أعمدة

حتى لو لم أكسب المال

 
هل تعرف صديقي القارئ تلك الحالة التي وما إن تنتبه فيها لشيء، حتى تغرق في سيل من الإعلانات والشركات التي تقدم لك الخدمة نفسها. لا أتحدث هنا عن الخوارزميات، وعن بحثك عنه على الانترنت أو حديثك عنه (بما أن الهواتف تسمع هي الأخرى) بل مجرد الانتباه. حصل ذلك معنا كثيراً، آخر مرة حدث فيها معي ذلك عندما فكرتُ بالتخلص من الحشرات في المنزل، فإذا بي أنتبه للافتات شركات مكافحة الحشرات في كل حين. عموما ليس هذا هو الموضوع الذي أرغب في الكتابة عنه اليوم، كعادتي أحب الالتفاف والإلهاء، كسلوك أؤمن به جذرياً في مكونات حياتنا الحديثة، والإشارة لتعقيدها. كنتُ أفكر وأنا على مشارف الثلاثين، بأنني لم أجمع مالاً كافياً حتى هذه اللحظة، ربما لو كنتُ سلكت خيارات أخرى في الحياة لكسبتُ أكثر. نتحدث أنا ورفاقي دوماً عن 'العملية' و'النفعية' بدلاً من التزمت واختيار مواقف بعينها لا نجني منها سوى الخسارة. ربما سنصبح مفضلين عند المسؤول فلان، فتصبح فرصنا أكبر، وبالتالي نستطيع أن نصل للموارد المالية بسهولة أكبر. ما العيب في 'البراغماتية'؟

ثم بدأ هذا السؤال ينهال عليّ من كل حدب وصوب، في العمل واجهتُ زميلاً لي، اتخذ موقفاً غريباً من بقية زملائه، قلت له لماذا وافقت على هذا أصلاً؟ قال لأنني ظننت بأن هذا سيجعلهم راضين عني في الوقت الذي شعرتُ فيه بأنني منبوذ ومستهدف. لكنني بالفعل خسرتُ الجميع. أما صديقي القادم من دولة أخرى لقضاء إجازة في عُمان التي يحبها، فكان لا يكفُ عن الحديث عن مبدأ يؤمن به، وهو 'تنازل وخذ، وقم بالتغيير من الداخل.' أرمقه بنظرة متشككة إذ لا أعرفُ صدقاً ما هو الصواب؟ وهل يمكن لأي مقياس أن يكون هو الأخلاقي في أي حالة؟ لا تسعفني قراءتي للفلسفة لتحديد أي موقف. أي فلسفة أصلاً، والناس أولت أهم من كتب في 'الأخلاق' نيتشة تأويلات متناقضة جداً، اليساريون يحبون نيتشة، واليمينيون يحبون نيتشة أيضاً. وكل طرف منهما يهجي فهم الآخر وتفسيراته. ثم إنني في زمن الحداثة السائلة، زمن ميوعة الأشياء، وما أنا وقيمي إلا سيالة أيضاً بالقدر نفسه. الحسم والراديكالية باتت بعيدة بالنسبة لجيل كامل، مهموم ومضطرب أمام جدالات ما زالت حية وفي بدايتها.

أبي يقول أن 'البراغماتية' سلوك الأذكياء، وأسأل نفسي ما الذي يعنيه ذلك بالفعل؟ هل يجب أن لا يكون هنالك قيم تحدد سلوكي ورؤيتي للأمور. اكتشفت مؤخراً أن ذلك بدأ يحدث على صعيد أكبر، حتى على صعيد السياسات والأحزاب السياسية في العالم، إن استخدام الأخلاق كمرجعية لتبرير أي فعل، ليس أمراً مسوغاً في عالم اليوم. فالناس لن تقبل بهذا بسهولة، وربما تخسر رهاناتك بسرعة اذا ما اتخذت هذا الطريق. فلنتأمل مثلاً ناثان جيه روبنسون في مراجعة قدمها عبر موقع currentaffairs بعنوان: 'حتى عندما لا توفر المال'

اذ أن اليسار في كثير من دول العالم، بدأ ينساق لإغراء تبرير السياسات بالإشارة للأموال التي سيتم توفيرها بعد تنفيذ هذه السياسات. وبذلك فهم يدافعون عن تفضيلاتهم السياسية، ويضرب أمثلة على ذلك في الموقف من قضايا هامة مثل تعليم السجناء، فهو يمنعهم من العودة للإجرام فيوفر الكثير من المال للدولة، أو موقفهم ضد الإعدام، الذي باتوا يبررونه بالتكاليف الباهظة التي على الدولة تحملها لتنفيذ عمليات الإعدام بنجاح. لكن ماذا لو كان الأخلاقي لا يوفر المال؟ أو اتضح انه يكلف الكثير من المال؟

تشترك جميع هذه المواقف في أنها تدعم موقفاً سياسياً يسارياً، لكن دون الحاجة إلى مرجعية من التفضيلات الأخلاقية اليسارية. إن هذا يجعلهم أمام المحافظين يتحدثون بالمنطق نفسه.

يتساءل روبنسون عما إذا كان هذا السلوك يظهرهم غير أمناء، فهنالك شيء غير شريف في تبنيهم لهذا السبب دون غيره – أي مبرر توفير المال – فهم يعتقدون أن السجناء يجب أن يحصلوا على التعليم لأنهم يعتقدون أن الجميع يستحق فرصة أخرى لتحسين حياته. وهم يتخذون موقفاً مناهضاً للإعدام لأنهم يجدون أن هذا السلوك 'بربري' فكيف يمكن للإنسان اليوم أن يكون على يقين من أن 'توفير التكاليف' أو 'الحصول على المال' كافية بالفعل لتحفيز موقف دون غيره في مثل هذه الحالات؟ يتأمل روبنسون في عاقبة هذا الجدال، إنه ببساطة سيقترح مع مرور الوقت طرقاً أقل تكلفة لتنفيذ الإعدام مثلاً، مثل أخذ المجرمين وراء قاعة المحكمة وإطلاق النار عليهم بسهولة.

ثانياً وبحسب روبنسون فإن اتخاذ حجة المال يجعلنا على الدوام معتمدين على 'الحقائق' التي تدعم رأينا في حين أن الاقتصاد يتغير في عالمنا على الدوام، إنه الشيء نفسه الذي تنطلق منه الواقعية لسياسة الهجرة الليبرالية. فيمكن أن ينمي المهاجرون الاقتصاد، ويمكن أن يقللوا من فرص العمل لأبناء البلد نفسه، وفي الوقت الذي ينبغي أن يعتبر فيه أن استقبال لاجئ قضية أخلاقية، يتم تحويلها لجدال حول مصلحة اقتصادية بحتة.

ويرى روبنسون أن تبني موقف أخلاقي معين، للمصلحة الذاتية هو الآخر يدخل في نطاق مسألة 'توفير المال' أيضاً فنحن نقول ونعترف ونعلي من قيمة أننا عندما نقلق بشأن الظروف التي يعيش فيها السجناء لأننا خائفون مما سيفعلونه بنا بعد إطلاق سراحهم، فإننا نشرعن القسوة والأنانية، ونرى أن التعاطف والإيثار ليسا أسبابا كافية للاهتمام بالسجناء وحياتهم داخل السجن. فبدلاً من أن نؤسس مناشدتنا على الضرورات الأخلاقية فإننا ننهزم أما سطوة الفائدة والمنفعة والبراغماتية وشرعية الأنانية.

فلنتخيل إذن عالماً يعتمد قطعاً على منطق 'المنفعة' قد يقول متبني هذا الرأي وما الضير في ذلك، البقاء للأقوى لمن هو قادر على أن يتمثل لقواعد اللعبة القائمة على هذه المنفعة. العالم ليس مكاناً إلا لهذه المعركة حصراً. وبهذه الرعونة يصبح ليس ثمة أي ضرورات أخلاقية أو جمالية، تنسبُ مقولة مؤثرة أحبها للينين 'الأخلاقيات هي جماليات المستقبل'، إن تأمل حال الإنسان ومستويات التفاوت وعدم تكافؤ الفرص وحتى وضع الإنسان المرفه مع وجوده وحياته في ظل ما هو قائم لكفيل بمراجعة عواقب هذا الاتجاه على سعادة الإنسان الحقيقية ونجاته.

اليوم بدأنا ننساق بالفعل، لتبرير عدم التطبيع مع إسرائيل مثلاً بحجج بعيدة عن الضرورات الأخلاقية، فصرنا نحاول إثبات أن التطبيع غير مفيد من الناحية الاقتصادية كما يتم الترويج له بالفعل. لقد تم جذبنا بسهولة لتلك المنطقة الخطرة، في حين أننا كنا وحتى وقت قريب نرى في قضية فلسطين ما كتبه صديقي الكاتب السعودي عزيز محمد ' مجد القضية الفلسطينية أنها تختزن أسمى ما في التجربة البشرية المعاصرة من معانٍ، وتجدد أملنا بما فقدنا بوصلته لفرط تذبذبه بين الحق والباطل: الشعب، الروح، العاطفة، الضمير، كل الكلمات الكبيرة المنسية، كل ما يُحتقر بتشاؤمية ساخرة، تنتصر له فلسطين بغنائية لا تقدم أي اعتذار.'