تاجِرات ظفار
السبت / 2 / ذو الحجة / 1443 هـ - 18:46 - السبت 2 يوليو 2022 18:46
ثلاث مناسبات الأولى والثانية عالميتان والثالثة محلية يجري الاحتفال فيها بالمرأة، وأكاد أجزم أن المناسبتين الأولى والثانية تمران على المرأة التاجرة في العصر الحديث في ظفار مرور الزاهد. المناسبة الأولى هي الاحتفال بالثامن من مارس من كّل سنة، فهو اليوم العالمي للمرأة Women Day. وأسباب ذلك التخصيص يعرفها الجميع. والمناسبة الثانية؛ الاحتفال بيوم العمال العالمي International Workers Day ويجري الاحتفال به في الأول من شهر مايو من كل سنة في أغلب دول العالم. أما المناسبة الثالثة والأخيرة فهي المحلية، وتخص يوم السابع عشر من شهر أكتوبر الذي تحتفل فيه عُمان بمساهمات المرأة العمانية المشاركة في بناء الوطن والدفع مع الرجل بعجلة التنمية إلى التقدم من مختلف الأدوار والوظائف وفي جميع الحقول والجهات.
إذا ما حاولت تأمل صورة المرأة التاجرة التقليدية في ظفار فهي صورة لم تعد موجودة. ظهرت في السبعينيات واختفت في أوائل التسعينيات. التاجرة التقليدية كانت تتميز بثيابها الملونة، كان اللباس يتكون من ثوب أبو ذيل والسروال واللوسي والغشوة والغَفنة، أما زينة وجهها فكانت تقتصر في ذلك الزمان على الكحل والرنج وخشفة الأنف، وعند استعدادها للقيام بوظيفتها كتاجرة، كانت تخرج من بيتها تحمل فوق رأسها 'البخشة' المليئة بالثياب الملونة لتدور بها بين البيوت تنادي في الحارات والسكك معلنة عن بضاعتها، ويقال إن التاجرة كانت تعرف البيوت وساكنيها بصورة جيدة، لدرجة أنها كانت إذا ما تعبت من التجوّل تدخل عند بيت تعرف أهله فتأكل وتستريح ثم تغادرهم، وكان المحتاجون للشراء يبتاعون منها وهناك من يدفع Cash، في مقابل من يشتري بالتقسيط، وتظل في عملها على فترتين؛ الأولى منذ شروق الشمس إلى الظهر، والثانية منذ العصر إلى موعد أذان صلاة المغرب.
يعود غياب صورة للتاجرة التقليدية في ظفار لأسباب منها: عدم وجود أرشيف حقيقي يؤرخ لهن، إلا من حكايات شفاهية تُحكى عنهن في مناسبات ضيقة جدا. عدم وجود مراكز للدراسات المهتمة بأبحاث الأنثربولوجيا الثقافية. قلة اكتراث الفنون والدراما العمانية بتناول هذه الشريحة، وفي هذا السياق، يمكن الإشارة على عجالة إلى تجربة فنية يتيمة جدا لفنانة تشكيلية من ظفار هي نوال بنت سعيد عتيق التي ركزت في بعض لوحاتها الفنية -تيسر لي مشاهدتها- على تناول نماذج النساء التاجرات في مجال بيع الخبز الظفاري.
ومن محاسن السُعد أن أجد فقرة منشورة ضمن بحث مطوّل بمجلة نزوى للباحثة والفنانة التشكيلية اليمنية آمنة النصيري تطرقت فيها إلى الفن التشكيلي في عمان، فكتبت ما يلي: 'وتنفرد الفنانة نوال... بتكويناتها ذات النسيج الزخرفي الذي تتداخل فيه الشخوص بالأشياء المادية في بناء فني يُخرجها من قوالب الفن الواقعي. موضوعات نوال مستلهمة من البيئة المحلية، وفيها تكريس للقيم الفنية المحتواة في التراث العماني'.
إن الأسباب التي سقناها آنفا حول غياب صورة للتاجرة التقليدية في ظفار تتضافر معًا لتخلق لحظة معتمة للغاية؛ فالتعويل على الذاكرة لا يصمد كثيرًا بفعل الزمن، ولغياب التخطيط وبناء منظومة عمل بحثي متراكم، لا سيما، أن النساء الكبيرات اللاتي يحفظن التاريخ القديم آخذات بالنقص والانقراض، وإذّا لم يتجرأ أحد المهتمين أو المختصين وفي أحسن الأحوال أحد الهواة الاهتمام بهذا الجانب ونبش الماضي حوله فلن يكترث الكسول للاهتمام بتراث محلي آخذ في الذبول والمحو، وهو تراث ثقافي ظل لعدة عقود في ظفار أحد أسس تشكيل نظام علاقات العمل الإنتاجية للعائلات ومرتكز لمنظومة البنية التنموية للمشاريع الصغيرة ذات الهوية الاجتماعية الثقافية، وفي تجاهل المناسبتين العالميتين، ما يجعل الثقافة المحلية تحتكم إلى معايير لا تناقش.
أظنني كنت سعيدة الحظّ عندما وصلني منذ سنة عبر الواتساب صورة لتاجرة تقليدية من ظفار. وقد جرفني الحنين إلى السؤال عن صاحبات هذه المهنة وعن أسمائهن ومن حُسن الطالع أن جرى تزويدي بأسماء لنساء امتهنّ هذه المهنة في الفترة الزمنية المشار إليها في بداية المقال، وللتوثيق سأكتفي بذكرهن لعلّ المقال يفتح البحث في وقت آخر للباحثين أو لي لتخصيص بحث أعمق، وأما أسماء التاجرات فهن: 'عيشة بنت جُعرة، ومانية بن عمريت، وبشارة بنت العوادي، ويقين بنت سعيد، وسعيدة بنت آجهام، ومانعة بنت خميس بردحان، وسلامة بنت فتح شروبة المعلم، وبنت الحيمر وبشارة بنت سُمير'. تشكلّت هوية هؤلاء التاجرات من منطلقات اجتماعية واضحة؛ فلم يكنّ متعلمات ليخترن مهنة أخرى، فالظروف الموضوعية للمجتمع آنذاك في ظفار قد دفعتهن إلى ذلك. إن ظفار في التاريخ القديم ونقلا عن موقع صوت عمان https://www.omvo.org تاريخ 10/07/2015م قد لعبت 'دورا حضاريا فاعلا في التاريخ القديم بحكم كونها مصدرا أساسيا للبان والصمغ اللذين كانا في مقدمة السلع التي تحظى باهتمام كبير في العالم القديم...'، ونظرا لوجود أشجار اللبان والصمغ والتجارة القائمة عليه، فقد كانت تتطلّب تحضيرات ومراحل معينة يقوم بها الرّجال في الغالب لأجل تنقيته وتنظيفه وتعبئته في 'الجواني' لشحنه والسفر به إمّا عن طريق الصحراء أو السفن البحرية، وإزاء ذلك كله وجدت التاجرة التقليدية في بيع الثياب والعطور والزيوت تجارتها المربحة، وقد تطور شِّق آخر من هذه التجارة النسائية لدى الأجيال الحديثة، فصار كل بيت في ظفار تمتهن نساؤه صناعة البخور بجميع النكهات والعطور الغالية والرخيصة الثمن، كما تطوّر الحال بين الأجيال إلى المنافسة فيما بينهن. ويشير موقع عمان إلى ذلك بالتأكيد على هذه الجزئية قائلا: 'لم يكتف العمانيون بتصدير اللبان وإنما أضافوا إليه الشحوم وصنعوا منه البخور الذي كان يُستخدم في الطقوس الدينية والعلاج والتطيب وشكَّل هذا المنتج أهمية كبيرة في حركة التجارة خلال العصر الحجري الحديث..'.
للبان أسطورته وحكاياته الغرائبية، وحول أسطورته وطقس الحياة في صحراء ظفار يحتفي السرد بتمجيد القصص والمرويات الخفية، وتعدّ رواية (موشكا) للكاتب محمد الشحري خير تمثيل على حياة شجرة اللبان والصمغ، وقيمتها المعنوية والمادية في حياة أهل ظفار، حيث تمكن محمد الشحري من بناء سرد تخييلي غرائبي آسر تتصارع فيه الشخصيات بين قيم متناقضة كالقوة والجُّبن، والكرم والبخل، والشجاعة والنخوة، والنذالة والطمع، والخذلان والسفه، والعشق الخادع الملتهب، لتصبح أسماء الشخصيات الطالعة من البيئة كأنها أجزاء تحاكي فعل الحياة، لتثبيت أسباب وجود الحياة على هذه الأرض.
والناظر إلى التاجرات التقليديات يسأل: من أين كن يحصلن على المال؟ لم يكن الحصول عليه مسألة صعبة. ففي ظل بيئة حاضنة لتجارة اللبان والصمغ من الطبيعي وجود تجار وعائلات كبيرة كانت تقرض المال، فيشار مثلا إلى التجار: 'بن رمدان، والعسكر وعبدالرب الضب'، فسهل ذلك على التاجرة 'يقين' لأن تكون أول تاجرة تسافر إلى دبي لجلب بضاعتها من هناك، كما استطاعت تأسيس دكان يخصها للبيع فيه، ولا شك أن الامتداد الجغرافي لظفار وولاياتها قد أتاح فرص وجود أكثر من تاجرة في الساحل والجبل؛ تاجرات تخصصن في بيع الثياب، وأخريات كن في بداية الطريق يتعلّمن بيع (الكحل، واللبان، والعطور، ورنج القراص، والبناجر من البلاستيك الملون) وكلها زينة للمرأة.
كانت هناك أيضا تاجرات من نوع آخر، لكن لم ينتشرن بصورة كبيرة، وتظل الكتابة عنهن محفوفة بالنقص؛ كالغائصات على الصفيلح 'رحت بنت سعد، وعسل بنت بخيت رحمها الله' والمعروف علميا باسم Haliotis Mariae أو 'أذن البحر'، وتاجرات أخريات عملن في خياطة 'دشاديش' الرجال 'خريف بنت فضل الله'، وخياطة ثوب أبو ذيل أو السنجاف 'خريف بنت نصيب حركون'. وإذا كانت هذه المهنة باتت تقدمها القوى العاملة الهندية، فإن تجارة صنع المباخر بمختلف الأحجام، وصناعة الخبز الظفاري بنوعيه (الكعك الرقيق والثخين) ما تزال مقتصرة على التاجرات الظفاريات، على الرّغم من وجود مخابز آلية وقوى عاملة عربية منافسة! ويقال إن أول من بدأت في بيع الخبز تدعى 'عنبراذين بنت نصيب'، وكانت بعض بيوت صلالة الجديدة وحارة الملح تحديدا يتوفر فيها تنور تقليدي، وقديما كانت الخبّازات يتفقن على خبزهن جماعة، فيبدأن بخبز فلانة حتى ينتهين، ثم يخبزن للثانية، ولم تختف ظاهرة التنور من البيوت إلا مع انتشار البنيان والتوسع في ساحات الغرف.
في ظل بضاعة النساء التقليدية القادمة من اليمن والهند أو المستخرجة من ظفار، حتى أوائل التسعينيات، لم تكن التاجرات الأمّيات يعرفن أفكار العلم الحديثة ولا مفهوم التنمية البشرية ولا مقومات بناء الشخصية الناجحة، لكنهن كنّ مسؤولات عن بيوت وأسر، ويُقدرن معنى هذه المسؤولية، فأثبتن قدرتهن على النزول إلى الشارع والمنافسة وإثبات الذات.
إذا ما حاولت تأمل صورة المرأة التاجرة التقليدية في ظفار فهي صورة لم تعد موجودة. ظهرت في السبعينيات واختفت في أوائل التسعينيات. التاجرة التقليدية كانت تتميز بثيابها الملونة، كان اللباس يتكون من ثوب أبو ذيل والسروال واللوسي والغشوة والغَفنة، أما زينة وجهها فكانت تقتصر في ذلك الزمان على الكحل والرنج وخشفة الأنف، وعند استعدادها للقيام بوظيفتها كتاجرة، كانت تخرج من بيتها تحمل فوق رأسها 'البخشة' المليئة بالثياب الملونة لتدور بها بين البيوت تنادي في الحارات والسكك معلنة عن بضاعتها، ويقال إن التاجرة كانت تعرف البيوت وساكنيها بصورة جيدة، لدرجة أنها كانت إذا ما تعبت من التجوّل تدخل عند بيت تعرف أهله فتأكل وتستريح ثم تغادرهم، وكان المحتاجون للشراء يبتاعون منها وهناك من يدفع Cash، في مقابل من يشتري بالتقسيط، وتظل في عملها على فترتين؛ الأولى منذ شروق الشمس إلى الظهر، والثانية منذ العصر إلى موعد أذان صلاة المغرب.
يعود غياب صورة للتاجرة التقليدية في ظفار لأسباب منها: عدم وجود أرشيف حقيقي يؤرخ لهن، إلا من حكايات شفاهية تُحكى عنهن في مناسبات ضيقة جدا. عدم وجود مراكز للدراسات المهتمة بأبحاث الأنثربولوجيا الثقافية. قلة اكتراث الفنون والدراما العمانية بتناول هذه الشريحة، وفي هذا السياق، يمكن الإشارة على عجالة إلى تجربة فنية يتيمة جدا لفنانة تشكيلية من ظفار هي نوال بنت سعيد عتيق التي ركزت في بعض لوحاتها الفنية -تيسر لي مشاهدتها- على تناول نماذج النساء التاجرات في مجال بيع الخبز الظفاري.
ومن محاسن السُعد أن أجد فقرة منشورة ضمن بحث مطوّل بمجلة نزوى للباحثة والفنانة التشكيلية اليمنية آمنة النصيري تطرقت فيها إلى الفن التشكيلي في عمان، فكتبت ما يلي: 'وتنفرد الفنانة نوال... بتكويناتها ذات النسيج الزخرفي الذي تتداخل فيه الشخوص بالأشياء المادية في بناء فني يُخرجها من قوالب الفن الواقعي. موضوعات نوال مستلهمة من البيئة المحلية، وفيها تكريس للقيم الفنية المحتواة في التراث العماني'.
إن الأسباب التي سقناها آنفا حول غياب صورة للتاجرة التقليدية في ظفار تتضافر معًا لتخلق لحظة معتمة للغاية؛ فالتعويل على الذاكرة لا يصمد كثيرًا بفعل الزمن، ولغياب التخطيط وبناء منظومة عمل بحثي متراكم، لا سيما، أن النساء الكبيرات اللاتي يحفظن التاريخ القديم آخذات بالنقص والانقراض، وإذّا لم يتجرأ أحد المهتمين أو المختصين وفي أحسن الأحوال أحد الهواة الاهتمام بهذا الجانب ونبش الماضي حوله فلن يكترث الكسول للاهتمام بتراث محلي آخذ في الذبول والمحو، وهو تراث ثقافي ظل لعدة عقود في ظفار أحد أسس تشكيل نظام علاقات العمل الإنتاجية للعائلات ومرتكز لمنظومة البنية التنموية للمشاريع الصغيرة ذات الهوية الاجتماعية الثقافية، وفي تجاهل المناسبتين العالميتين، ما يجعل الثقافة المحلية تحتكم إلى معايير لا تناقش.
أظنني كنت سعيدة الحظّ عندما وصلني منذ سنة عبر الواتساب صورة لتاجرة تقليدية من ظفار. وقد جرفني الحنين إلى السؤال عن صاحبات هذه المهنة وعن أسمائهن ومن حُسن الطالع أن جرى تزويدي بأسماء لنساء امتهنّ هذه المهنة في الفترة الزمنية المشار إليها في بداية المقال، وللتوثيق سأكتفي بذكرهن لعلّ المقال يفتح البحث في وقت آخر للباحثين أو لي لتخصيص بحث أعمق، وأما أسماء التاجرات فهن: 'عيشة بنت جُعرة، ومانية بن عمريت، وبشارة بنت العوادي، ويقين بنت سعيد، وسعيدة بنت آجهام، ومانعة بنت خميس بردحان، وسلامة بنت فتح شروبة المعلم، وبنت الحيمر وبشارة بنت سُمير'. تشكلّت هوية هؤلاء التاجرات من منطلقات اجتماعية واضحة؛ فلم يكنّ متعلمات ليخترن مهنة أخرى، فالظروف الموضوعية للمجتمع آنذاك في ظفار قد دفعتهن إلى ذلك. إن ظفار في التاريخ القديم ونقلا عن موقع صوت عمان https://www.omvo.org تاريخ 10/07/2015م قد لعبت 'دورا حضاريا فاعلا في التاريخ القديم بحكم كونها مصدرا أساسيا للبان والصمغ اللذين كانا في مقدمة السلع التي تحظى باهتمام كبير في العالم القديم...'، ونظرا لوجود أشجار اللبان والصمغ والتجارة القائمة عليه، فقد كانت تتطلّب تحضيرات ومراحل معينة يقوم بها الرّجال في الغالب لأجل تنقيته وتنظيفه وتعبئته في 'الجواني' لشحنه والسفر به إمّا عن طريق الصحراء أو السفن البحرية، وإزاء ذلك كله وجدت التاجرة التقليدية في بيع الثياب والعطور والزيوت تجارتها المربحة، وقد تطور شِّق آخر من هذه التجارة النسائية لدى الأجيال الحديثة، فصار كل بيت في ظفار تمتهن نساؤه صناعة البخور بجميع النكهات والعطور الغالية والرخيصة الثمن، كما تطوّر الحال بين الأجيال إلى المنافسة فيما بينهن. ويشير موقع عمان إلى ذلك بالتأكيد على هذه الجزئية قائلا: 'لم يكتف العمانيون بتصدير اللبان وإنما أضافوا إليه الشحوم وصنعوا منه البخور الذي كان يُستخدم في الطقوس الدينية والعلاج والتطيب وشكَّل هذا المنتج أهمية كبيرة في حركة التجارة خلال العصر الحجري الحديث..'.
للبان أسطورته وحكاياته الغرائبية، وحول أسطورته وطقس الحياة في صحراء ظفار يحتفي السرد بتمجيد القصص والمرويات الخفية، وتعدّ رواية (موشكا) للكاتب محمد الشحري خير تمثيل على حياة شجرة اللبان والصمغ، وقيمتها المعنوية والمادية في حياة أهل ظفار، حيث تمكن محمد الشحري من بناء سرد تخييلي غرائبي آسر تتصارع فيه الشخصيات بين قيم متناقضة كالقوة والجُّبن، والكرم والبخل، والشجاعة والنخوة، والنذالة والطمع، والخذلان والسفه، والعشق الخادع الملتهب، لتصبح أسماء الشخصيات الطالعة من البيئة كأنها أجزاء تحاكي فعل الحياة، لتثبيت أسباب وجود الحياة على هذه الأرض.
والناظر إلى التاجرات التقليديات يسأل: من أين كن يحصلن على المال؟ لم يكن الحصول عليه مسألة صعبة. ففي ظل بيئة حاضنة لتجارة اللبان والصمغ من الطبيعي وجود تجار وعائلات كبيرة كانت تقرض المال، فيشار مثلا إلى التجار: 'بن رمدان، والعسكر وعبدالرب الضب'، فسهل ذلك على التاجرة 'يقين' لأن تكون أول تاجرة تسافر إلى دبي لجلب بضاعتها من هناك، كما استطاعت تأسيس دكان يخصها للبيع فيه، ولا شك أن الامتداد الجغرافي لظفار وولاياتها قد أتاح فرص وجود أكثر من تاجرة في الساحل والجبل؛ تاجرات تخصصن في بيع الثياب، وأخريات كن في بداية الطريق يتعلّمن بيع (الكحل، واللبان، والعطور، ورنج القراص، والبناجر من البلاستيك الملون) وكلها زينة للمرأة.
كانت هناك أيضا تاجرات من نوع آخر، لكن لم ينتشرن بصورة كبيرة، وتظل الكتابة عنهن محفوفة بالنقص؛ كالغائصات على الصفيلح 'رحت بنت سعد، وعسل بنت بخيت رحمها الله' والمعروف علميا باسم Haliotis Mariae أو 'أذن البحر'، وتاجرات أخريات عملن في خياطة 'دشاديش' الرجال 'خريف بنت فضل الله'، وخياطة ثوب أبو ذيل أو السنجاف 'خريف بنت نصيب حركون'. وإذا كانت هذه المهنة باتت تقدمها القوى العاملة الهندية، فإن تجارة صنع المباخر بمختلف الأحجام، وصناعة الخبز الظفاري بنوعيه (الكعك الرقيق والثخين) ما تزال مقتصرة على التاجرات الظفاريات، على الرّغم من وجود مخابز آلية وقوى عاملة عربية منافسة! ويقال إن أول من بدأت في بيع الخبز تدعى 'عنبراذين بنت نصيب'، وكانت بعض بيوت صلالة الجديدة وحارة الملح تحديدا يتوفر فيها تنور تقليدي، وقديما كانت الخبّازات يتفقن على خبزهن جماعة، فيبدأن بخبز فلانة حتى ينتهين، ثم يخبزن للثانية، ولم تختف ظاهرة التنور من البيوت إلا مع انتشار البنيان والتوسع في ساحات الغرف.
في ظل بضاعة النساء التقليدية القادمة من اليمن والهند أو المستخرجة من ظفار، حتى أوائل التسعينيات، لم تكن التاجرات الأمّيات يعرفن أفكار العلم الحديثة ولا مفهوم التنمية البشرية ولا مقومات بناء الشخصية الناجحة، لكنهن كنّ مسؤولات عن بيوت وأسر، ويُقدرن معنى هذه المسؤولية، فأثبتن قدرتهن على النزول إلى الشارع والمنافسة وإثبات الذات.