أفكار وآراء

تناقضات في البنية الاجتماعية

تسعى المجتمعات جاهدة لأن تؤسس بنى اجتماعية قائمة على عدة محاور، يأتي في مقدمتها الدين، كمحور أساسي لا غنى عنه، وكمحور توجيهي لا يمكن تجاوزه، ومن ثم تتسلسل بقية المحاور؛ كالقيم والعادات المتوارثة، وهي الملتحمة غالبًا بالهوية، وبالانتماء الجغرافي، والاعتزاز القومي، ويدخل في ذلك الاعتزاز العرقي في المكونات الاجتماعية التي تعاني من قضية العنصرية، فتمسك بعض فئاتها بالعرق الذي يأتي تأكيدًا منها للتمسك بهويتها، وإن كانت تلتحم بالمكون العام للمجتمع، ويضاف إلى ذلك أيضا مجموعة من المكتسبات الحياتية اليومية، وهي المكتسبات التي تؤصل لنفسها بنى اجتماعية جديدة، وهويات جديدة؛ لأنها تظل معبرة عن واقعها، وعن ذاتها، وعن ما جيش في نفوس أصحابها، ومن هذه المكتسبات المهن الفنية، والمستويات الإدارية، والمكاسب الوجاهية، فهذه كلها تصب خيراتها في البنية الاجتماعية فتعزز من مكانتها، وتعلي من صوتها، وتعكس للآخر على أنها بنى اجتماعية قوية ومتماسكة، ولها تأثيرها وسمعتها، ويحدث ذلك كله لليقين الموجود أن البنية الاجتماعية؛ هي أهم البنى المؤسسة للحياة البشرية على الإطلاق، وكلما تعززت البينة الاجتماعية بمقوماتها وأركانها، وامتثل الناس بذلك عن رضى وقناعة، كلما أرخت الأرضية الخصبة لنمو بقية البنى الأخرى المعززة لحياة الناس، كالبنية السياسية، والاقتصادية، والثقافية، وفي المقابل كلما حدث خلل في البنية الاجتماعية، أثر ذلك بصورة واضحة على بقية البنى، وأصابها الإرباك، والتململ، وتلاشت هوياتها.

والذي يعاب أكثر هو التناقض مع تجربة الحياة في مكاسب البنى الاجتماعية، فحياة الأفراد قائمة على تجربة (الخطأ والصواب)، ولكن على الرغم من المكتسب العمري في هذه التجربة منذ بدء الخليقة وإلى اليوم لا يزال الإنسان يكرر أخطاءه، وكلما استطاع اكتساب بعدًا معرفيًا يسخره لتيسير حياته اليومية، وأهمية ذلك في البناء والتطور، والتقليل من الخسائر المادية والمعنوية على حد سواء، ومع ذلك تراه يعود من جديد إلى مربعه الأول، وينسف كل مكتسباته السابقة، وكأنه يبدأ الحياة من جديد، والتناقض الأكبر في هذا السياق أن المادة «الأداة» التي يستخدمها سواء في البناء أو الهدم هي متقدمة جدا، وتحقق مكاسب مادية على الواقع، بينما في المقابل تأتي تصرفات الإنسان على العكس من ذلك، حيث يورد نفسه في هلاك أكثر، ويؤذي نفسه، والآخرين من حوله بقسوة أكبر، وكأن كل ما اكتسبه من خلال الأداة التي صنعها - تسهيلا لحياته – ذهبت أدراج الرياح، وقد تحتار في بعض الأحيان في هذا التقييم، وكأن مجمل التصرفات التي يقوم بها البشر اليوم شبيهة بما يقوم بها البشر قبل مئات السنين، فالحروب هي الحروب، والفقر هو الفقر، والتنغيص والتنكيل بالضعيف هو مثل ما كان، وتصدع البنى الاجتماعية مثل ما كان، وكأن البشرية تعيش في مربعها الأول، فسبحان الله.

ومما يعاب على البنى الاجتماعية هو تناقضها مع النص، والمقصود به هنا النص الديني، ولأننا مسلمون، فإن الدين هنا هو الدين الإسلامي الشريف، الذي شرفه الله برسالة سيدنا وحبيبنا محمد -صل الله عليه وسلم-، ويحدث هذه التناقض من خلال التضاد مع النص، فالنص يأمر ويوجه نحو بناء الغايات السامية لحياة البشر، سواء في علاقتهم مع الله سبحانه وتعالى، أو في علاقاتهم مع بعضهم البعض، أو في علاقاتهم مع يحيط بهم من مكونات الحياة اليومية، بينما تأتي تصرفات غالبية البشر على خلاف ذلك، من خلال سلوكياتهم، وممارساتهم، انطلاقًا من اجتهاداتهم ورؤاهم الشخصية البحتة، دون أن يخضعوا كل ما يقومون به لأمر الله سبحانه وتعالى، ومن هنا تأتي مجموعة التناقضات التي يعيشونها مع أنفسهم؛ قبل كل شيء؛ ومن ثم مع الآخرين من حولهم، قد يعلل البعض أن ما يحدث عائد إلى ضعف الإنسان وقلة حيلته، ولوجود فطرة الخوف، والتسرع، وحدود المعرفة، وكل هذه الأسباب مقبولة، ولكنها في النهاية هي تربك البنية الاجتماعية، وتحدث فيها تشققات، فلا تجعل منها بنية قوية، ومتماسكة، ومن هنا تأتي مجموعة الوسائل العلاجية لمعالجة مختلف هذه الممارسات مثل الأحكام الشرعية والقانونية، ومع وجودها إلا أنها لم تحسم المسألة، وإنما تحد من استفحالها، وتكاثرها، وشيوعها، أما القضاء عليها نهائيا؛ فهذا غير وارد بالمطلق، ولعل في ذلك حكمة أراد الله من خلالها أن يعيش هذا الإنسان الفرد أو المجموعة في امتحان دائم؛ تمتحن فيه إرادته، وإيمانه، وقدرته على التحكم في عواطفه، وتجاذباته الذاتية، وحتى يتم من خلال ذلك التفريق بين البشر في علاقاتهم مع الله أولا، وفي علاقاتهم مع الآخرين من حولهم ثانيا، وفي قدرتهم على التفريق بين الخطأ والصواب، فالله سبحانه وتعالى لم يخلق البشر سواسية (ولا يزالون مختلفين).

عُوِّلَ كثيرا على البناءات المعرفية، سواء في تعزيز البنى الاجتماعية، أو في تصويب مسارات الحياة المختلفة؛ للتخفيف من وطأة الممارسات غير الواعية التي يقوم بها البشر، على اعتبار أن البناءات المعرفية من شأنها أن تربك المواقف والقناعات التي عليها الأفراد، فتنقلهم من حالة العسر إلى حالة اليسر، وإلا ما أهمية الإنسان أن يكون عارفًا، وهو لم يغير من تصرفاته وسلوكياته على أرض الواقع شيئا ؟ والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه العزيز: (... هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؛ إنما يتذكر أولوا الألباب) - الجزء الثاني من الآية (9) من سورة الزمر - ومع ذلك تعكس مجموعة الممارسات تناقضًا واضحًا لمكتسبات المعرفة، وهذا جليٌ واضحٌ في المجتمعات التي تدعي التطور الحضاري، والتقدم العلمي من مجمل سلوكياتها، وممارساتها على أرض الواقع، سواء في العلاقة مع الآخر المغلوب على أمره، أو داخل محيطها الاجتماعي، وكأن كل هذا التقدم والتطور الذي يفتخرون به لم يحرك من ضمائرهم ونفوسهم، وأفكارهم، ومواقفهم، وقناعاتهم شيئا يستحق الذكر، إلا الإمعان أكثر في تناقض سلوكياتهم، وممارساتهم، وخاصة تجاه الآخر الذي يستقون عليه بما يملكونه من أدوات متقدمة التي يسخرونها لتحقيق مآربهم الخاصة فقط، وليس لبناء الحيوات الاجتماعية التي يروج لها ليل نهار بين أروقة المنظمات الدولية، وفي كل ذلك تناقض رهيب، ومفارقات موضوعية بين المكتسب المعرفي، وبين التأثير الإيجابي على أرض الواقع الذي تعيشه البشرية كلها، ومما يؤسف له أكثر أن لا مقاربات موضوعية بين منح المعرفة ومكاسب البشرية منها، وبين سلوكيات البشرية نفسها، وتوظيف هذه المنح على أرض الواقع بما ينفعها، وينقلها من حالتها البدائية القاحلة إلى حالتها الخصبة، والذاهبة إلى الإعمار والتقدم والازدهار، وبما يعود ذلك على البشرية كلها بالخير العميم، فأين إنسانية المعرفة من ذلك كله؟

يبقى ليس من اليسير أن تتحد الرؤى عند النظر في معززات البينة الاجتماعية، ذلك أن الإنسان بطبيعته البشرية «حَمَّاَلَة أوجه» يسعى إلى مصالحه، ويذهب إلى حيث تحقيق غاياته، فهناك نزاع داخلي يعيشه الإنسان؛ هذا النزاع يسلب منه الإرادة الجماعية، ويسقطه في براثن الخاص، والخاص جدا؛ لأنه يرى فيه تحقيق ذاته، وتكوين شخصيته، فالذوبان في العام لن يكون مقبولًا بصورة مطلقة، وإنما يتقبله الفرد في حالات الشدة فقط، حيث الجميع يحتاج إلى الجميع، كحدوث الكوارث، مثلًا؛ هنا يمكن أن يلتحم الأفراد، وينسون كل الفروقات الموضوعية التي تضع حواجز بينهم في حالات الرخاء والاستقرار، ولعلها هذا الموقف الوحيد الذي يمكن أن تتعزز فيه البنية الاجتماعية، وينظر إليها بشيء من الإكبار والتقدير، أما بخلاف ذلك فالمسألة نسبية جدا، وحالات من المراوحة بين الضرورة الحاجة والرغبة، ففي الحاجة - كما جاء أعلاه؛ كمثال الكوارث - تعلي من البناء الاجتماعي، أما في حالة الرغبة، كحالات الرخاء، فالبنية الاجتماعية تصاب بالعطب، وتحتاج إلى فترات طويلة لإعادة الترميم، أو البناء عليها من جديد، وهي حالة إنتاجها من جديد وقضية الخلل أو التناقض في البنيوية الاجتماعية؛ محور هذه المناقشة ليست وليدة ظروف طارئة، بل بالعكس عندما تكون هناك ظروف طارئة تتكور البنية الاجتماعية على ذاتها، وتنتصر لهوياتها، وتحافظ على كينونتها، وتبقى مشكلتها في مرحلة الهدوء، حيث تعيد إنتاج نفسها بنفسها، لتخرج جنينًا جديدًا، وقد يكون مشوهًا، وهنا تكمن خطورة الموقف.