أعمدة

بين أحراش خضراء في برلين

 
تختبئ في الساحة الخلفية لبناية بيضاء في حي من أحياء برلين، مكتبة خان الجنوب، التي ساهم في تأسيسها الكاتب المصري محمد ربيع، صاحب رواية عطارد، بعد أن قرر الهجرة من مصر قبل نحو ثلاث سنوات. سرعان ما أصبحت هذه المكتبة وجهة العرب في برلين وعموم أوربا للحصول على الكتاب العربي.

عندما تدخل للبناية عليك أن تقطع بوابتيها تابعا علما يرفرف باسم المكتبة، التي تتوارى خلف الأشجار والزرع والزهور غير المشذبة، وعندما تدلف إلى داخلها تشعرُ أنها قديمة جدًا، تمنحك إحساس المكتبات العتيقة على الرغم من أنها ليست كذلك. عندما زرتها لم أكن قد ذهبت لجزيرة المتاحف بعد، ولا لأرشيف الكاتب الألماني فالتر بينامين الذي أتتبعه بحرص المريد، ولم أكن أتمتع بنطق اسم 'شارع الزيزفون' المشهور في برلين، ومع ذلك شعرتُ بأنني شرعتُ إلى برلين من هامشها، صادفتُ على الجدران والأبواب بينما أمشي هناك جملًا بالعربية، حرص كتابها على ترجمتها للألمانية، أبرزها: 'المنفى صعب' 'المنفى ليس سهلًا' وتخيلت الحيوات التي تشكلت على مر السنين الماضية في هذه الطرق، القادمة من سوريا، فلسطين، وكل وطننا العربي المنكوب، مستحضرة بلا شك واحد من أهم الألبومات الغنائية التي صدرت خلال السنوات الماضية، وهو 'أحلى من برلين' لفرج سليمان وكلمات الكاتب الفلسطيني مجد كيال.

وكلماته 'شوي بتوجع برلين، حلوة ومليانة ناس، بس بشتاق لأم صبري، وبشتاقلك انتِ بالأساس'.

تطورت المكتبة خلال فترة قصيرة، ربما لخبرة أصحابها، فربيع بالإضافة لكونه كاتبًا عربيًا معروفًا تأهل للقائمة القصيرة في جائزة الرواية العربية قبل أعوام فقد عمل محررًا لدى دور نشر عربية عديدة منها التنوير والكرمة، سرعان ما أعلنت خان الجنوب أنها بصدد إصدار كتب عربية، لكل العرب، المنفيين منهم، ومن هو في بلده، وكان من إصداراتها الأولى كتاب 'حزن في قلبي' للكاتب اللبناني هلال شومان الذي يعيش في كندا بعد أن عاش لسنوات في دبي بعد مغادرته لبنان، والعمل الآخر الذي سأتحدث عنه مطولًا هنا 'احلمي يا سيدي' للكاتبة الفلسطينية سارة أبو غزال والتي تعيش في مدريد حاليًا.

يُخيل لي طوال الوقت أننا عبر الإصدارات القادمة لهذه الدار، سنتقاطع مع تعريفات جديدة للهجرة القسرية والاختيارية، سنرى عالمًا لم نعرفه بعد عن الحياة اليومية لأولئك الذين يسجلون أحيانًا وليس دائمًا لصعوبة المهمة كلمات من قبيل 'المنفى مش سهل'.

قرأتُ عمل هلال شومان، الذي تابعتُ كل إصداراته لحظة صدورها، ينشأ طفلًا في برلين، ليكتشف أنه طفل متبنى تم تهريبه من لبنان فترة الحرب الأهلية اللبنانية، ليتمزق هذا الأخير وهو يفكر في جذوره وهويته ويعيد التأمل في حياته برمتها مع اضطراره العودة إلى بيروت تنفيذًا لوصية والده.

أما كتاب سارة أبو غزال وهو يقدم نفسه كـ 'متتالية قصصية' أجدها رواية تامة، والذي حاز على منحة آفاق صندوق الثقافة والفن العربي، فمنذ عنوانه يبدو مخاتلًا 'إحلمي يا سيدي' حتى تتبين أنه بالمحكية الفلسطينية إذ إن السِيد هو الجد، ومثلما ينادي الحفيد جده بسيدي، فالجد يرد عليه بسيدي أيضًا. تنطلق الحكاية من مخيم شاتيلا، لكن علينا أن لا نتعجل الأمر تقول لنا الكاتبة أن مخيم شاتيلا في هذه الصفحات ينبغيَ أن نعرفه قبل أن نكون عنه صورة ذهنية واحدة هي مجزرة صبرا وشاتيلا في 16 من سبتمبر عام 1982 مع زين العابدين أبو سكر وأمه نجمة القادمة من عين عرة، بعد النكبة، وهكذا وعبر أجيال عديدة نعيش في فلسطين قبل النكبة، عندما كان بها سينما، فترة الوجود الإنجليزي فيها، نعيش الحياة المدينية لمكان ادعى المحتل أنه قفر وناء بينما كان مدينيًا في كثير من أركانه، وصولًا للحظة اغتيال رفيق الحريري عام 2005 الوقت الذي أتذكره جيدًا. كان عمري حينها 12 عامًا ومع ذلك شعرتُ بأنه أمر جلل وقد تحولت قناة المستقبل التي أتابعها في العادة لناقل مباشر للحدث وتبعاته، تمر الاشتباكات في بيروت، وارتكاساتها على اللاجئين الفلسطينيين بتفصيل دقيق، دون أن يحدث أي إقحام مباشر لتلك الصراعات، نشاهد الفلسطيني أعزلًا حتى وهو بيروتي لا يعرف غير لبنان، أمام تغريب ممنهج يحدث حتى من أقرب الناس إليه، أولئك الذين شاركهم ذات يوم أحلام الثورة والعودة، وقالوا بأنهم يحملون لواء فلسطين قبل لبنان على الرغم من لبنانيتهم التي لم تتكشف بعد عن رعونتها.

لا يوجد مجاز واحد في هذه المتتالية، هي قصة تروى بأمانة شديدة وما يبدو حيادًا في تجنب المحسنات البديعية للأدب، والزخرف، هو في تتابعه شجي، ويجعلك معلقًا بكل قلبك منذ الصفحة الأولى للعمل وحتى صفحته الأخيرة. كل من موقعه التاريخي يقول قصته، نضال ابن بيروت الفلسطيني الذي لا يعرف غيرها ومع ذلك يخافها ويخاف من نفسه، زهرة الزوجة التي تمل بسرعة، والتي عرفت منذ اليوم الأول أن عليها أن تخرج من هذا المكان، وسلوى الصغيرة التي جاءت صدفة لتقول إن النسيان غير ممكن، وأن الذكرى تميمة الفلسطيني أينما حل وذهب، سلوى التي تحلم والتي يقول لها جدها عبر الحلم 'احلمي يا سيدتي' حتى وإن كان الحلم هو الموت نفسه. هذه المتتالية التي تقص لنا سيرة الفلسطينيين في لبنان وحياتهم على مر عقود هناك. تذكرت على الفور رغم اختلاف الأدوار القصة التي أسرتني لأشهر وهي وثائقي سردي للمخرج الفلسطيني الأصل مهدي فليفل وهو 'عالم ليس لنا' أصدر عام 2012 يتتبع فيه حياة أحد سكان المخيمات الفلسطينية وخطته للهروب واللجوء لأوروبا لحظة بلحظة ولمدة سنوات.

لا أبالغ إن قلت بأننا إزاء عمل سيعتبر أيقونة ينطلق منها الأدب الفلسطيني تمامًا مثلما اعتبرنا المتشائل لايميل حبيبي موقعًا مهما للفحص والتدقيق، وتحولات شعر محمود درويش منذ أن كان شعره معنيًّا بالأمة وحتى شعره الأكثر ذاتية، يستدعي العمل أيضًا صوت فلسطينية أخرى تعيش في برلين ألمانيا أيضًا وهي عدنية شلبي في عملها 'تفصيل ثانوي' الذي تأهل لجوائز عالمية مؤخرًا بترجماته إلى لغات أخرى.

لا شك بأن عمل سارة أبو غزال هذا يؤسس لكتابة مهمة عن الفلسطيني في المنفى. شخصيًا انتظر عملًا أعلن عنه قبل أشهر عبر دار التنوير بعنوان الباريسي للبريطانية الفلسطينية ايزابيلا حماد والتي تستعرض فيها حياة جدها الأكبر وسيرته.

تقدم لنا سارة أبو غزال الفصلين الأخيرين من الكتاب بالمحكية الفلسطينية، وهي تتناغم إلى حد كبير مع الدعوة القادمة من خلال هذين الفصلين لعدم النسيان، التذكر المستمر، يظهر هذين الفصلين مثل نشيد حزين، إذ تسبغ عليه العامية الفلسطينية شجنًا حادًا، وخصوصية لا تقاوم، تنوي بها أن تستسلم لإيقاع النشيد سواء فهمت أم لم تفهم. إنه عمل بديع بحق.