، لطالما كانت المكتبة الجيدة مانحاً لتجربة يدخل فيها الشخص فضاءً وهو يمتلك الوقت والفضول. المكتبة الجيدة هي ما أسماه غاستون باشلار 'مساحة سعيدة' حدودها الحقيقية وشخصياتها أكثر بكثير من أبعادها المادية المحسوسة.

بحسب نورمان تشبه مكتبة دويتش المثالية حديقة انجليزية تمت زراعتها بعناية لتبدو طبيعية ومنحرفة بعض الشيء، يشير دويتش إلى أن ' Browsing' أي التصفح هو مصطلح زراعي في الأساس. يتغنى دويتش بالبطء والفضول عندما يقول 'يا له من نشاط لا مثيل له أن تتصفح الكتب في المكتبة في حالة من الفضول والتقبل هذه ليست عملية تصفح للوجبات السريعة رخيصة الثمن'.

في مسقط أشعر بهذا على نحو خاص في متجر زكي الحجري '234 الذي يقول إنه اختار تسمية مكتبته بالمتجر لأن اسم المكتبة في السوق العماني قد ضاعت هويته بين من يبيعون القرطاسيات، إذا دخلت هذه المكتبة لأيام متواصلة، فهي قادرة على الرغم من ذلك على أن تفاجئك، لا يهتم زكي كثيراً ما إذا كان الكتاب سيباع الآن، هو متأكد من أن الكتاب سيباع في وقت ما، المهم أن لا تخسره المكتبة، أحياناً ومن فرط يأسي أرمي بعنوان كتاب في محادثة، لا أملك أدنى أمل بأن يكون موجوداً في السوق أصلاً. لأفاجأ بزكي يقول الكتاب موجود ها هو ذا. الفوضى في مكانها، الرفوف الخلفية الغنية، التفتيش بحرص وبطء والتصفح كما لو كنا بالفعل داخل حديقة.