أعمدة

الشيخة ميّ، وآخرون، وحسن الخاتمة السياسة

 
'في الحياة إضاءات لا تتكرر، ومواقف لا تقبل اللون الرمادي، تلك التي ندفع ثمنها بسعادة لا نظير لها. واليد التي لا تصافح في المواقف التي تستوجب الامتناع هي التي علينا أن نقبّلها'. هكذا اختصرت الشاعرة سعاد الصباح الخاتمة السياسية الحسنة لصديقتها الشيخة ميّ بنت محمد آل خليفة، التي كانت حديث وسائل التواصل الاجتماعي هذا الأسبوع، بعد إقالتها من منصبها كرئيسة لهيئة الثقافة والآثار في البحرين، لرفضها مصافحة السفير الإسرائيلي في بلادها.

حدث الموقف في السادس عشر من يونيو الماضي، عندما حضرت الشيخة مي جنازة والد السفير الأمريكي ستيفن بوندي، والتقت هناك بالصدفة السفير الإسرائيلي في المنامة إيتان نائيه، الذي لم تكتفِ برفض مصافحته عندما مدّ يده إليها، بل غادرت مراسم الجنازة بسرعة، وطلبت من السفارة الأمريكية عدم نشر أي صور لها في الجنازة.

يعيدنا موقف الشيخة ميّ خمسًا وأربعين سنة إلى الوراء، وتحديدًا إلى السابع عشر من نوفمبر عام 1977 عندما قدم إسماعيل فهمي، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية المصري آنئذ، استقالتَه من منصبه، قبل يومين فقط من زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس حيث ألقى هناك خطابه الشهير في الكنيست الإسرائيلي في 19 نوفمبر 1977م. وفيما بعد عزا فهمي في كتابه 'التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط' سبب استقالته إلى أن 'زيارة السادات للقدس ستضر بالأمن القومي المصري، وستضر بعلاقة مصر مع الدول العربية الأخرى، وستدمر قيادتها للعالم العربي'، وهو ما حدث بالفعل للأسف الشديد.

في اليوم نفسه الذي استقال فيه فهمي حاول السادات تدارك الأمر بتعيين خليفة له بسرعة قبل سفره إلى القدس، فعرض المنصب على محمد محمود رياض، وزير الدولة للشؤون الخارجية، الذي كان قريبًا من طاولة المفاوضات مع إسرائيل، لكن رياض رفض المنصب أيضًا وقدم استقالته. وقد قبل السادات استقالة كل من فهمي ورياض في قرار واحد وقّعه في اليوم ذاته (17 نوفمبر 1977م).

سافر السادات إذن إلى الكنيست دون وزير خارجية، وبعد شهر من عودته من إسرائيل عين في هذا المنصب السفير محمد إبراهيم كامل في أواخر ديسمبر من العام ذاته، وهو المنصب الذي لن يستمر فيه كامل أكثر من عشرة أشهر، فقد استقال هو الآخر في 16 سبتمبر 1978م، أي قبل يوم واحد فقط من توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، بعد أن أدرك كامل أن هذه الاتفاقية 'ستكون كارثة على مصر وعلى الشعب الفلسطيني وعلى الأمة العربية جميعًا' كما كتب في كتابه 'السلام الضائع في اتفاقية كامب ديفيد'.

بعد خمسة عشر عامًا من استقالة محمد إبراهيم كامل استقال حيدر عبدالشافي رئيس الوفد الفلسطيني لمفاوضات السلام مع إسرائيل في واشنطن من منصبه في أبريل من عام 1993م، بعد نحو اثنين وعشرين شهرًا قضاها في رئاسة هذه المفاوضات، وقبل فترة وجيزة من توقيع اتفاقية أوسلو، وكان سبب استقالته جنوح القيادة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات إلى التراخي في بعض الشروط المهمة للسلام مع إسرائيل، وأهمها إزالة المستوطنات في الأراضي المحتلة وإيقاف الاستيطان الإسرائيلي مستقبلا.

حفظ التاريخ لحيدر عبدالشافي هذا الموقف المشرّف، كما حفظه من قبل للوزراء المصريين الثلاثة، وسيحفظه بالتأكيد للشيخة ميّ، ذلك أن هؤلاء وإن كانوا عملوا لسنوات مع حكومات بلدانهم التي تقيم علاقات مع إسرائيل، إلا أنهم استطاعوا في اللحظة المناسبة اختيار نهاية مشرّفة لعملهم، النهاية التي أسميتُها في مستهّل هذا المقال 'حُسن الخاتمة السياسية'، وذلك بالانحياز لشعوبهم، والانتصار لصوت الضمير والعدالة والحقّ الإنساني، دافعين برضا تام ضريبة هذا الموقف المشرف.