ثقافة

«نظريات معاصرة» في النقد الأدبي

مرفأ قراءة...

Untitled-1
 
Untitled-1
- 1 -

أعادتني وقائع المؤتمر الدولي الذي انعقد في القاهرة على مدار يومي 26، 27 يونيو المنصرم، على شرف المرحوم الناقد الدكتور جابر عصفور بعنوان (الملتقى الدولي... الإنجاز والتنوير) إلى ذكرياتٍ لا تنتهي قبل وأثناء وبعد دراستي وتخصصي في النقد على يدي جابر عصفور رحمه الله..

ما أكثر ما أحمله من ذكريات؛ ما زال لديّ الكثير والكثير لأقوله عن هذا الناقد والمفكر والأستاذ الذي لعب أكبر الأثر وأعمقه في تكويني العقلي والنقدي؛ بالتأكيد لست وحدي في مدى هذا التأثر الذي أعتز به وأفخر، هناك كثيرون في مصر وفي العالم العربي ممن تأثروا بعلم ونقد ودقة وانضباط جابر عصفور ومنهجيته الصارمة؛ وقدراته التحليلية الفذة سواء في تناوله للنصوص الإبداعية (شعرًا وقصة ورواية ومسرحية) أو في قراءاته للنصوص النقدية التي دشن بها ومن خلالها 'نقد النقد' في الثقافة العربية بصورة غير مسبوقة؛ انضباطا ومنهجا ورؤية.

وقد كتبت سابقًا عن جهود جابر عصفور في تأصيل نقد النقد في الثقافة العربية، متخذا من كتابه المرجع القيم «قراءة النقد الأدبي» نموذجًا؛ وقد شرفني -رحمه الله- باختياري لتقديم الطبعة التي صدرت من الكتاب قبل ثلاثة أعوام عن دار المعارف؛ مستعيدًا تقليدا علميا ومعرفيا أصيلا في الثقافة المصرية، بأن يقوم تلميذ الأستاذ بالتقديم لعمل من أعمال أستاذه؛ عارضا ومحللا، وناقدًا أيضًا، في إثبات عملي وناصع على قيمة التواصل العلمي من ناحية، وعلى احترام قيمة الاختلاف والتجاوز والبناء على ما قدمه الأساتذة من ناحية ثانية.

وقد ذكرتني الطبعة الجديدة من كتاب «نظريات معاصرة» التي وجدتها على أرفف المعرض المصاحب للمؤتمر في بهو المجلس الأعلى للثقافة بإسهام جابر عصفور الأصيل المكين في عرض وتأصيل وتحليل نظريات النقد المعاصر وتطوراته وانتقالاته الكبرى في أوروبا وأمريكا، من خلال محاضراته التي كان يلقيها على طلاب قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة؛ والتي مثلت النواة الخصبة لهذا الكتاب الذي نتحدث عنه في هذه الحلقة من (مرفأ قراءة).

- 2 -

نعم. تداعت الذكريات، وانسالت بنعومة ويسر، وأنا أطالع الطبعة الجديدة من الكتاب الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقد ظهرت الطبعة الأولى منه عام 1998 ضمن سلسلة (الأعمال الفكرية) في مشروع (مكتبة الأسرة)، ومن حينها لم يُطبع هذا الكتاب (باستثناء طبعة وحيدة صدرت عن دار المدى ببيروت) رغم أهميته ومعالجته لأهم نظريات النقد الأدبي المعاصرة، في تأصيلها الفلسفي والمعرفي.

أذكر حينما كنتُ في الفرقة الثالثة بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، وكان لنا أصدقاء ممن يكبروننا سنًا من الدفعات الأسبق، خاصة من المتفوقين، والمكلفين كمعيدين بالقسم، منهم الصديق العزيز الدكتور محمود عبد الغفار (أستاذ مساعد الأدب والنقد، والأدب المقارن حاليًا) كنا نتحدث كثيرًا عن الدكتور جابر، وعن الفترة التي كان فيها مخلصًا ومتفرغًا للتدريس، قبل انشغاله في مسؤوليات أخرى خارج الجامعة، وأنه كان نشطا في التدريس والمحاضرة للدرجة التي كان يمكن أن يحاضر فصلا دراسيا كاملا لا يفوت محاضرة بل يزيد عليها، وترامت روايات هنا ومرويات من هناك، أن للدكتور جابر نصا مجموعا لهذه المحاضرات الثمينة، قام بكتابتها وتنقيحها بعض الطلاب المتفوقين وأنهم كانوا حريصين عليها ويضنون بها على غيرهم من أقرانهم.

وكانت المفاجأة الكبرى والهدية التي ما زلتُ أعتبرها من أهم وأثمن العطايا العلمية في تاريخ انتسابي لهذه الكلية، ولهذا القسم، وقوع نسخة من كشكول محاضرات (مذاهب النقد المعاصر) بين يدي.. وهي التي تحوي خلاصة ما ألقاه الدكتور جابر عصفور من دروس على طلاب الفرقة الرابعة في التسعينيات من القرن الماضي.. وكان هذا الكشكول الذهبي مفتاحًا سحريًّا لقراءة وفهم ما كان يمثِّل لي في ذلك الوقت ألغازًا وطلاسم لا تقرأ ولا تفهم! (ولم أحزن في حياتي على فقدان شيء مثلما حزنت على فقدان هذه النسخة المصورة من المحاضرات).

- 3 -

عندما عكفت على قراءة تلك المحاضرات بتأن وجدتني أفهم وأستوعب كل مبادئ وأفكار مدارس النقد الحديثة والمعاصرة، دون أي معاناة.. شيئا فشيئا بدأت مغالق هذه النظريات والتيارات النقدية في الانزياح والانفتاح شيئا فشيئا، حتى تبدد كل الضباب الذي كان يحيط بها، ويحجب رؤيتها، ويعيق التعرف على تفاصيلها، سواء فيما يتعلق بسياقها التاريخي والثقافي، أو فيما يمايزها عن غيرها من أفكار تتعلق بالمنهج أو الرؤية أو الأداة التي تصل بدرس الأدب والأنواع الأدبية.. وانفتحت الأبواب على مصراعيها لدراسة نظرية التعبير، نظرية الانعكاس، الشكلانية الروسية، والنقد الجديد، والبنيوية اللغوية، والبنيوية الأدبية، والمدارس التي تخلقت في إطار ما عرف بـ علم اجتماع الأدب.. الماركسية التقليدية، الواقعية الاشتراكية، ونقد جورج لوكاتش، والبنيوية التوليدية للوسيان جولدمان، وصولا إلى تيارات الحداثة وما بعدها من بنيوية شتراوس ورولان بارت وحتى تفكيك جاك دريدا...

وأشهد الله أنه بعد قراءتي لهذه المحاضرات، ودون مبالغة، فإنني قد قرأت ما يزيد على 100 كتابٍ ومرجع، مؤلفٍ ومترجم، في تيارات ومذاهب النقد المعاصر، فلم أجد ما يُضارع شرح وتبسيط وتحليل جابر عصفور (دون الإخلال بالعمق والقوام الأساسي للأفكار المعروضة في سياقها الكلي، وترابطها ببعضها بعضًا).

كانت لديه مقدرة فائقة ومدهشة على هضم كل هذه التيارات وتمثلها في أصولها، ونصوصها التأسيسية، والوعي بالسياقات المعرفية والفلسفية والتاريخية التي أنتجتها؛ بل إنني قد فوجئتُ بعد ذلك بأنه تقريبًا لم يترك مدرسة ولا اتجاها من هذه الاتجاهات أو تيارًا من هذه التيارات دون أن يكتب عنها تأصيلًا نظريًا أو يُترجم نصًا من نصوصها التأسيسية.

وهكذا وجدتني أربط بين كتبه المهمة: «نظريات معاصرة»، الذي حوَى فصولًا رائعة عن نظرية التعبير، والانعكاس، والواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية، فضلًا على ترجماته لدراسات رصينة عن البنيوية والماركسية والنقد الأدبي. وكتابه «قراءة النقد الأدبي» الذي يضم فصولًا عميقة في نقد النقد (من أهمها على الإطلاق دراستاه الرائعتان عن مفهوم نقد الشعر عند محمد مندور، ونقاد نجيب محفوظ).

- 4 -

لم يترك جابر عصفور مصطلحًا أو مفهومًا من مفاهيم النقد الحديث أو 'النقد الحداثي' دون أن يتناوله بالتنظير والشرح والتطبيق أيضًا. ولقد تعرفت منه تفصيلًا وعمليًا على مصطلحات تأسيسية؛ مثل 'رؤية العالم'، و'الخطاب'، و'النص' و'العلاقات المحايثة'، و'الثنائيات المتقابلة'، والمحاور الأفقية والرأسية، والآني والتاريخي، وأفق التوقعات، و'النظرية' ونقضها .. إلخ.

ومنه تعلمتُ وتشربتُ أن 'المساءلة المحايدة الحرة هي سر الموضوعية الحيوية لفكرة المنهج. وأن مفتاح السلامة المنهجية لأي 'بحث' هو قدرة الباحث المزدوجة على أن يُسائل موضوعه، في الوقت الذي يسائل نفسه ومنهجه، لكي يتأكد من حياده المنهجي من ناحية، وموضوعية هذا الحياد من ناحية أخرى، وذلك بالمعنى المستخدم في العلوم الإنسانية، وهو المعنى الذي يقوم على مبدأ أن الباحث هو جزء من موضوع البحث. وهذا هو الفارق الجذري بين معنى الموضوعية، في العلوم الطبيعية، ومعناه في العلوم الإنسانية والاجتماعية'.

أما الكتاب -الذي انبنى على المحاضرات المشار إليها في صدر المقال- فقد عالج أربع نظريات كبرى أو اتجاهات شهيرة في النقد المعاصر؛ والتي كان لها النصيب الأوفى من التأثر بها في نقدنا العربي. هذه النظريات الأربع على الترتيب: نظرية التعبير (الرومانسية)، ونظرية الانعكاس (الواقعية)، وتيار البنيوية التوليدية (لوسيان جولدمان)، وأخيرا تيار البنيوية الشعرية (أو اللغوية تمييزًا لها عن البنيوية التوليدية ذات المنحى الاجتماعي التاريخي؛ وهي النزعة المضادة تماما للبنيوية السكونية الثبوتية اللا زمانية والمخاصمة للتاريخانية).

وقد تناول جابر عصفور كل نظرية من هذه النظريات في بعدها التاريخي والفلسفي والمعرفي، فلم يكن قصده تلخيصها أو عرضها عرضا مبتسرا مدرسيا، بل كان حريصا على ربط كل نظرية بجذرها الفلسفي في الفكر الغربي، وتجلياتها المعرفية في العلوم الإنسانية المختلفة، وصولا إلى دوائر اشتغالها النقدي وفعاليتها النقدية بما قدمته من طرح مغاير في الرؤية أو في تأسيسها لمصطلحاتها ومفاهيمها الخاصة..