أحمد مرسي "الراوي" الذي صان تراث أهله
مرفأ قراءة...
السبت / 23 / ذو الحجة / 1443 هـ - 17:11 - السبت 23 يوليو 2022 17:11
المرحوم الأستاذ الدكتور أحمد علي مرسي
- 1 -
مع كل رحيل فادح لأستاذ جليل من أساتذتنا الكبار ذوي الأيادي البيضاء على طلاب العلم والسالكين في دروب المعرفة، ترهقنا وتوجعنا حقيقة تكاد تمثل طبيعة راسخة ملتصقة ببني البشر، ومرتبطة بصيرورة وجودهم وحياتهم عبر الأجيال والقرون. هذه الحقيقة تتمثل في اعتيادنا وألفتنا للحضور (حضور الشخص وحضور القيمة وألفة النظر والمتابعة) التي تجعلنا لا نفكر لحظة في ضرورة تسجيل تقديرنا لهذه القيمة والتنويه بها والتعريف بأثرها في حياة صاحبها! أعترف بتقصيري طوال السنوات الماضية في تأخري بالكتابة عن أستاذنا الجليل، عميد أساتذة الأدب الشعبي، والفولكلور والمأثورات الشعبية في الجامعات المصرية والعربية والعالمية، الأستاذ الدكتور أحمد مرسي (1944-2022) الذي رحل عن عالمنا في الساعات الأولى من يوم الأربعاء الماضي، عن 78 عاما.
لم يكن أحمد مرسي مجرد أستاذ جليل وكبير وصاحب مدرسة في الدرس المنهجي والعلمي للفولكلور والمأثورات الشعبية، والأدب الشعبي، بل كان صاحب أثر ودور كبير وجليل في إنشاء المؤسسات المعنية بالتراث والفولكلور كذلك، وكان أستاذًا له تلاميذ في مصر والعالم العربي صاروا بدورهم الآن أساتذة كبار. وكان أيضًا مؤلفًا ومترجمًا وناشرًا للمعرفة في كل ما يخص جوانب تراثنا الشعبي العريق.
كان أول من يدرس الأغنية الشعبية، وأول من يجمع المأثورات الأدبية والشعبية في بقعة مكانية محددة مستندًا إلى مصادر من الرواة والحكواتية والمنشدين من الفلاحين البسطاء والجدات والأجداد، هؤلاء الذين وثَّق أحمد مرسي روايتهم، وحفظ حكاياتهم وحواديتهم وأناشيدهم، بل صار هو بذاته 'راوية' مكينا وأصيلا مسلحا بكل أدوات المعرفة العصرية؛ يحترم ويجل الرواية الشفهية، ويتعامل معها برفق ويصونها بشغف، ويؤسس للتقاليد العلمية والمنهجية التي تكرس صيانة وتوثيق هذا المأثور عبر العصور لكل الأجيال.
- 2 -
ربطتني بالمغفور له الدكتور أحمد مرسي أستاذ الفولكلور والأدب الشعبي بكلية الآداب جامعة القاهرة، رحمه الله، علاقة أستاذية وأبوة من جانبه، وتلمذة وبنوة من جانبي لم تنقطع طوال سنوات الدراسة الأربع بالكلية، وفي الدراسات العليا. لكنها ترسخت وتوطدت في السنوات الست الأخيرة، حينما جمعتنا مناسبات عديدة خارج مصر، وخاصة في رحاب معهد الشارقة للتراث (في ملتقى الشارقة الدولي لـ الراوي، وأيام الشارقة التراثية) كان آخر ما التقيته في محاضرة لي عن كتابي «طه حسين» ضمن فعاليات الندوات والمحاضرات التي نظمها (مركز التراث العربي) التابع للمعهد، رغم مرضه وتثاقله وصعوبة حركته فوجئت بحضوره وجلوسه مستمعا بصحبه ابنه البار الكريم الدكتور محمد أحمد مرسي، وتلميذه النابه الدكتور أحمد بهي الدين العساسي الأستاذ بجامعة حلوان، ونائب رئيس الهيئة العامة للكتاب.
وعقب انتهائي من المحاضرة، طلب الكلمة، وتحدث وقال في حقي ما أتصور أنه وسام على صدري أتشرف به وأتركه لأولادي من بعدي، كان فرحا وفخورا وسعيدا بتلميذه، وقد أعلن ذلك على الملأ، مختتما كلمته بأن ما يرضي الأستاذ، أي أستاذ حقيقي، أن يرى تلاميذه ينتشرون في المحافل العربية والدولية، ويمثلون بلدهم وثقافتهم العربية خير تمثيل وأكرمه. في نهاية كلمته سارعت بتقبيل رأسه، ولم أكن أعلم أنني أودعه الوداع الأخير.
- 3 -
لكني لا أنسى آخر ما واجهته فيه 'طالبا' وساعيا لكي أكون 'باحثا'. لا أنسى يوم الامتحان الشفوي في السنة التمهيدية للماجستير؛ قبل ما يزيد على خمس عشرة سنة، وكانت في مادة مناهج النقد الحديث والمعاصر، كان أمامي وفي مواجهتي مباشرة الدكتور أحمد مرسي، هو وأستاذي الذي سبقه إلى رحاب الله الدكتور جابر عصفور.
كنت قدمت بحثا تحليليا عن رواية يحيى الطاهر عبد الله «الطوق والإسورة»، سألني الدكتور مرسي أولا عن بناء الرواية، وما إذا كان يحيى الطاهر عبد الله قد استخدم تقنيات أفادت من الموروث الشعبي، وأساليب الحكي الشفاهي. تلعثمت في البداية قليلًا، ثم انطلقت مرتجلًا بلا توقف لما يزيد على ربع الساعة. لم يقاطعني أحد، يومئ الدكتور جابر برأسه مستحسنا دون مقاطعة أو حتى تعليق.
أما الدكتور مرسي، وطيلة الفترة التي كنت أتحدث فيها، فكان يختلس نظرات سريعة وابتسامات متبادلة مع الدكتور جابر دون أن يتكلم. بعد أن انتهيت.. قال الدكتور مرسي 'أحسنت يا إيهاب.. أستاذك فخور بك'، ونظر إلى جابر عصفور نظرة ذات مغزى، كأنه يستحثه على تشجيعي ولو بكلمة، فينظر جابر عصفور إليّ ويقول 'أنت هايل. لا تدع الدنيا تأخذك، وتنسى أنك خلقت باحثا، ولك مستقبل كبير. أرجوك تذكر ما أقوله لك أنا وأستاذك مرسي'.
لا أنسى هذه الكلمات ما حييت، فقد أخذتني الدنيا تماما (بل إنها طحنت عظامي طحنا، وكادت ألا تقوم لي قائمة بعدها)، لكنني لم أنس أبدا حبي وشغفي لا بالقراءة ولا بالبحث الأدبي والنقدي، ولا بتشجيع أستاذي جابر عصفور ولا ابتسامة أحمد مرسي الحانية.. رحمهما الله رحمة واسعة، وأسكنهما فسيح جناته..
- 4 -
بعد هذا اللقاء بقرابة العشرين عاما؛ دُعيت إلى إلقاء محاضرة بعنوان «ألف ليلة وليلة ـ نص واحد وروايات متعددة» ضمن فعاليات ملتقى الراوي بالشارقة. كانت المحاضرة في العاشرة صباحا، وهي الأولى في يوم حافل بالمحاضرات واللقاءات البحثية. وعادة ما تكون الفعالية الأولى في يومٍ كهذا بلا جمهور غفير، ناهيك أن تكون على رأس اهتمامات أستاذ كبير وجليل تجاوز الخامسة والسبعين، وإذا لم يحضر فلا تثريب عليه!
حين دخلت القاعة المخصصة لإلقاء المحاضرة، وأخذت في الاستعداد لإلقائها، فوجئت بالدكتور أحمد مرسي ومعه بعض رفقائه من الأصحاب والتلاميذ في مواجهتي تمامًا بابتسامته العذبة الحانية، يستند على عصاه الصديقة، وعلى رأسه 'الكاب' الأبيض الذي اشتهر بارتدائه في السنوات الأخيرة.
وبدأت في إلقاء المحاضرة التي استعرضت فيها تاريخ النص الشفاهي الكبير، قبل جمعه وتدوينه، وأصوله وانتقالاته وارتحالاته ما بين الهند وإيران، وبغداد العراق ودمشق الشام والقاهرة المحروسة، واستعرضت تاريخ دراسات الليالي، وتوقفت تفصيلًا عند دراسة الدكتورة سهير القلماوي الرائدة، ثم جهود تلاميذها وتلاميذ تلاميذها من بعدها في دراسة نصوص الأدب الشعبي المدون، والشفاهي. وتوقفت تفصيلا عند ريادة الدكتور أحمد مرسي في تأسيس الدراسة الميدانية، والجمع الميداني لنصوص الأدب الشعبي، وحييته وذكرت أيضًا جهوده في دراسة جوانب من «ألف ليلة وليلة».
وقد فاجأني أستاذي الجليل بدموعه تفيض على وجنتيه متأثرا وممتنا، سعيدا وفخورا، وبعد أن أنهيت المحاضرة طلب الكلمة وأمسك بالميكروفون ليُسمعني أجمل ما يمكن أن يسمعه تلميذ من أستاذه، وذلك على الملأ وأمام جمهور الحاضرين الذين فوجئت بهم يملؤون القاعة تباعًا بعد أن عرفوا أن الدكتور أحمد مرسي قد جاء مبكرًا وخصيصًا ليحضر محاضرة تلميذه إيهاب الملاح.
- 5 -
رحمه الله كان أستاذًا وعالما جليلًا، صاحب أثر وشيخ طريقة متبعة (كما كان يصفه صديقُ عمره ورفيقُ رحلته في الغرام بالأدب الشعبي د.أحمد شمس الدين الحجاجي)، وكان حارسا وراعيا لأنبل وأبدع ما في هذه الثقافة العربية وأعرقها وأقدمها؛ إبداعها الشعبي الأصيل..
حفظ 'الأمثال الشعبية'، وظل يرددها ويستشهد بها طوال حياته وكان يرصع صفحته على 'فيسبوك' يوميا بمثل مشهور، درس 'الأغنية الشعبية' و'الموال'، كتب عن 'العدودة' وفن البكائيات في التراث الشعبي، درس 'السيرة الشعبية' وكتب عن «ألف ليلة وليلة»، وتوقف عند الحدوتة والحكاية الشعبية، كتب عن 'الخرافة في حياتنا'، وقدم لدراسات عن البطولة في الأدب الشعبي، وغيرها الكثير.
ظل الدكتور أحمد مرسي، طوال حياته، منصتا وجامعا وحافظا لمأثور ناسه وأهله، وإبداعهم الشعبي الخالد.. فوداعًا يا حامل شعلة تراثنا الشعبي، وأحد صائنيه الأمناء الأوفياء..
مع كل رحيل فادح لأستاذ جليل من أساتذتنا الكبار ذوي الأيادي البيضاء على طلاب العلم والسالكين في دروب المعرفة، ترهقنا وتوجعنا حقيقة تكاد تمثل طبيعة راسخة ملتصقة ببني البشر، ومرتبطة بصيرورة وجودهم وحياتهم عبر الأجيال والقرون. هذه الحقيقة تتمثل في اعتيادنا وألفتنا للحضور (حضور الشخص وحضور القيمة وألفة النظر والمتابعة) التي تجعلنا لا نفكر لحظة في ضرورة تسجيل تقديرنا لهذه القيمة والتنويه بها والتعريف بأثرها في حياة صاحبها! أعترف بتقصيري طوال السنوات الماضية في تأخري بالكتابة عن أستاذنا الجليل، عميد أساتذة الأدب الشعبي، والفولكلور والمأثورات الشعبية في الجامعات المصرية والعربية والعالمية، الأستاذ الدكتور أحمد مرسي (1944-2022) الذي رحل عن عالمنا في الساعات الأولى من يوم الأربعاء الماضي، عن 78 عاما.
لم يكن أحمد مرسي مجرد أستاذ جليل وكبير وصاحب مدرسة في الدرس المنهجي والعلمي للفولكلور والمأثورات الشعبية، والأدب الشعبي، بل كان صاحب أثر ودور كبير وجليل في إنشاء المؤسسات المعنية بالتراث والفولكلور كذلك، وكان أستاذًا له تلاميذ في مصر والعالم العربي صاروا بدورهم الآن أساتذة كبار. وكان أيضًا مؤلفًا ومترجمًا وناشرًا للمعرفة في كل ما يخص جوانب تراثنا الشعبي العريق.
كان أول من يدرس الأغنية الشعبية، وأول من يجمع المأثورات الأدبية والشعبية في بقعة مكانية محددة مستندًا إلى مصادر من الرواة والحكواتية والمنشدين من الفلاحين البسطاء والجدات والأجداد، هؤلاء الذين وثَّق أحمد مرسي روايتهم، وحفظ حكاياتهم وحواديتهم وأناشيدهم، بل صار هو بذاته 'راوية' مكينا وأصيلا مسلحا بكل أدوات المعرفة العصرية؛ يحترم ويجل الرواية الشفهية، ويتعامل معها برفق ويصونها بشغف، ويؤسس للتقاليد العلمية والمنهجية التي تكرس صيانة وتوثيق هذا المأثور عبر العصور لكل الأجيال.
- 2 -
ربطتني بالمغفور له الدكتور أحمد مرسي أستاذ الفولكلور والأدب الشعبي بكلية الآداب جامعة القاهرة، رحمه الله، علاقة أستاذية وأبوة من جانبه، وتلمذة وبنوة من جانبي لم تنقطع طوال سنوات الدراسة الأربع بالكلية، وفي الدراسات العليا. لكنها ترسخت وتوطدت في السنوات الست الأخيرة، حينما جمعتنا مناسبات عديدة خارج مصر، وخاصة في رحاب معهد الشارقة للتراث (في ملتقى الشارقة الدولي لـ الراوي، وأيام الشارقة التراثية) كان آخر ما التقيته في محاضرة لي عن كتابي «طه حسين» ضمن فعاليات الندوات والمحاضرات التي نظمها (مركز التراث العربي) التابع للمعهد، رغم مرضه وتثاقله وصعوبة حركته فوجئت بحضوره وجلوسه مستمعا بصحبه ابنه البار الكريم الدكتور محمد أحمد مرسي، وتلميذه النابه الدكتور أحمد بهي الدين العساسي الأستاذ بجامعة حلوان، ونائب رئيس الهيئة العامة للكتاب.
وعقب انتهائي من المحاضرة، طلب الكلمة، وتحدث وقال في حقي ما أتصور أنه وسام على صدري أتشرف به وأتركه لأولادي من بعدي، كان فرحا وفخورا وسعيدا بتلميذه، وقد أعلن ذلك على الملأ، مختتما كلمته بأن ما يرضي الأستاذ، أي أستاذ حقيقي، أن يرى تلاميذه ينتشرون في المحافل العربية والدولية، ويمثلون بلدهم وثقافتهم العربية خير تمثيل وأكرمه. في نهاية كلمته سارعت بتقبيل رأسه، ولم أكن أعلم أنني أودعه الوداع الأخير.
- 3 -
لكني لا أنسى آخر ما واجهته فيه 'طالبا' وساعيا لكي أكون 'باحثا'. لا أنسى يوم الامتحان الشفوي في السنة التمهيدية للماجستير؛ قبل ما يزيد على خمس عشرة سنة، وكانت في مادة مناهج النقد الحديث والمعاصر، كان أمامي وفي مواجهتي مباشرة الدكتور أحمد مرسي، هو وأستاذي الذي سبقه إلى رحاب الله الدكتور جابر عصفور.
كنت قدمت بحثا تحليليا عن رواية يحيى الطاهر عبد الله «الطوق والإسورة»، سألني الدكتور مرسي أولا عن بناء الرواية، وما إذا كان يحيى الطاهر عبد الله قد استخدم تقنيات أفادت من الموروث الشعبي، وأساليب الحكي الشفاهي. تلعثمت في البداية قليلًا، ثم انطلقت مرتجلًا بلا توقف لما يزيد على ربع الساعة. لم يقاطعني أحد، يومئ الدكتور جابر برأسه مستحسنا دون مقاطعة أو حتى تعليق.
أما الدكتور مرسي، وطيلة الفترة التي كنت أتحدث فيها، فكان يختلس نظرات سريعة وابتسامات متبادلة مع الدكتور جابر دون أن يتكلم. بعد أن انتهيت.. قال الدكتور مرسي 'أحسنت يا إيهاب.. أستاذك فخور بك'، ونظر إلى جابر عصفور نظرة ذات مغزى، كأنه يستحثه على تشجيعي ولو بكلمة، فينظر جابر عصفور إليّ ويقول 'أنت هايل. لا تدع الدنيا تأخذك، وتنسى أنك خلقت باحثا، ولك مستقبل كبير. أرجوك تذكر ما أقوله لك أنا وأستاذك مرسي'.
لا أنسى هذه الكلمات ما حييت، فقد أخذتني الدنيا تماما (بل إنها طحنت عظامي طحنا، وكادت ألا تقوم لي قائمة بعدها)، لكنني لم أنس أبدا حبي وشغفي لا بالقراءة ولا بالبحث الأدبي والنقدي، ولا بتشجيع أستاذي جابر عصفور ولا ابتسامة أحمد مرسي الحانية.. رحمهما الله رحمة واسعة، وأسكنهما فسيح جناته..
- 4 -
بعد هذا اللقاء بقرابة العشرين عاما؛ دُعيت إلى إلقاء محاضرة بعنوان «ألف ليلة وليلة ـ نص واحد وروايات متعددة» ضمن فعاليات ملتقى الراوي بالشارقة. كانت المحاضرة في العاشرة صباحا، وهي الأولى في يوم حافل بالمحاضرات واللقاءات البحثية. وعادة ما تكون الفعالية الأولى في يومٍ كهذا بلا جمهور غفير، ناهيك أن تكون على رأس اهتمامات أستاذ كبير وجليل تجاوز الخامسة والسبعين، وإذا لم يحضر فلا تثريب عليه!
حين دخلت القاعة المخصصة لإلقاء المحاضرة، وأخذت في الاستعداد لإلقائها، فوجئت بالدكتور أحمد مرسي ومعه بعض رفقائه من الأصحاب والتلاميذ في مواجهتي تمامًا بابتسامته العذبة الحانية، يستند على عصاه الصديقة، وعلى رأسه 'الكاب' الأبيض الذي اشتهر بارتدائه في السنوات الأخيرة.
وبدأت في إلقاء المحاضرة التي استعرضت فيها تاريخ النص الشفاهي الكبير، قبل جمعه وتدوينه، وأصوله وانتقالاته وارتحالاته ما بين الهند وإيران، وبغداد العراق ودمشق الشام والقاهرة المحروسة، واستعرضت تاريخ دراسات الليالي، وتوقفت تفصيلًا عند دراسة الدكتورة سهير القلماوي الرائدة، ثم جهود تلاميذها وتلاميذ تلاميذها من بعدها في دراسة نصوص الأدب الشعبي المدون، والشفاهي. وتوقفت تفصيلا عند ريادة الدكتور أحمد مرسي في تأسيس الدراسة الميدانية، والجمع الميداني لنصوص الأدب الشعبي، وحييته وذكرت أيضًا جهوده في دراسة جوانب من «ألف ليلة وليلة».
وقد فاجأني أستاذي الجليل بدموعه تفيض على وجنتيه متأثرا وممتنا، سعيدا وفخورا، وبعد أن أنهيت المحاضرة طلب الكلمة وأمسك بالميكروفون ليُسمعني أجمل ما يمكن أن يسمعه تلميذ من أستاذه، وذلك على الملأ وأمام جمهور الحاضرين الذين فوجئت بهم يملؤون القاعة تباعًا بعد أن عرفوا أن الدكتور أحمد مرسي قد جاء مبكرًا وخصيصًا ليحضر محاضرة تلميذه إيهاب الملاح.
- 5 -
رحمه الله كان أستاذًا وعالما جليلًا، صاحب أثر وشيخ طريقة متبعة (كما كان يصفه صديقُ عمره ورفيقُ رحلته في الغرام بالأدب الشعبي د.أحمد شمس الدين الحجاجي)، وكان حارسا وراعيا لأنبل وأبدع ما في هذه الثقافة العربية وأعرقها وأقدمها؛ إبداعها الشعبي الأصيل..
حفظ 'الأمثال الشعبية'، وظل يرددها ويستشهد بها طوال حياته وكان يرصع صفحته على 'فيسبوك' يوميا بمثل مشهور، درس 'الأغنية الشعبية' و'الموال'، كتب عن 'العدودة' وفن البكائيات في التراث الشعبي، درس 'السيرة الشعبية' وكتب عن «ألف ليلة وليلة»، وتوقف عند الحدوتة والحكاية الشعبية، كتب عن 'الخرافة في حياتنا'، وقدم لدراسات عن البطولة في الأدب الشعبي، وغيرها الكثير.
ظل الدكتور أحمد مرسي، طوال حياته، منصتا وجامعا وحافظا لمأثور ناسه وأهله، وإبداعهم الشعبي الخالد.. فوداعًا يا حامل شعلة تراثنا الشعبي، وأحد صائنيه الأمناء الأوفياء..