أفكار وآراء

محركات المشاركة المدنية

يقتضي التحول الراهن في النموذج التنموي الجديد لسلطنة عُمان التفكير في منظومة المشاركة المدنية بعمومها، ونقصد بها على وجه التحديد كافة الممارسات التي يمكن أن يكون لأفراد المجتمع من خلالها وجه مشاركة في خدمة قضايا التنمية أو الانخراط في المجال العام أو اختيار القنوات المناسبة لإيصال أفكارهم ومرئياتهم بشأن التنمية والمجتمع. وهنا تتعدد الأشكال والأنماط بين المشاركة في المجالس المنتخبة بالتصويت أو العضوية، أو الانخراط الفاعل في مؤسسات المجتمع المدني بأشكالها الأربعة المعتمدة، أو الولوج إلى مناشط العمل الأهلي والخيري عبر منصاته وأشكاله الناشئة والرسمية التي يمكن أن تُرصد معالمها بالدراسة والتوثيق والأثر.

الغاية من كل ذلك هو تعزيز رأس المال الاجتماعي وتحويله من إطاره الجمعي العرفي إلى إطار مثمر مؤسسيًا وذي عائد على مختلف عمليات التنمية ومساهم في تحقيق الغايات متوسطة – بعيدة المدى لملف الرفاه والحماية الاجتماعية الذي يتقدم أولويات النموذج التنموي الذي جاءت به رؤية عُمان 2040.

تحدد أولوية الرفاه والحماية الاجتماعية في مستند الرؤية هدفًا استراتيجيًا رئيسًا من ضمن أهدافها وهو الوصول إلى 'مجتمع مدني ممكن ومشارك بفاعلية في التنمية المستدامة وإطار تنظيمي فاعل ومحفز لعمل مؤسساته'. ويقترح المستند تطوير مؤشر وطني يقيس مساهمة المجتمع المدني في الرفاه والحماية الاجتماعية. وما نقترحه في هذه المقالة هو إيجاد مقاربة وطنية شاملة لمفهوم المشاركة المدنية بكافة الأشكال التي تعرضنا لها وتوجيه سياسات واضحة لدفع إسهام الأفراد في المجتمع في مختلف أنشطة العمل المدني. وألا يتم النظر إليها بشكل مجتزء أو قطاعي. وإنما تتحرك باتساق غايات جميع المؤسسات المتصلة بها لخدمة حفز الأفراد نحو العمل بفاعلية في المؤسسات ذات الطابع الأهلي أو المشاركة في انتخابات المجالس المنتخبة وليس الهدف هنا هو المشاركة في ذاتها. وإنما المشاركة التي تخدم أجندة التنمية والعمل الوطني وتسهم في دعم الجهود الحكومية في ملفات التنمية ذات الأولوية.

فالمجالس البلدية على سبيل المثال ذراع مهم في خدمة التحول للامركزية وفي عكس صوت المجتمع المحلي في ترتيب أولوياته التنموية وإسهامه في خدمة اقتصاديات الولايات والمحافظات. والانخراط في الجمعيات المهنية على سبيل المثال يجب أن يعكس تطور رأس المال البشري في كل قطاع من قطاعات العمل والإنتاج وأن تكون تلك الجمعيات ذراعًا للمؤسسات الرسمية العاملة في القطاعات الإنتاجية والمهنية المختلفة للتفكير خارج الصندوق وللفت النظر إلى القضايا المحورية للعاملين فيها وإلى المساهمات الابتكارية التي يمكن أن تتحول إلى نهج أو منتج أو خدمة ويتم تبينها في إطار العمل الوطني. وجمعيات المرأة العُمانية يجب أن تحدد في المرحلة المقبلة إجابة واضحة على سؤال: ماذا تريد هذه الجمعيات من المرأة ؟ وماذا تريد للمرأة؟ والقصد هنا هو تحديد ثيمة تنموية تواكب مقتضيات الراهن وتكون أكثر قدرة على اجتذاب المرأة أيما كان انتماؤها ونشاطها وتأهيلها ومضمار خدمتها للمشاركة في هذه المؤسسات التي يعول عليها الكثير خلال المرحلة المقبلة.

كل ذلك أيضًا ينبغي أن يخضع للرصد والتحليل والقياس. فلا يمكن أن نقر أن هناك أثرًا للمشاركة المدنية على خدمة أجندة العمل الوطني دونما قياس منهجي واضح ودونما سياسات محددة لما ينبغي العمل عليه في كل نمط من أنماط هذه المشاركة. وهنا نقترح أن يكون هناك ما يمكن تسميته بـ 'مرصد المشاركة المدنية' الذي يمكن أن يكون جزءًا من المؤسسات ذات العلاقة بأنماط المشاركة أو أن يعزى لأحد المؤسسات الأكاديمية بإشراف وعلاقة مباشرة مع إحدى المؤسسات الحكومية ذات العلاقة ويعنى هذا المرصد بثلاث مهمات رئيسية:

1- تطوير أدوات منهجية لقياس أثر المشاركة المدنية على العمل التنموي في أوجهه المختلفة ومنها على سبيل المثال: مساهمة مؤسسات المجتمع المدني في تخليق فرص العمل و'تمدين' بعض الخدمات الحكومية (بمعنى إسنادها إلى مؤسسات المجتمع المدني).

2- اقتراح أفضل الممارسات والسياسات لحفز مشاركة الأفراد المدنية وتطوير نهج للتوجيه السلوكي يمكن استخدامه في الحفز للمشاركة في الانتخابات أو الانخراط في أنشطة التطوع ومختلف مناشط العمل الأهلي.

3- تطوير وتحديث المعلومات والمؤشرات التفصيلية حول أنماط المشاركة المدنية المختلفة ومراكمة الأدبيات حول تطور أوجه تلك المشاركة وحفز البحث الأكاديمي والتطبيقي فيها وتطوير أدلة تفصيلية للعمل المدني وللعمل على الاستراتيجيات الموجه لحفزه وتعزيزه.

إن تعزيز رأس المال الاجتماعي وتحويله إلى رأس مال اجتماعي متمأسس سيدفع كذلك جهود التحول للامركزية. ففي ورقة نشرها البنك الدولي حول 'المشاركة واللامركزية' وتتبع فيها تجارب اللامركزية في عدة أقطار عالمية. تشير التجارب إلى أنه في تنزانيا كشفت التحليلات عن 'وجود ارتباط إيجابي بين جودة التعليم المحلي ومستوى رأس المال الاجتماعي في مختلف القرى، فضلاً عن وجود علاقة قوية بين الرفاه الاقتصادي والمستويات العالية لرأس المال الاجتماعي. والحال ذاته ينسحب على الحكومات المحلية في كلٍّ من المكسيك وإيطاليا – حسبما تشير إليه الدراسة - . والأصل هنا أنه كلما زاد إسهام الأفراد في اقتراح وتصعيد وترتيب ومواءمة وتنفيذ ومتابعة وتقييم البرامج التنموية التي تقع ضمن حيزهم الجغرافي؛ أسهم ذلك تلقائيًا في تعزيز ترابطهم الاجتماعي وتقوية رأس المال الاجتماعي الكائن في حيزهم الجغرافي ومحورة حياة الأفراد حول العمليات التنموية الرئيسية بالإضافة إلى تحقيق مستويات أعلى من الرضا الجمعي حول أداء الحكومات وتمثيلها المحلي. عوضًا عن الدفع بالمشاركة المدنية لتكون ذات ديمومة أكبر.

وفي الحالة العُمانية يمكن أن يعزز ذلك بوجود سجل وطني للمشاركة المدنية يشمل كافة أوجه المشاركة التي ينخرط فيها الفرد من مشاركة انتخابية إلى انخراط في مؤسسات المجتمع المدني والأندية وغرف التجارة والصناعة إلى الإسهامات الطوعية الرسمية ويمكن توسيع نطاق السجل حسب مقتضى الأنشطة والمساهمات الموجودة. ويرتبط هذا السجل ببعض التفضيلات التي يمكن منحها للفرد سواء في الفرص الدراسية أو الفرص الوظيفية أو فرص الترقي المهني أو مجمل الفرص الاقتصادية التي يمكن أن تشكل مساهماته المدنية عنصرًا للتنافس عليها. وهو ما يسرع التحول نحو مجتمع مدني أكثر فاعلية من ناحية، وزيادة إسهام المشاركة المدنية عمومًا في تعضيد رأس المال الاجتماعي.