أعمدة

نقطة زرقاء في لوحة مدهشة

هوامش .. ومتون

 
انبهر العالم بعد نشر وكالة الفضاء الأمريكية ناسا الصور التي تم التقاطها بواسطة أكبر تلسكوب هو (تلسكوب جيمس ويب) الفضائي، والصور التي التقطها تلسكوب 'هابل'، وتناقلتها بسرعة البرق وكالات الأنباء العالميّة، وضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بالتعليقات التي عبّر أصحابها عن أهمية هذا الإنجاز العلمي باعتبار تلك الصور هي أول صور ملونة كاملة للكون، لذا أعلن عن هذا الإنجاز العلمي الرئيس الأمريكي بايدن بنفسه، في رسالة بليغة للعالم أكّدت أن أمريكا تظلّ تمثّل قوة كبرى في مختلف المجالات، ومنها العلمية، لتعود إلى أذهاننا رسائل الحرب الباردة، والتسابق المحموم بين القوتين الدوليتين الكبيرتين.

وعلى مدى أيام ملأت تلك الصور المواقع، والصحف، والفضائيات، وشغلت المعلّقين الذين توقّفوا كثيرًا عند مشاهد النجوم، والثقوب السوداء، والغازات المعتمة، والغبار الكوني، والأفلاك والجسيمات، والدخان، والشعاب المرجانية الكونية، التي أظهرت دقّة نظام الكون، وعظمة الخالق، ولغرابة تلك المشاهد، بدت كأنها لوحات سريالية بديعة، فيها من الجمال الكثير، لِمَ لا؟ والخالق يقول في كتابه (إنا زيّنا السماء الدنيا بزينةٍ الكواكب) (الصافات:6)، وأثارت الكثير من التساؤلات، وأبرزها: هل توجد كائنات أخرى في الكواكب الأخرى؟ وشرّق المغرّدون وغرّبوا، لكنّ الجميع أصغى إلى الصمت المطبق الذي يغلّف الكون، ويفرض جلاله، والبعض سرح مع العتمة الكونية، أتذكر بورخس 'الكون مثلك معتم يا بروتس وستدخل العتمة التي تتربص بك'، وبعيدًا عن تلك النظرة الذاتية المعتمة، يجد السهروردي نفسه عاجزًا عن تفسير شعوره باللذة، حين يقول: 'بقي من اللذة معي ما لا أطيق أن أشرحه، فانتحبت، وابتهلت، وتحسّرت على المفارقة، وكانت تلك الراحة لعلامات آيلة عليّ بسرعة، نجانا الله من أسر الطبيعة، وقيد الهيولى. (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون)، ويرى الشاعر الإيراني كيومرث منشي زاده أنّ الحب كان 'كوكبا عظيما، في العصور التي سبقت ولادة النجوم'، وبكثير من الشغف، أعادت تلك الصور إلى الأذهان نظرية (الانفجار العظيم) التي شغلت العلماء عندما يتحدّثون عن نشوء الكون، وفكرة تمدده، والكتلة الغازية العظيمة التي انفجرت بتأثير الضغط، وتوزّعت أجزاؤها في كل اتجاه، لتكون الكواكب والمجرات والنجوم، ومع ضرورة الإشارة إلى أنّ هذه النظرية التي وضعها البلجيكي جورج لوميتر لا تتعارض مع المنظور الديني الذي ورد في القرآن الكريم بقوله تعالى ' أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون (الأنبياء: 30)'

وهناك من تحدّث عن ضخامة الكون وعظمته، والمجرّات والسنين الضوئية التي تقاس بها المسافات بين الأجرام السماوية، وتعدّ بالمليارات، وبدا الكثيرون حائرين وتائهين أمام هذه العظمة، فيما لفتت أنظار البعض جمال الكون وتناسقه، وروعة نظامه، وسكونه، وألقى باللائمة على البشر الذي بدلًا من أن يقوم بواجبه في تعمير الكون قام بالاعتداء على الطبيعة، والإخلال بالنظام البيئي.

وراح الشاعر اليمني علوان الجيلاني يبحث في تلك الصور عن كوكبنا، فقال: 'كل يوم نتأكّد أكثر أننا في هذا الكون مجرد نقطة زرقاء باهتة' تلك النقطة، هي عالمنا بكلّ محيطاته، وبحاره، وجباله، وأنهاره، والبشر والحجر، وكائناته، وكذلك أزماته، وحروبه، وجماله، لكن تلك النقطة لها سيّد هو الإنسان الذي خاطبه الشاعر بقوله:

أتحسب أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

نعم أن الكون عظيم، لكنّ الإنسان أعظم ما فيه، فهو الذي حمل الأمانة (إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) (الأحزاب :72)، وهو الذي أوكلت إليه مهمة تعمير الأرض، وقد وجدتُ أن الذين يؤمنون بالله وعظمته هم الأقل انبهارا؛ لأنهم يعرفون قدرة الخالق، ولديهم تصور مسبق عنه، (وَلَئِنْ سألتهم من خلق السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلْ أَفرأيتم مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أرادني الله بِضُرٍّ هل هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أو أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عليه يتوكل المتوكلون) (الزمر: 38).

ويقاسمهم في ذلك الشعراء الذين يمتلكون مخيلة خصبة، وكثيرًا ما تغنت قصائدهم بالنجوم والكواكب والأفلاك، ففاض خيالهم من تلك النقطة الزرقاء، وجعل الأنظار تتجه إلى الكون، المليء بالأسرار، مطلقًا العنان لأسئلة يحاول أن يجيب عنها العلماء بنظرياتهم، واكتشافاتهم التي تعزّز كل يوم نتاج تلك المخيلة وتغذي دهشتها، كما أدهشت الجميع صور وكالة الفضاء الأميركية ناسا.