أفكار وآراء

معايدات وسائط الإعلام الجديد

لطالما كانت الأعياد أزمنةً لتجديد الفرح عبر التواصل في حياة ظلت منذ بداية الخليقة مندرجة في مجال عام تطرد عوائد الناس فيه عبر واقع نمطي، يحتفظ فيه أولئك الناس بمسافات يستعينون بها دائما على تجديد الألفة وتعميق الفرحة التي يدخرونها لتلك المناسبات.

وهكذا، فيما كان عيد المسافرين في أطوار تلك الحياة القديمة هو يوم عودتهم إلى الديار لتبريد الشوق والاستدفاء بالأهل، كان عيد الآهلين في البلاد هو يوم الفرح الأكبر الذي يجتمعون فيه ويدعون الله لعود من سافر متغربا عن دياره في الأعياد.

لكن اليوم، مع ثورة المعلوماتية والاتصال التي قلبت حياة الناس عبر وسائط التواصل الاجتماعي رأسا على عقب، أصبح مفهوم تقارب الزمان (الذي جاء في محتوى حديث مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم) يوشك أن يكون تفسيرا لما أصبح عليه حال الناس من تواصل حميم قرّب أركان الأرض البعيدة ببعضها البعض، بطريقة انكسر معها نمط الاغتراب الذي كان عليه الحال قديما.

لهذا لن يستغرب أحدنا إذا ما فوجئ بتهاني الأعياد تملأ رسائل الهاتف عبر الواتساب والمسنجر والفيسبوك وتويتر فيكسل عن الرد عن تلك الرسائل الكثيرة بصورة قد تجعل من عمله عملا مختزلا ربما يقع في اللوم إن قصر عن البعض.

ولطالما كان الناس في الشرق قديما يستهجنون بطاقات المعايدة التي كان يتداولها الغربيون في مناسبات أعيادهم، غير مدركين لزمن السرعة الذي فرض إيقاعه على الغرب آنذاك قياسا بالزمن البطيء في الشرق.

اليوم مع نشاط وسائل التواصل الاجتماعي وإدمانها بصورة أصبحت تشغل أغلب أوقات الناس، بدا لكثيرين أن ذلك لعب دورا كبيرا في العزلة التي أصبحت نمطا عاما لمدمني الوسائط الإلكترونية.

وفي مثل هذه الزحمة، حين تهل الأعياد سيبدو خافتا ذلك البريق الذي كانت تعكسه مناسباتها في نفوس الناس قديما.

وفي ظل هذا الوضع حين يستغرب الكثيرون من كثرة رسائل الأعياد في أجهزتهم الهاتفية بما يجعلهم أحيانا عاجزين عن الرد على الجميع، لا يدرك الكثيرون، أيضا، أن زحمة الواقع الافتراضي الذي توفره تلك الوسائط للقاء الناس وتقبل معايداتهم هو أكبر بكثير حدود من أزمنة الحياة العادية قديما في مواسم الأعياد.

لقد تبدلت أحوال الناس مع هذه الوسائط، ففيما كانت الوسائط التقليدية للتراسل قديما كالرسائل الورقية سببا في تجديد حميمية التهنئات والألفة بين الأهل والأقارب، أصبحت وسائط التواصل الحديثة سببا في عكس ما كانت تعمل عليه وسائل التواصل التقليدية قديما، فمن ناحية، شغلت الوسائط الحديثة كالفيسبوك وتويتر ويوتيوب وانستجرام مرتاديها حتى في أوقات الحياة العادية الأمر الذي تسبب في ظواهر بين الأجيال الجديدة مثل العزلة، وضعف العلاقات البينية، ومن ناحية ثانية أصبحت تلك الوسائط مستقبلة في هواتف المشتركين لكثير من بطاقات ومعايدات التهنئة الإلكترونية التي تصل إلى هاتف المشترك من كل مكان وبطريقة أصبحت معها تلك المعايدات كما لو أنها لا تعكس حميمية تماما كحال بطاقات أعياد الغربيين التي كانت تستغرب منها مجتمعاتنا في السبعينيات من القرن الماضي.

إن متغيرات الحياة الحديثة سنن مستمرة ولن تتوقف، لكن ما جلبته وسائط التواصل الاجتماعي -رغم مرور أكثر من 15 عاما على ظهور منصة فيسبوك- لا يزال محيرا ودالا على دخول البشرية إلى مرحلة حتى الآن مجهولة العواقب من أثر تلك الوسائط الإلكترونية لوسائل التواصل الاجتماعي بحيث يمكن القول إنه حتى اليوم لم يدرك أحد أبعاد ما تنطوي عليه مآلات ومصائر تلك المنصات التواصلية في السنوات القليلة القادمة. وما يمكن أن تعج به من تغييرات كبيرة وغير معلومة الأثر الآن.

عالمنا اليوم يعيش مرحلة انتقالية مع أطوار تكنولوجيا وسائل التواصل الحديثة ولا تزال مجتمعاتنا عاجزة عن القدرة على التحكم فيها، لهذا فإن ما يبدو غير عادي في كثرة تهنئات الأعياد التي يستغرب منها البعض من كثرتها في رسائل الهواتف النقالة فذلك ليس لأن الذي تغير هو موسم الأعياد أو أزمنتها، بل الذي تغير هو أن يجد البشر أنفسهم عاجزين عن التواصل الافتراضي مع جموع كثيرة جمعها فضاء افتراضي تضاعفت فيه أضعافا مضاعفة إمكانية التواصل مع أي شخص من أي مكان بعكس ما كان عليه الحال في أزمنة الناس ما قبل ثورة المعلوماتية والاتصال.

محمد جميل أحمد كاتب من السودان