إشراقات

الحج.. دلالات ومقاصد

تأملات قرآنية

 
المتأمل في مضامين العبادات يتلمس جوانب دلالية تتعلق بالجانب الروحي والتأملي لهذه العبادات التي يؤديها المسلمون، هذا التأمل يكسب هذه العبادة أثناء تأديتها عمقا يحقق من خلاله المقاصد التي ترمي إليها هذه العبادات، ويتمثل ذلك جليا في العبادات التي يكون الجهد البدني فيها كبيرا، مثل أداء فريضة الحج، ولأن هذه الفريضة تحتاج إلى الجهد البدني، بالإضافة إلى القدرة المالية، فلذلك فرضها الله مرة واحدة في العمر لمراعاته أحوال العباد، «لمن استطاع إليه سبيلا»، ليرفع الحرج عن الأمة للأشخاص الذين لا تتوفر لديهم الإمكانات لتأدية هذه العبادة العظيمة.

والقرآن الكريم ذكر تفاصيل الحج بل توجد سورة بكاملها بهذه العبادة لجلال هذه الشعيرة المباركة، وعظيم ثوابها عند الله تعالى فسماها سورة الحج، ولو نظرنا إلى معنى الحج في المعاجم اللغوية لوجدنا أنه يقصد به المشي السريع القوي، ولذلك قال الله تعالى في كتابه العزيز عندما أمر إبراهيم عليه السلام بأن يؤذن في الناس بالحج ليجيبه الناس إلى يوم القيامة، فقال تعالى في سورة الحج: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»، فيأتوك رجالا يقصد به يأتون لتأدية فريضة الحج مشيا على أرجلهم، أو يأتون من خلال وسيلة نقل كالدواب وغيرها من وسائل النقل.

فهي عبادة بدنية روحية يعود منها المسلم كيوم ولدته أمه وقد غفرت ذنوبه التي بينه وبين الله، فعليه أولا قبل ذهابه أن يؤدي حقوق العباد ويتوب توبة نصوحا، حتى يغفر الله له ويمحوَ ما اقترفه من خطايا وآثام في السابق.

وكرم الله تعالى إبراهيم عليه السلام بأن جعل دعوته للحج مستمرة إلى قيام الساعة، ولذلك نجد في أدبيات الملل السابقة، طقوسا للحج، وهي طقوس تعتمد على المشي في مسارات محددة مرورا بمزارات يتوقفون عندها. ولأن إبراهيم عليه السلام نادى بهذه الشعيرة المباركة، كانت قصته عليه السلام والأحداث التي حصلت له من ابتلاءات ومواقف، مثلت جانبا مهما في طريقة تأدية المسلمين للحج.

ونجد أن العلماء تحدثوا عن أيام الحج وأسمائها وسبب تسميتها بتلك الأسماء، فنجدهم يقولون إن أول يوم في الحج وهو اليوم الثامن من ذي الحجة يسمونه «يوم التروية» وهو استقرار الحجاج في مِنى وهو أول أيام التشريق، فقالوا: إن هذه التسمية جاءت من فعل إبراهيم عليه السلام وترويه في تثبت الرؤيا هل هي من الله أم أنها غير ذلك، فسمي هذا اليوم بهذا الاسم، كما أورد بعض المفسرين أقوالا أخرى حول هذه التسمية، والحجاج يحرِمون في مِنى في هذا اليوم للمتمتعين بالحج، ويصلون الصلوات الخمس ابتداء من الظهر إلى الفجر، قبل أن ينطلقوا إلى عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة، ثم يعودون إليها لتكملة المناسك، وقد اختلف العلماء أيضا في سبب تسمية المكان بهذا الاسم «مِنى» فبعضهم ذهب إلى المعنى اللغوي لهذا الاسم وهو يقصد به يُراق أو يُصب، وهذا المعنى له دلالة على كثرة الهدي الذي يذبح في ذلك المكان فيصبون الدماء صبا، بينما ذهب آخرون إلى معنى أن الله يصب الخير للحجاج في ذلك المكان صبا، بينما فسرها آخرون بالأمنية التي يتمناها الحاج من ربه، وبعضهم من قال: إن آدم في ذلك المكان تمنى عودته إلى الجنة، وهنالك آراء كثيرة تتحدث عن سبب التسمية، ولا حرج في اختلاف تلك الآراء لاجتهاد الناس في محاولة تفسير الأسماء، ولكن كل تلك الاختلافات تدل على ذلك المكان المحدد.

ثم يأتي ثاني يوم من أيام الحج وهو من أعظم أيام الحج، ويكون في اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو اليوم الذي يباهي به الله ملائكته وسكان سماواته بالحُجاج في ذلك اليوم العظيم فيقول كما ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلـم: «إنَّ اللهَ تعالَى يُباهي بأهلِ عرفاتٍ ملائكةَ السَّماءِ ، يقولُ: انظروا إلى عبادي، أتَوْني شُعثًا غُبرًا من كلِّ فجٍّ عميقٍ، أُشهِدُكم أنِّي قد غفرتُ لهم» ففيه ترتفع الأصوات بالدعاء والتلبية، وفيه يرفع الناس ضراعاتهم لله عز وجل، يطلبون منه الرحمة والمغفرة والعتق من النار، ويسألونه حاجاتهم.

ومشاهد الحج تشبه إلى حد كبير يوم المحشر فترى ازدحام الناس وضراعاتهم وخضوعهم للحي القيوم، كما أنه لا تفاضل بينهم في ملبس أو هيئة، فكلهم يرتدن الثياب نفسها وهي الرداء والإزار، ولذلك حكمة بالغة أرادها الله فهذا الموقف ليس موقف مباهاة وزينة، وإنما هو موقف عظيم يستمطرون فيه رحمات ربهم وغوثه بغفرانه، كما أن لعدم لبس المخيط من الثياب حكمة، وهو عدم التباهي والمزايدة في الملبس، فكلهم يرتدون قطعتين من القماش غير المخيط، فالتفاضل في هذه الأيام هو تفاضل القلوب، وأفضل الناس أهل التقوى، فهي أيام ترفع فيها الدرجات وتمحى فيها السيئات ويعتق الله فيها عباده من النار.

ويسمى اليوم العاشر من ذي الحجة يوم النحر، وهو أعظم أيام الله، ويسمى يوم الحج الأكبر، ويقوم الحاج فيه برمي العقبة الكبرى والحلق أو التقصير، وذبح الهدي قربانا لله تبارك وتعالى، ويطوف طواف الإفاضة، ويسعى بين الصفا والمروة، قال تعالى في سورة البقرة: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ».

فهو يوم يشرع فيه كثرة ذكر الله، فقال تعالى كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا، وهذا الذكر يؤمر به عامة المسلمين وليس حجاج بيت الله فقط، وكذلك يشترك عامة المسلمين مع الحجاج في تقديم الهدي، أو ذبح الأضحية، وهي سنة أبينا إبراهيم عليه السلام، فجعلها الله من مناسك الحج، ومن الأعمال التي على المسلمين أن يؤدوها في يوم العيد، وهو إكرام لإبراهيم الخليل عليه السلام الذي تجاوز الابتلاء بصبره العظيم وانقياده وطاعته لله تبارك وتعالى حتى في أصعب الأوامر وأشدها على النفس البشرية، وهي أن يذبح الأب ابنه بيده طاعة لأمر خالقه، ولكن أكرم الأكرمين، أبى أن يفجع النبي الكريم بابنه، ففداه بذِبح عظيم، بكبش من الجنة، ذبحه بدلا من ابنه، وجعلها سنة في المسلمين باقية إلى أبد الدهر، فقال تعالى في قصة الذبح في سورة الصّافّات: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (109)».

كما أن بعض مناسك الحج مرتبطة بأحداث قصة إبراهيم عليه السلام، فنجد أن رمي الجمرات، هو كما يقول المفسرون إنها مرتبطة برمي سيدنا إبراهيم لإبليس بالحجارة عندما حاول ثنيه وتثبيطه عن القيام بما أمره الله به في الرؤيا، وهو ذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، ولذلك يقوم المسلمون برمي الجمرات، وهي دلالة على رفض صفات الشر ونبذها ورميها والانقياد لله الواحد القهار، فهي براءة من الشيطان وحزبه ووسوسته وكل ما يدعون له من الضلال.

ونجد في مشهد آخر وهو السعي بين الصفا والمروة، علاقة بسيدنا إبراهيم عندما ترك زوجته هاجر عليها السلام وابنها إسماعيل عليه السلام في مكة في واد غير ذي زرع في أرض قاحلة جدباء، فأخذت سيدتنا هاجر عليها السلام تركض بين تلين وهما الصفا والمروة لتصعد عليهما وترى هل من أناس يأتون فتستسقيهم وتشرب هي وابنها الرضيع، ولكن الله فجر بئر زمزم من تحت قدميه، لتكون بئرا خالدة ذات بركة وشفاء، فلذلك يسعى الحجاج بين الصفا والمروة.