عمان الثقافي

أمّي تمحو المدينة وكالفينو يعيد اختراعها !

 
قد لا يُلقي أحدنا السلام على الآخر ونشيح بأبصارنا متجاوزين بعضنا البعض، صوب مدن تتوق لاحتفائنا بها، كأن مجرد المضي إليها والحكي عنها يمنحها أبدية مرتجاة، ففي المدن البعيدة عن ديارنا نغدو غرباء، يعبر ذهننا عشرات التصورات عن الآخر الذي يمضي جوارنا غريبا هو الآخر، لكن المدن الآسرة التي نذهب إليها محملين بشغفنا تخلق سياقا جديدا لتجاورنا.

المدن كائنات حيّة ومراوغة، قد تُفصح لك منذ اللقاءات الأولى عن مودة عارمة أو لؤم، قد تحتويك أو تفزعك، تُبقيك غريبا مجهولا أو تُشعرك بالألفة، ولذا ينبغي عليك أن تروضها على مهل كما قد تفعل مع حصان بري جامح، وعليك أن تنظر إليها من مسافة آمنة، «فنحن لا نستطيع تأمل ما تعودنا رؤيته بداخلنا» أو جوارنا، وهنا تتجلى تضادات المسافة التي نتخذها في علاقتنا بالأشياء.

وقبل هذا، عليك أن تتحلى بقليل من الحذر والشك إزاء ما يُحكى لك عن المدن، فالمدن علاقة شديدة الخصوصية، إذ لا يمكن لتجارب الآخرين أن تختزل تجربتك أو تلغيها.

علينا أن نكون جسورين ونحن نمضي إليها مُفتشين بين جنباتها الأكثر تعقيدا وعمقا، فليست كل مدينة كالأخرى، فلكل مدينة حكايتها وأحزانها، ثرثرتها وصمتها، مقدسها وعبثيتها، رقصها وغناؤها، وعليك أن تصغي إليها جيدًا.. وأكاد - بشيء من المبالغة - أخمن أن المدن تولع بأولئك الفضوليين المعبأين بالأسئلة.

من يدري.. ربما بقليل من التريث سنتأكد أنّ انطباعاتنا الأكثر دقة تختمر ببطء، إذ تراهن المدن على الزمن وعلى تبدل إيقاعنا الشخصي، بينما ننصهر فيها بكلنا.

الغامض والمبهم في المدن الخفية!

«تسير لأيام بين شجر وحجر ونادرا ما تلتمع العين لشيء، فإن حدث ذلك تكون قد أدركت ذلك الشيء كعلامة لشيء آخر»، هذا ما تفعله المدن التي تفرش علاماتها على منضدة الوقت، كما قد تفعل بائعات الحظ والمنجمات. ينبغي أن يكون يوم تعرفك على المدن الجديدة هو يوم سُعدك لتبتهج لك المدينة، وإلا سترافقك الأحزان والبؤس القاتم.

أكتب الآن عن المدن وأنا في مدينة «طربزون»، تُرافقني رواية الكاتب والروائي الإيطالي إيتالو كالفينو «مدن لا مرئيّة» الصادرة عن دار المدى، 2012، ترجمة ياسين طه الحافظ، فأجد نفسي أمام محاورة مفترضة بين رجل البندقية كثير الأسفار ماركو بولو، وبين إمبراطور المغول قبلاي خان، فهذا الأخير متعطش ليعرف أكثر عن المدن، «مدن ظاهرها رموز، مدن خفيّة لا تُرى، والغريب فيها أنّها تفتقر إلى الصلابة، إلى المادّة في تكوينها. هي مدن أشكال وأصوات وحركات، مدن تشعر بوجودها ولا تراها... مدن تعجّ بهمس المقابر والوشوشة!»

وبخيال خصب مراوغ يُغذي ماركو بولو هذه المدن غير المرئية، عبر كتابة تغرف من الأسطورة والفلسفة، فتتيح لنا هذه الكتابة أن نحرض حواسنا لنشم ونتذوق ونلمس ونصغي لكل التفاصيل التي تملأ المدن، كأننا عبرنا إليها يوميا.

يشغل كالفينو بالنا بالغامض والمبهم في تلافيف هذه المدن المخترعة، معولا على الخيط الرقيق والشفاف والذي يمكن لأحدنا أن يلتقطه، وهو الجامع لتراث البشرية المشترك، حيث تمتزج تفاصيل الشرق بالغرب. يصور لنا كالفينو المدن بحالة متضادة فنراها مرّة شبحية ومرّة أخرى يضخ الضوء بين جنباتها.

كلمات تزحزح اليقين الراسخ

لم أولد في مدينة. ولدتُ في قرية صغيرة ونائية، ولم تراودني المدينة كحلم، فجذوري القروية كانت أعمق من أن تنبت لأول نداء. كنتُ ابنة التمرغ الطفولي في الطين والقلاع الحصينة التي صنعتها بيدي كما صنعتُ أول الدمى من أغصان شجر الأمبا، وألبستها من بقايا أقمشة الخياط المجاور لبيتنا. كانت القرية كافية وحدودها آمنة، ولكن عندما كتبتُ في دفتر مذكراتي أنني سأصير كاتبة، قيل لي بأن الكتاب لا يمكن أن يعيشوا في القرية، ولا أدري إن كان ذلك على سبيل الدعابة أم الجد، لكن تلك الكلمات زحزحت اليقين الراسخ حول أهمية بقائنا في البقعة التي ننشأ فيها، فلقد علقتُ -لفترة طويلة- بوهم طفولي أنني لن أتجاوز حدود قريتي التي علّمتها بأعشاش طيور الدوري ومزارع القت والمسيبلو، ظنا مني أنها علامات تخص قريتي وحسب!

«عندما تستمر رحلتك إلى مدينة أخرى، تتعثر بماض آخر، أو ربما كان يمكن أن يكون مستقبلا»، تستوقفني كثيرًا هذه الجملة، وكأنَّ انتقالنا من مدينة لأخرى هو انتقال في الزمن أيضا. مدن تذهب بك صوب المستقبل الأكثر حداثة وتقنية، ومدن تعيدك إلى الوراء وهي تحتفي بالتاريخ وإنسانها القديم.

قرص عسل الذكريات!

بعض المدن هي فكرة مغلقة تنمو في الخيال، هنالك مدن تبدو في بطاقاتها البريدية غير ما هي عليه واقعيا، ولذا ستزيحها من أجندتك بمجرد أن تخذلك أول مرة.

المدينة الأولى التي ذهبتُ إليها بشغف العالم كله كانت مسقط، أتذكر الآن بدقة تشبثي بنوافذ السيارة، أتذكر أيضا المرور المروع فوق الجسور الأولى في حياتي، والذي سبب لي خفقانا مبهجا آنذاك، المباني البيضاء، محلات التسوق المختلفة عن تلك التي في قريتي. لقد علّمتُ مسقط أيضا وأخبرت أخوتي بالعلامة: «التشجير.. عندما يبزغ التشجير على جانبي الطريق، فتلك علامة كافية على دخولنا المدينة».

المدينة الثانية كانت دبي حيث الدهشة أشد اتساعا، فلم تقدر عيناي الملتصقتان بالنافذة - كعادتي في حجز هذا المكان الاستثنائي - الوصول إلى قممها الشاهقة.

الدهشة الثالثة كانت مدينة حلب وأنا ابنة الثامنة عشرة، حيث تجلى مسرح التجارب الأولى لكل الخبرات التي ستأتي لاحقًا. لقد اختبرتُ مشاهدة السينما، التفرج على المسرح، الأمسيات الثقافية، التعددية الثقافية، البشرَ المختلفين في طريقة لباسهم وتفكيرهم وأطعمتهم، الشوارع المرصوفة، والمكتبات العامة أو مكتبات الأرصفة التي تناديك.

في حلب عندما أغلق علينا باب الشقة توقعتُ أن القفز من النافذة سيعني النزول إلى الحوش الذي يخصنا، فقد كان العقل يعمل ضمن أوهام القرية آنذاك لا ضمن تصورات المدينة. لكن ما أن تعالت الأصوات بكلمة «حرامي» حتى اكتشفتُ أن هندسة المدن والمباني المتطاولة يحكمها تنظيم مختلف عن قريتي بصورة دفعتني للارتياب بادئ الأمر. كان الحرج والدهشة يثقبان قلبي جرّاء تلك القفزة المغامرة غير محسوبة النتائج!

ولا يقل مغامرة عنها أن تركب وسيلة مواصلات عامّة، وأنت الذي لم تركب يومًا أكثر من سيارات أبيك وعمك وأقرباء محدودين، ولذا عندما تكتشف أن المواصلات لا تقف حيث توقعت أنها ستقف، ستغامر أيضا بقفزة مماثلة لقفزة الشقة، وسيخفق قلبك لأيام إضافية، ريثما تتسلل المدينة بسياقاتها المتداخلة إلى نسيج روحك القروية.

ولعلنا نتساءل: هل تكرر المدينة علاماتها؟ خصوصا فيما لو عرفنا أنها تقدم وجها للذي يصلها برا يختلف عن الوجه الذي تقدمه للذي يصلها بحرا! الأمر الذي يجعلنا نتأكد أن سر المدن يكمن في الطريقة التي ننظر إليها، «فالمدينة التي لا تفارق الذهن، هي مثل قرص العسل، يقدر أيٌّ منا أن يضع في خلاياه الأشياء التي يريد تذكرها».

تمتص المدينة الذكريات لتكبر، فقد لا تكشف المدن عن ماضيها، كما يقول ماركو بولو: «فهي تحمله كخرائط الكف، تجده مكتوبا في زوايا الشوارع، في أسلاك النوافذ، في درابزينات السلالم والهوائيات ذات القضبان المشعة، في صواري الأعلام، تقابل ذلك علامات وأخيلة محفورة على نقوش الأدراج».

ستتحول إلى رمز بين الرموز

ثمّ تتالت المدن، لأتأكد في كل مرّة أن العالم أكثر اتساعا من حقل جدي. بيروت المتشحة بالجمال والسهر، حيث تستيقظ ليلا ليس كمدينة متشحة بالحزن وإنما كمدينة مولعة بضجيج الدنيا، ومدينة القاهرة التي سترتبط بذهني كأكثر الأماكن اكتظاظا في حياتي، والتي لم تكن لتخلو من الألفة المحببة، ثم ستتوالد المدن: مدريد وباريس ولندن ومدن شرق آسيا التي تدخر مفاتيحها كأرض سحرية ريثما تلج إليها بقدميك.

ستمضي إلى المدن عابرًا فوق ضجيجها وتعرجاتها وطرقها المرصوفة، وأنت الذي لطالما مشيت فوق تراب أرضك قاطفا حصاد يديك، لطالما عدت متسخا من لهو الحقول لحظة الغروب، ومهما تعرضت للتعنيف من والديك، ستعاود الكرة، ستتمرغ في الطين مرات ومرات ثم ستصنع منه قلاعك الحصينة.

لقد كان قبلاي خان متفائلا لأنّه في اليوم الذي سيعرف فيه كل الرموز، اعتقد أنه سيكون قادرًا على امتلاك المدن والإمبراطورية، لكن رجل البندقية ماركو بولو أراه وجها آخر لهذه الحقيقة قائلًا: «مولاي لا تعتقد بهذا. ففي ذلك اليوم ستحول أنت رمزًا بين الرموز».

صوت العجلات وعواء الذئب!

«لو حصل وعجزتُ يومًا عن اتخاذ قرار بشأن ما تبقى من عمري، فإنني أطلبُ أمرًا واحدًا، ألا تأخذيني معكِ إلى المدينة»، هكذا قالت لي أمّي، ولم يكن الأمر على سبيل المداعبة، فالمدينة تُشكل رهابًا للأرواح المنغمسة في قرويتها. ليس أمّي وحسب، بل كل أولئك الذين تدحرجت سنوات عمرهم دون أن تراودهم الرغبة في المضي أبعد من أمكنتهم المألوفة.

عندما رويتُ الأمر أمام شاعر قال لي: « يبدو لي أنّ ما قالته أمّك أشبه بهجاء صريح للمدينة».

لقد أدرك الشاعر مقاصد أمّي بدقة. أمّي التي تعد الساعات لتعود لبيتها في القرية إثر زياراتها القصيرة إليّ، فأطول مدة قضتها بصحبتي في المدينة، كانت عقب إعصار شاهين الذي دمر المزرعة ودخل البيت الريفي، وانقطعت جراءه الكهرباء لأيام متوالية.

المدينة الوحيدة التي زرتها بصحبة أمّي كانت مدينة «كيرلا» في الهند لدواعي علاجية، لكن أمّي لم تكن تريد المدينة، كانت شاردة الذهن تفكر في دجاجاتها وعجولها الصغيرة، تفكر في الأيدي التي تأمل أن لا تنسى سقي حقلها الشاسع.

تقول أمّي إنّ بقاءها في الريف مهما بلغ بها الضعف والعجز، سيؤمن لها أن تشعر بدخول وخروج جاراتها والناس. تختصر أمّي القرية بكونها الأبواب المفتوحة على الدوام وهي نقيض أبواب المدينة المغلقة والمسورة بكاميرات المراقبة.

في المدينة تلتقي بجارك ولست معنيا بتلويحة صغيرة تطلقها في الهواء، بينما في الريف الذي ربيتُ فيه وكبرت، الجيران يدخلون ويخرجون من بيوتنا كجزء من العائلة.

في سهل الباطنة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كان الآباء غائبين في مدن بعيدة عنا، في البحرين والكويت ودبي وأبو ظبي، لدواعي تتعلق بالدراسة أو العمل، وكانت أغلب البيوت يسكنها نساء وأطفال ورجال كبار في السن، وأكاد أجزم أنه من هنا تولدت أجواء من المؤازرة الحميمة بين العائلات، وتلك الروح الوثابة لإسداء العون لمن يعوزه ذلك.

تتصل بي أمّي بصورة مستمرة وتقلق بصورة مبالغ فيها عندما يتأخر ردنا عليها وتقول جملتها التي حفظناها عن ظهر قلب: «إننا قد نموت في المدينة دون أن يفتح أحدهم الباب علينا» ! وهذا أكثر ما يجعل أمّي تستهجن المدن، فلا أحد يعبأ بالآخر أو يتفقد غيابه ! إلا من اصطحب روح القرية معه إلى المدينة.

يتساءل كتاب «مدن غير مرئية» حول مسوغ وجود المدينة؟ كما يذهلنا بسؤاله حول الخط الذي يفصل الداخل عن الخارج؟ فهل يعقل أنّ ما يفصل المدن عن القرى، هو كالذي يفصل بين صوت العجلات عن عواء الذئب!

فلك أوهام العقل

لم يكن من السهل عليَّ أنا أيضا قطع الحبل السري الذي يربطني بقريتي، لكن الأقدار والمجازفات تسللت بي صوب المدينة. يصدمني منطق قبلاي خان وهو يقول: «المدينة ليست غير فلك تدور فيه أوهام العقل»، فهل هي وهم مُخترع حقا؟!

المدينة التي لم أكن أظن بأنّها ستسكنني يوما غدت جزءا مني. فعلى نقيض أمّي - صرتُ مع الوقت والدربة - أجد في الأمكنة التي لا يعرفني فيها أحد، لا يفتح الناس بابي وقتما يشاؤون، أكثر سكينة وأمانا.

القرية لها وجهان من الجمال والقبح؛ لأن الصوت الجماعي أكثر علوًا، والمدينة لها وجهان من الجمال والقبح أيضا، لكنها تنتصر غالبا لفرديتك، ففي المدن التي تكون فيها غريبا، لا تغدو أنت فيها جزءًا من نميمة يومية، لا تتعرض إلا لبشر محدودين تختارهم بعناية ليدخلوا نسيج حياتك.

تركتُ قريتي مثل خضاب مرقش، لكن صدى القرية يرتد في داخلي كلما راقبتُ طائر الدوري العائد مساء في نشيد جنائزي، كلما راقبتُ الغربان وهي تقف على أسلاك الكهرباء دون أن تتكهرب، ترتد قريتي كلما ذهبنا إلى البحر الذي يحاذي قريتنا، ولكننا يوما لم نأخذ حصيرا لنجلس جواره، كما نفعل الآن في المدينة، ربما لأن أسلافنا يعتدون بأصولهم الجبلية أو الفلاحية أكثر من اعتدادهم بمجاورة البحر وتلك قصة أخرى ينبغي أن تروى يوما ما..

تقرأ في كتاب «مدن لا مرئية» هذه الجملة، فتشعر بتحول المدن إلى كائنات حية، تنمو وتكبر، تهرم وتموت وكأنها انعكاس أكيد لسماتنا البشرية: «تولد المدن وتموت دون أن تعرف الواحدة الأخرى، وقد يحمل سكان هذه المدن الاسم نفسه واللهجة ذاتها وملامح الوجوه».

نخترعها فيتحقق وجودها

يستفز الإمبراطور قبلاي خان ماركو بولو ليُظهر لنا جوهره ثمّ يلومه قائلا: «لقد عبرت أرخبيلات وسهوبا وسلاسل جبال وتقول الأشياء التي يقولها من لم يبرح مكاننا هذا؟» حدث ذلك بعد أن لاحظ قبلاي خان أنّ مدن ماركوبولو تشبه الواحدة الأخرى، كأن الطريق لا يتضمن رحلة، مجرد تغير عناصر لا أكثر من ذلك ولا أقل. ثم بدأ عقل قبلاي تفكيك المدينة، أعاد تركيبها بطرق أخرى مبدلا أجزاءها. وبعد تفكير طويل قرر تبادل اللعبة قائلا: «أنا أصف المدن وأنت تقول لي إن كانت المدينة التي أصفها موجودة»، فهل يمكن لخيالنا أن يخترع المدن، فيتحقق وجودها؟ هل تستجيب المدن لأخيلتنا فتولد لمجرد أننا نفكر فيها؟ هل المدن من عمل العقل أو من اختراع الصدف؟ هل يغدو هذا كافيا لإقامة جدرانها، وتحريك الناس في شوارعها؟

«الأمر مع المدن كما هو مع الأحلام، مكونة من رغبات ومخاوف، فمهما كان خيط خطابها سريا، وقواعدها غامضة، مشاهدها خداعة، فكل شيء يخفي شيئا آخر».

أمكنة ترتعبُ منها الماعز!

إيتالو كالفينو الذي يطلق عليه الساحر يسحر المدينة، يربكنا إزاء ما قد نعيه عنها، وأطلس الخان العظيم يحوي خرائط مدن موعودة من مثل: أطلنطيس الجديدة، المدينة الفاضلة، مدينة الشمس، الأوقيانوسية.. إلخ.

«المدينة تكرر حياتها بنفسها، تصعد وتنزل على لوحة شطرنج فارغة تتنقل عليها. سكانها يعيدون المشاهد نفسها. الممثلون يعيدون الأحاديث ذاتها بلهجات مختلطة وهم يفتحون أفواها متعاقبة في تثاؤب أزلي».

لكن لا يمكننا بأيّ حال من الأحوال، اختزال المدينة في الشوارع المرصوفة وأسطح القرميد، فالمدينة ليست المباني والشرفات والأقواس الأفاريز والطعام والروائح والمقابر ورفوف المجلدات القديمة، لا يمكننا اختزال المدينة في الكلمات والأجساد التي تعبرها، ولا في النظرات التي تضمر أكثر مما تبدي، فالمدينة ليست الأبنية المتساندة المتعالية، ليست المقاهي باذخة الأناقة التي تتعدد أشربتها، وليست أيضا المطاعم التي تطير روائحها إليك وأنت تمضي وسط الزحام، ليست الأنهار العذبة الباردة التي تمضي جوارك -غير عابئة بك- لتحرض تأملاتك، «المدينة تتكون من العلاقات بين مسافات فراغها وأحداث ماضيها، المدينة تظهر لك كلا وأنت جزءا منها». وكم كان ظريفا التعليق الذي قاله الراعي عن المدينة مجيبا ماركو بولو عن سؤاله: «المدن أمكنة ترتعب منها الماعز، وتتشتت في منعطفات شوارعها، فنتراكض، كلبي وأنا، لنلمها» هكذا يصبح لكل واحد منا تعريفه الخاص للمدينة التي يرى قبحها وجمالها في آن، منطلقا من موقعه الخاص منها.