زيارة إلى متحف كافكا
الثلاثاء / 19 / ذو الحجة / 1443 هـ - 17:07 - الثلاثاء 19 يوليو 2022 17:07
لطالما عرفتُ المدن بكتابها والفنانين فيها، لكنني لا أستطيع تخيل براغ أو السماع عنها دون أن أفكر في كافكا، بالنسبة لي هذا كاف جداً للتقاطع مع مدينة ساحرة، يعجب الناس بها لساحاتها المفتوحة، جسورها ونهر الفلتافا فيها. قررتُ السفر إليها أخيراً بعد قراءة كتاب ضخم عن كافكا هو 'كافكا السنوات الأولى' لراينر شتاخ، والذي يصف فيه كل زوايا براغ وصراعاتها التي ساهمت في تكوين كافكا وعائلته. ومنذ اللحظات الأولى لوصولي هناك وأنا أشاهد أيقونة كافكا المطبوعة على مختلف المنتجات، وعلى لوحات براغ مثل ظل يمضي إلى المستقبل محمياً هناك من الضياع.
سكنتُ في وسط المدينة القديمة، يبعد عني معرض فني حديث عن كافكا، على بوابة المعرض وبخط واضح، كُتبَ أن كافكا ليس رمزاً بعيداً عن الحياة اليومية لسكان براغ، وأنه تجربة حياتية من السهولة بما كان لمسها، صمم المعرض شرطي ومحقق جنائي لاحق َجرائم براغ لفترة طويلة، في المعرض لمحات عن البيروقراطية العنيفة التي تلقي بظلالها على الحياة في براغ، الأمر الذي يجعل صرصار كافكا الممسوخ أكثر قرباً منك، ألا يبدو الأمر مخيفاً؟ أن تكون فكرة مجردة كهذه، واقعية بصورة لا نهائية، وأن مجاز التحول هذا ما هو إلا الدقة المباشرة لحدث يومي عادي مثل الغياب عن العمل.
بالنسبة لي ورغم قتامة ما كتبه كافكا، إلا أنه يظهر ساخرا، هذا الأمر الذي لا يسهل هضمه في العادة، فمع كل هذا البؤس، كيف يمكن للكوميديا السوداء أن تجد لها مكاناً. ثم إن من يقرأ يوميات كافكا ويعود لقراءة الأدب الذي ألفه إذا استثنينا 'رسالة إلى الوالد' يمكن أن يصاب بهذا الارتباك، كيف يمكن لذلك الشخص الخجول والذي يعاني من الهزال أن يكون ساخراً بالفعل. هل يمتلك القوة ليكون كذلك؟ يكتب مينا ناجي عن هذه المفارقة في مقالة له عن علاقته بكافكا فيقول عن رواية مصرية ديستوبية أيضاً 'في رواية مصرية ديستوبية شهيرة ظهرت في السنوات الأخيرة، قام صاحبها بوضع ملامح كابوسية ودموية قاتمة لمستقبل قريب، واستمر في تصعيد هذا الخط بلا توقف على طول الرواية، حتى أنه وصل إلى كتابة ميتافيزيقية جوهرها أن الحياة بؤس وعذاب لا ينتهي، للجميع، وبلا فرصة للنجاة. وأنا في منتصف الرواية فَقَدَت كل السوداوية قوتها معي، وأصبح السرد كاركاتوريًا، سوادًا فوق سواد حتى فقد الأسود معناه وتأثيره. تساءلت -وهذا التساؤل يعني أن العمل به مشكلة بالنسبة لي- لماذا كتب المؤلف هذه الرواية؟ هذا الظلام التام لا يلقي ضوء ما على الوضع البشري ولا يخبر بأمر ذي قيمة يمكن التعامل معه، لو يريد إبلاغ البشر برسالة السواد وانعدام الأمل، ما يفيد في ذلك وهذا لن يفرق في أي شيء، فحتى الاستسلام للأمر الواقع لن يلغي الكارثية المطلقة للحياة التي يتكلم عنها؟ ما الفارق في أن يقول أو لا يقول، يكتب أو لا يكتب أي شيء بالأساس؟ لو كان هدف الكاتب هو إظهار السواد، كنوع من الغيظ الحاسد من عدم التفات الناس إليه، فيعرف أي فنان تشكيلي أيًا كان مستواه أنه لإبراز اللون الأسود يكفي أن تضع خطًا أبيض أو ملونًا (زهرة ليلك، رغبة مبهمة، إماطة بسيطة لجسد شاب، إلخ..) كي تبرز المساحة السوداء، والتي بدونها ستكون مجرد خلفية سوداء مصمتة بلا معنى، لا تقول شيئًا'. وهذا ما نجح فيه كافكا، ذلك القدر الكبير من المساحات القاتمة المخترقة بالضوء والأمل، وانتظار العائلة في الخارج، وعيشها المستقل الذي يتنامى كلما تقدمت القصة، كان الخارجُ يتكيفُ مع كارثية ما يحدث في الغرفة التي استحال فيها الابن إلى مسخ ضخم.
يمنحنا كافكا تصوراً يجعلنا نؤمن أن الأدب هو طريقة مستقلة للنظر إلى العالم، مختلفة تماماً عن العلم والتحليل النفسي، إنه يمثل لنا حالة، تماماً كما حدث مع زيبالد في كتابه حلقات زحل، عندما وقع مريضا وحبيسا في رحلته لتتبع خراب العالم، فنقل إلى مستشفى نوريتش في مقاطعة سافوك شرق إنجلترا معانياً من حالة شلل تقريباً، فنظر إلى النافذة الموجودة في الغرفة مسيطرا عليه مشهد غريغور سامسا ناظراً من نافذة غرفته هو الآخر إلى ذكرى غير واضحة 'ذكرى الشيء المحرِّر، الذي تمثل له ذات يوم في الماضي في النظر عبر النافذة' ليتمثل مشهد المدينة أمام زيبالد قفراً كئيباً كما ظهر لسامسا عبر وقوفه هناك. وهذا ما كان الفضول يشعله في داخلي عندما أفكر في زيارة المتحف، ترى أي إحساس سيتملكني؟ هل سأعاني عبء محاولة لعب دور المتجول المثقف في المتحف لعب دور المتأثر بما يراه؟ الذي يرغب في اقتلاع نفسه من همومه الشخصية التي يغرق فيها إلى حالة يسمو بها فيتقمص واقعاً آخر لكاتب يحبه؟
قطعتُ جسر تشارلز من المدينة القديمة مشياً، كان المتحف لم يفتح أبوابه بعد، عندما بدأت رحلتي التي وبحسب تطبيق الخرائط تتطلب ما يزيد عن عشرين دقيقة بدقيقتين، للوصول إلى وجهتي، وصلتُ إلى هناك وكنتُ قد ابتعت تذكرتي عبر الموقع الإلكتروني تجنبا للوقوف في طابور تخيلت أنه سيكون طويلا، لكن فور وصولي هناك فوجئت بأن لا أحد في المكان عدا موظفة مسنة ما أن رأت من بعيد أنني افتح على صفحة التذكرة الإلكترونية، حتى وجهتني للمتحف مباشرة دون التأكد من أنني أمتلك تذكرة صالحة بالفعل، دخلت للمتحف وكان مظلما مع إضاءات نيون موجهة للمواد المعروضة، وأصوات مدينة براغ القرن التاسع عشر والقرن العشرين، أصوات أغانٍ قادمة من الغرف الأخرى في المتحف من الفترة نفسها، رسالة إلى الوالد بنسختها الأصلية بخط كافكا، صور النساء اللاتي أغرم بهن، رسائله معهن، طلبه للتقدم للعمل، زياراته لميونيخ، كتبه، المصنع الذي عمل فيه، ورغم بساطة المكان شعرتُ بأنه أقبض على قلبي، وكان التجول في المكان وحيدة، روحانياً ومذهلاً، كيف تبدو الأماكن الرئيسية التي عبر منها، فيلم يعرض خريطة ولقطات مقربة لهذه الأماكن، وأنا وحدي، أتذكر بدوري كل المشاهد القاتمة التي ألفتها على نوافذ عديدة عبرتها طوال عمري.
سكنتُ في وسط المدينة القديمة، يبعد عني معرض فني حديث عن كافكا، على بوابة المعرض وبخط واضح، كُتبَ أن كافكا ليس رمزاً بعيداً عن الحياة اليومية لسكان براغ، وأنه تجربة حياتية من السهولة بما كان لمسها، صمم المعرض شرطي ومحقق جنائي لاحق َجرائم براغ لفترة طويلة، في المعرض لمحات عن البيروقراطية العنيفة التي تلقي بظلالها على الحياة في براغ، الأمر الذي يجعل صرصار كافكا الممسوخ أكثر قرباً منك، ألا يبدو الأمر مخيفاً؟ أن تكون فكرة مجردة كهذه، واقعية بصورة لا نهائية، وأن مجاز التحول هذا ما هو إلا الدقة المباشرة لحدث يومي عادي مثل الغياب عن العمل.
بالنسبة لي ورغم قتامة ما كتبه كافكا، إلا أنه يظهر ساخرا، هذا الأمر الذي لا يسهل هضمه في العادة، فمع كل هذا البؤس، كيف يمكن للكوميديا السوداء أن تجد لها مكاناً. ثم إن من يقرأ يوميات كافكا ويعود لقراءة الأدب الذي ألفه إذا استثنينا 'رسالة إلى الوالد' يمكن أن يصاب بهذا الارتباك، كيف يمكن لذلك الشخص الخجول والذي يعاني من الهزال أن يكون ساخراً بالفعل. هل يمتلك القوة ليكون كذلك؟ يكتب مينا ناجي عن هذه المفارقة في مقالة له عن علاقته بكافكا فيقول عن رواية مصرية ديستوبية أيضاً 'في رواية مصرية ديستوبية شهيرة ظهرت في السنوات الأخيرة، قام صاحبها بوضع ملامح كابوسية ودموية قاتمة لمستقبل قريب، واستمر في تصعيد هذا الخط بلا توقف على طول الرواية، حتى أنه وصل إلى كتابة ميتافيزيقية جوهرها أن الحياة بؤس وعذاب لا ينتهي، للجميع، وبلا فرصة للنجاة. وأنا في منتصف الرواية فَقَدَت كل السوداوية قوتها معي، وأصبح السرد كاركاتوريًا، سوادًا فوق سواد حتى فقد الأسود معناه وتأثيره. تساءلت -وهذا التساؤل يعني أن العمل به مشكلة بالنسبة لي- لماذا كتب المؤلف هذه الرواية؟ هذا الظلام التام لا يلقي ضوء ما على الوضع البشري ولا يخبر بأمر ذي قيمة يمكن التعامل معه، لو يريد إبلاغ البشر برسالة السواد وانعدام الأمل، ما يفيد في ذلك وهذا لن يفرق في أي شيء، فحتى الاستسلام للأمر الواقع لن يلغي الكارثية المطلقة للحياة التي يتكلم عنها؟ ما الفارق في أن يقول أو لا يقول، يكتب أو لا يكتب أي شيء بالأساس؟ لو كان هدف الكاتب هو إظهار السواد، كنوع من الغيظ الحاسد من عدم التفات الناس إليه، فيعرف أي فنان تشكيلي أيًا كان مستواه أنه لإبراز اللون الأسود يكفي أن تضع خطًا أبيض أو ملونًا (زهرة ليلك، رغبة مبهمة، إماطة بسيطة لجسد شاب، إلخ..) كي تبرز المساحة السوداء، والتي بدونها ستكون مجرد خلفية سوداء مصمتة بلا معنى، لا تقول شيئًا'. وهذا ما نجح فيه كافكا، ذلك القدر الكبير من المساحات القاتمة المخترقة بالضوء والأمل، وانتظار العائلة في الخارج، وعيشها المستقل الذي يتنامى كلما تقدمت القصة، كان الخارجُ يتكيفُ مع كارثية ما يحدث في الغرفة التي استحال فيها الابن إلى مسخ ضخم.
يمنحنا كافكا تصوراً يجعلنا نؤمن أن الأدب هو طريقة مستقلة للنظر إلى العالم، مختلفة تماماً عن العلم والتحليل النفسي، إنه يمثل لنا حالة، تماماً كما حدث مع زيبالد في كتابه حلقات زحل، عندما وقع مريضا وحبيسا في رحلته لتتبع خراب العالم، فنقل إلى مستشفى نوريتش في مقاطعة سافوك شرق إنجلترا معانياً من حالة شلل تقريباً، فنظر إلى النافذة الموجودة في الغرفة مسيطرا عليه مشهد غريغور سامسا ناظراً من نافذة غرفته هو الآخر إلى ذكرى غير واضحة 'ذكرى الشيء المحرِّر، الذي تمثل له ذات يوم في الماضي في النظر عبر النافذة' ليتمثل مشهد المدينة أمام زيبالد قفراً كئيباً كما ظهر لسامسا عبر وقوفه هناك. وهذا ما كان الفضول يشعله في داخلي عندما أفكر في زيارة المتحف، ترى أي إحساس سيتملكني؟ هل سأعاني عبء محاولة لعب دور المتجول المثقف في المتحف لعب دور المتأثر بما يراه؟ الذي يرغب في اقتلاع نفسه من همومه الشخصية التي يغرق فيها إلى حالة يسمو بها فيتقمص واقعاً آخر لكاتب يحبه؟
قطعتُ جسر تشارلز من المدينة القديمة مشياً، كان المتحف لم يفتح أبوابه بعد، عندما بدأت رحلتي التي وبحسب تطبيق الخرائط تتطلب ما يزيد عن عشرين دقيقة بدقيقتين، للوصول إلى وجهتي، وصلتُ إلى هناك وكنتُ قد ابتعت تذكرتي عبر الموقع الإلكتروني تجنبا للوقوف في طابور تخيلت أنه سيكون طويلا، لكن فور وصولي هناك فوجئت بأن لا أحد في المكان عدا موظفة مسنة ما أن رأت من بعيد أنني افتح على صفحة التذكرة الإلكترونية، حتى وجهتني للمتحف مباشرة دون التأكد من أنني أمتلك تذكرة صالحة بالفعل، دخلت للمتحف وكان مظلما مع إضاءات نيون موجهة للمواد المعروضة، وأصوات مدينة براغ القرن التاسع عشر والقرن العشرين، أصوات أغانٍ قادمة من الغرف الأخرى في المتحف من الفترة نفسها، رسالة إلى الوالد بنسختها الأصلية بخط كافكا، صور النساء اللاتي أغرم بهن، رسائله معهن، طلبه للتقدم للعمل، زياراته لميونيخ، كتبه، المصنع الذي عمل فيه، ورغم بساطة المكان شعرتُ بأنه أقبض على قلبي، وكان التجول في المكان وحيدة، روحانياً ومذهلاً، كيف تبدو الأماكن الرئيسية التي عبر منها، فيلم يعرض خريطة ولقطات مقربة لهذه الأماكن، وأنا وحدي، أتذكر بدوري كل المشاهد القاتمة التي ألفتها على نوافذ عديدة عبرتها طوال عمري.