أعمدة

نوافذ.. "في المكان الآخر مرآة معتمة"

 
يظن أحدنا أن العالم هو سريره الذي بكى عليه، ثم بيته ثم حقله ثم جيرانه ثم مدينته ثم المدن المجاورة، ثم يتنامى الكون من حوله إلى عناقيد لا نهائية، في صورة قدر ما تبدو آسرة قدر ما تشي بانتفاء خرافة تضخمنا إزاء الكون المغامر في اتساعه.

لقد استلقى أسلافنا القدامى على ظهورهم في الليالي الصافية، فتأملوا صفحة السماء، خمنوا عدد نجومها المضيئة وأخفقوا عدة مرات في عدها بأعينهم المجردة، علقوا أمانيهم على الشهب الساقطة، وعندما وقعوا في الحيرة أمام سطوة الجمال الأخاذ عبدوا القمر، ثم وجدوا أن الأجرام السماوية تؤثر على حظوظهم وأمزجتهم، فتحولت السماء لورقة يانصيب عملاقة. اجتهد الأسلاف لتغدو السماء خارطة هداية في مساراتهم البرية والبحرية، ثم جاءت التلسكوبات الأكثر تطورًا لتعطينا تصورًا مذهلًا عن العناقيد الكونية.

أن تكون بين الأحياء الذين أبصروا الصورة الملونة الأعمق للكون في التاريخ، أن تكون ضمن أول تجمع للجنس البشري الذين يتمكنون من النظر إلى 'الصورة التي تبعد عن بيت كل واحد منا مسافة 27 ألف تريليون كيلومتر'، فذلك حظ ظل أسلاف هذا العالم يتعثرون في حل ألغازه موغلة القدم، لاسيما لو عرفنا أن الكون لفت أنظار الإنسان منذ العصر الحجري. كما أن مجرد إحساسنا بدنو اكتشاف نشأة المجرات الأولى ومدى إمكانية وجود حياة أخرى موازية لحياتنا في مجرة من المجرات، يجعلنا نلج إلى حالة حلمية أو فلمية، فالأمر لم يكن يتعدى من قبل مخيلة الروائيين وكتاب السيناريوهات.

شاهدتُ الصورة الملهمة وأنا أطوي الوقت في مدينة بعيدة عن مدينتي، فأخذتُ أفكر في أسلافنا القدماء الذين عبّدوا الطرق لكي نعبر، كما قد نفعل نحن الآن لأجيال قادمة. نذهب الآن إلى أسفارنا بعد أن نكون قد رسمنا خططًا دقيقةً على خرائطنا اللوحية. نحدد بدقة الأماكن التي سنزورها، الأطعمة التي سنجربها، التجارب الجديدة التي سنخوضها. صرنا نعرف حتى درجات الحرارة والملابس التي سنصطحبها معنا. أفكر بأسلافنا القدامى كيف ذهبوا إلى محيطات لا نهائية الشساعة أو صحارٍ مجهولة النهاية، قمم جبال لا يعرفون ماذا تخبئ خلفها من مفاجآت، فالمسافر في الماضي لم يكن يعرف وجه المخاطر التي تنتظره. يشغل بالي كل هؤلاء الذين خاضوا رحلاتهم قبل أن يستدلوا الطرق بالنجوم أو البوصلة. تلك الأرواح المأخوذة بنشيدها السري دون أن تدري أنها تمهد الطريق للحيوات التي ستأتي لاحقًا، ضمن قاعدة التراكم المعرفي.

يطرح كتاب 'مدن غير مرئية' للكاتب ايتالو كالفينو فكرة مهمة حول إن كانت الأسفار محاولة لاستعادة العيش في الماضي؟ ويجيب: 'في المكان الآخر مرآة معتمة. المسافر يرى فيها القليل مما له ويكتشف المثير مما ليس له ولن يمتلكه يومًا'. وأكاد أجزم أن أسلافنا قبل هذه الخبرات الجديدة التي نعرفها اليوم كان المجهول يمثل لهم مرآة معتمة.

'كل شيء يُحقق معناه في عقولنا'، وعليه فإن أكثر ما قد تحققه تلك الصورة التي التقطها تلسكوب جيمس ويب هو أن وجودنا ضئيل، وكلما اتسع الكون فإن ضآلتنا تتعاظم. لكن الإنسان متناهي الصغر إزاء قصة الكون العظيمة لا يبدو أنه راغب في أن يصحو من سباته، من حروبه القذرة، من أطماعه، من الحبال التي تتدلى كل يوم ليشنق نفسه فيها.

ولذا فمن المفزع حقا أن العالم الذي يكشف عن ذخيرته المتحضرة بيد، يدمر العالم باليد الأخرى، ليتبدى وجهان لهذا العلم الجبار.. وجه ظاهر ووجه خفي!

أن تتمكن بعينيك المجردتين من تأمل 'لمحة عن 13.5 مليار سنة من التاريخ الكوني'، ذلك أمر أشبه بمعجزة من معجزات العصر الجديد. ولنا أن نرتعش ونحن نقرأ هذا الوصف: 'رقعة من السماء بحجم حبة الرمل التي يحملها شخص ما على الأرض وينظر إليها بطول ذراعه'. الأمر يجعل العالم بأسره أمام منعطف جديد، أمام أسئلة جديدة، وتحديدا نحن حيث نعلق في ضحالة مستنقع راكد من الخلافات غافلين أو متغافلين عما هو أجدر برحلتنا!