أعمدة

ضد البطء والغياب

1902146
 
1902146


(1)

'البطء' واحدة من الروايات التي أصفها بمحاضرة فكرية سردية حول الوجود. وتبدو بعض مقاطع الرواية أقرب إلى اللوحات الفنية الآسرة كلوحات الفن التشكيلي أو مقطوعات الموسيقى الكلاسيكية. كتبها الروائي والفيلسوف التشيكي - الفرنسي ميلان كونديرا سنة 1993م وصدرت طبعتها الأولى التي أستند إليها في هذه المقالة سنة 1997م بترجمة منيرة مصطفى والناشر ورد للطباعة والنشر والتوزيع. عندما قرأت الرواية للمرة الأولى أخذت ألجأ إليها على فترات متباعدة لغايات بحثية، وكأيّ عمل يكتبه كونديرا عندما يضع قارئه في محل جدل واشتباك واسعين مع قضايا متعددة، تركت 'البطء' في نفسي تأثيرا كبيرا وعميقا جدا، وظل يلازمني أثرها دون انقطاعات. كان ما شدّني إلى 'البطء'؛ تلك الرواية الصغيرة حجما قد تجسّد في الكيفية التي كتب بها كونديرا عن مرور الزمن المتعثّر، ولذة الاستمتاع ببطء الوقت الذي يمضيه الإنسان في تأمل ذاته ووعيه وحاجياته. الزمن من حيث هو سؤال فلسفي ومعرفي ووجودي.

تكتنز الرواية بالعديد من الصور والمفارقات والمقاربات والتناقضات والأفكار، مع طرح لا يخلو من الجرأة والطاقة كعادة كونديرا، من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر إشارات المؤلف إلى أفكار عميقة كالعقلانية، وحرية التعبير، وأهمية البطء في التعامل مع تلقي الحياة، ومفهوم السرعة، وعن الخوف الذي يكمن في المستقبل ومَنْ تحرر من المستقبل لا يخشى شيئا، وعن العلاقة الخفية بين البطء والسرعة، وبين الذاكرة والنسيان، وعن تناول الصحافة للحدث الإخباري والأسلوب الذي سلّط به التاريخ أضواءه عليه، وعن مفهوم الاصطفاء اللاهوتي وتنزّله في كلّ علاقة حب...إلخ'.

يطرح كونديرا هذا السؤال الذي لا يحفل به الإنسان المعاصر، وهو سؤال أقرب إلى القنبلة: 'لم اختفت متعة البطْء؟ أين هم متسكعو الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى، هؤلاء المتشردون الذين يتسكعون من طاحونة إلى أخرى وينامون تحت أجمل نجمة؟ هل اختفوا باختفاء الدروب الريفية والحقول والغابات والطبيعة؟'.

ما وصفته بالسؤال القنبلة يعود إلى نظرتي للوقت، وانتمائي إلى ثقافة جيل تختلف وتُغاير مع ثقافة الحداثة في هذه الألفية. وبالرغم من التقاء جيلي وجيل (تطبيقات الدلفري والنودلز والتوك توك)، في مجال حيوي، لكن منظورنا أو منظوري الشخصيّ للوقت يختلف بالضرورة عن نظرة جيل اليوم المعاصرين للسوشيال ميديا والهواتف الخلوية الذكية وشاشات الفضائيات والمنصّات، إلى زمننا الماضي بعقود قبل اختراع هذه الأدوات العابرة للقارات. سينظر المعاصرون إلى سؤالي القنبلة كأنه أشبه بالسؤال الغريب الأطوار! نعم، سؤال غريب أشبه بالمسخ الذي حفظته لنا المرويات الأسطورية والحكايات الشعبية في مواضع الفنتازيا؛ وبحسب معجم المصطلحات المسرحية لأحمد بلخيري 'يُعتبر مسخًّا كلّ ما هو مضحك أو هزلي بواسطة فعل كاريكاتوري وغريب. وهو يُدرك باعتباره تشويها دالا لشكل معروف [...] وعن طريق المسخ يتم دائما تحويل الإنسان إلى حيوان، والعكس كذلك صحيح'. وعلى هذا النحو، يجري على سبيل المثال تحويل كلّ عنصر أو أداة لم يَشهد عليها الجيل الحالي كالهواتف التقليدية القابعة فوق الطاولة، أو أشرطة الكاسيت الصّلبة، إلى فكاهة وهزل وفنتازيا، ويمكن أن يدخل في هذا القياس العلاقات الشخصية وعبارات العاطفة التي كان يقولها العاشق لحبيبته. مثلا أنظروا كيف يصف الشاعر جمعان ديوان الطريق إلى الحبيبة في 'صولي' قائلا:

تباعدت يا صولي.. قرب حمران بشوية

تعبت ما معي قدرة من السيرة والجية

واعدتك لا جيتك أقسم لك الهدية

عيني عين الموتر رجلي رجل مطيه

لعمامي وصهوريكل واحد جنبيه

في مقابل تلك الشقوة التي ترينا إياها قصيدة جمعان، فإن عاشق هذا الوقت ما عليه سوى البحث في محرك جوجل عن أروع ما قيل في الغزل والحب وتصويره أو قصّه ولصقه مرفقا الأبيات بصورة لغروب الشمس، أو بموسيقى عازف الليل، وفي أسوأ الأحول يرفق أيقونة معبرة عن الحب وعذابه!

عبر رواية 'البط' الشائقة أريد مناقشة النظرة إلى تبدل الزمن مع حال التقنية التي تحاصرنا في جميع أوقاتنا، لدرجة أننا صرنا لا نملك إزاءها اتخاذ موقف لا يخلو من تبريرات. في الواقع قد تبدو التبريرات وجيهة لدى بعضهم، في حين يراها بعض آخر أنّها إعلان حرب على الحداثة والمدنية المتفوقة والحلم النستولوجي بالعودة إلى بساطة الماضي. لكن هل كلّ ما ننعته بالبساطة في الماضي خيرًا وصالحًا وجميلًا؟ أليس قولنا بالحنين إلى زمن الطيبين كأننا نقبل الرجوع إلى الوراء بالحضارة مئات بل آلاف السنين حيث إنسان الكهف والعيش في العريش والركض بين أشجار الموز؟ هناك كما يظهر لنا، من يخشى على ذاته من الانسحاق والاختفاء إن ظل يرفض إنجازات التقنية لذلك يُرحب بطرق الذهاب المنفتحة مع الحداثة إلى آخرها، إزاء من يرغب بعودة مشروطة إلى الماضي والتراث التليد، وهذه العودة تحيل مباشرة إلى هيئة المسخ الهزلي!

(2)

على هامش الرواية 'البطء'، استوقفني سؤال جرى إرساله ضمن مجموعة على الواتساب يقول: 'تقدر تغلق جوالك 48 ساعة وتكون بدون جوال؟' أجهل في الحقيقة مَن طرح ذلك السؤال، لكنه -وهذا ما أتذكره- ذكرني برواية ميلان كونديرا مباشرة، وبالتحديد المقطع الأول من الرواية لذلك الحديث الذي جرى بين فيرا وزوجها عن سائق السيارة الذي لمحه الزوج ينتظر فرصة مناسبة لكي يتجاوز سيارة فيرا وزوجها، 'فالسرعة هي حالة انجذاب قدمتها الثورة التقنية كهدية للإنسان'. فكانت حسنة الواتساب السريعة أن بعثت بالسؤال إلى بعض الذين زودوني بهذه الآراء:

-'نعم طبعا'.

-'لو أستطيع الاستغناء عن الهاتف المتحرّك للأبد فعلا والعودة لأيام التلفون الأرضي..'.

-'بتوقع آه بقدر. الحمد لله'.

-'إذا في شيء أعمله أشغل وقتي فيه، فنعم، أما إذا ما في، فلا'.

-'والله أتمنى أقدر أصل لـ 21 يوما بدونه حتى أفك تعلق وإدمان بالهاتف وبرامج السوشيال ميديا. حاليا لا، لكن لو تطلّب الأمر وتحت ظروف معينة نعم'.

-'ما أقدر، وما صرت أغلقه أبدا؛ لأنه الوسيلة الوحيدة اللي تربطني بأولادي وهم في الغربة. حادثتان أثرا فيني جعلنني لا أغلق هاتفي أبدا، موت بنت خالتي وقد وصلت متأخرة لأنني كنت أغلق الهاتف، ولما صار الحادث على ولدي. تلفوني مفتوح خصوصا بالليل. الله يجعل كل ما يأتينا من اتصال في هذا الهاتف خيرا'.

-'أنا ممكن أسويها وسويتها كذا مرة يوم كامل، بس طبعا لازم أعطي تحذير للناس الذين يوميا على تواصل معي. مرة سويتها في يوم عيد ميلادي، قفلته تقريبا عشر ساعات'.

-'يعتمد حسب الظروف. أحيانا أستطيع ذلك وأحيانا لا، فهناك بعض الأشياء تحكمنا. ولأسباب حياتية لا أغلق هاتفي مطلقا. قد لا أفتح الواتساب لـ 12 أو 24 ساعة، ولكن الهاتف ينبض عندي، أصبح الهاتف جزءا حيا يرافقنا لمواصلة الحياة. نحن لا نستطيع أن ننفصل عن عالمنا الحي، نحن نعيش لننبض معه ونتواصل مع الآخرين. الهاتف أصبح هو الحياة، لمن يحب التواصل مع الآخرين ومعرفة ما يحدث'.

-'لا. تحسبا لأي طارئ ممكن تحتاجني فيه عائلتي، لكن ممكن يمر أسبوع أو أكثر ما أفتح تطبيق مدمنة عليه'.

-'لا. ممكن أقاوم وأظل بدون نت. بس الاتصال والرسائل لازم يكونوا في حال تفعيل'.

-'في الأيام العادية لا. إلا إذا رايحه اعتكاف مثلا أو مكان مقررة ما أستخدمه. عادي حتى 10 أيام لا أستخدمه في مثل هذه الخلوات'.

-'أيوا عادي جدا. وبين فترة والثانية أسويها. أريد نقاهة. ما أريد أحد يسألني أو يعطيني شغل أو يقول لي تعالي اجتماع. في الغالب يكون هذا الشيء في وقت الويكند'.

'لا ما أقدر. ولا حتى أفكر بتجريب شيء كهذا. كل المعرفة اليومية التي أتحصّل عليها، وكلّ خيوط تواصلي مع العالم تتم عبر هذا الجوال. فلماذا أختار الحبس التام في زنزانة مظلمة مدة 48 ساعة'.

(3)

فكرة البقاء من دون جوال لمدة 48 ساعة بدت كما رآها بعضهم مخيفة ومرعبة، فلا أحد سيختار البقاء في زنزانة. إنها تعني لهم أن يكونوا حاضرين ومتصلين بالعالم الذي غدا قرية معلوماتية صغيرة. أما الذين يملكون إحساسهم بالوقت ولديهم القدرة على التحكم فيه، لا شك لديهم علاقة براجماتية معه، لذلك لا يشكل لهم الغياب أو الابتعاد عن الوضع 'متصل' والأخبار مشكلة مهمة. إن فكرة الخوف من الغياب تدلل على طرق اشتغال الذاكرة مع البقاء طي النسيان. فالذين رأوا في الساعات 48 اتصالا حاضرا ووجودا في حداثة العالم والمَدنية، فهم ميالون بطبعهم إلى البقاء في دائرة الخبر. لكن الآراء التي تشكّل بالنسبة لها 48 ساعة فرصة أو ربما نزهة مع الماضي؛ فالحنين هنا مضاعف بالانتقال إمّا إلى عصر الهاتف الأرضي الثابت، أو إلى زمن معدوم من هذه التقنية. فأيهما أكثر قربا ومتعة: الطريق إلى 'صولي' بتؤدة أم الوصول نفسه؟