مربعات الإقصاء مقصلة الحوار
الاثنين / 27 / ذو القعدة / 1443 هـ - 20:08 - الاثنين 27 يونيو 2022 20:08
وضع المخالف أو المختلف في مربع اتهام بقصد إقصائه، وكتم صوته ليس أمرًا طارئًا ولا مستحدثًا عبر التاريخ، فقد عُرِفت هذه الآلية من آليات الإقصاء وإسقاط مصداقية المستهدف منذ قرون، ومن هذه المربعات القديمة: الزندقة والشعوبية والمجون والكفر، والإلحاد والمروق.
كثيرًا ما كانت هذه المربعات الإقصائية تتصل اتصالًا وثيقًا بتدخل أصحابها في الشأن السياسي خصوصًا أو الشأن العام تحديدًا ليحملوا بعدها ألقابًا شتى كالملحد والكافر والزنديق والمُرجف وغيرها من نعوت ماثلة أو مبتدعة، وقد تتخذ حملات الإقصاء والتجريم والتحريم أشكالًا مختلفة، كما أنها تتلبس أهدافًا شتى أهمُها إسقاط المصداقية، وهدم أثر الشخصية وحضورها العام، لكن بينها كذلك يقع الإلهاء كهدف آخر يتمثل في توجيه، وشغل الناس بحملات إقصائية مفتعلة القصد منها: تشتيت تفكير العامة عن أمر أهم لتتبدى شخوص معينة بين مهاجم ومدافع؛ فتنجح بعدها حملة التشتيت والإلهاء عبر التضحية بقرابين واقعية أو افتراضية مختلقة ينتهي دورها بانتهاء الحملة دون عناية بالتجني عليها نفسيا ومجتمعيًا.
وما زلنا نتابع يوميًا -رغم كل وسائل المعرفة المتاحة والتواصل الدائمة- مواكب الإقصاء والتهميش ماثلة دون وعي أو تدبر في التلقي والتحليل، فضلًا عن تبيّن المصطلح قبل إطلاقه أو إلصاقه بكل مختلف أو مختلفة فكريًا. ومن بين مربعات الإقصاء التي نشطت مؤخرًا عبر منصات التواصل الاجتماعي «الإرهاب» ثم «التطرف» ثم «الإلحاد» وأخيرًا «النسوية» حتى صار المراهقون يتداولون مصطلحات كالإلحاد والنسوية راجمين بها كل من يختلف معهم في شيء، أو ربما تصل أن تجد أحدهم يرجم أختا صغرى -طلبت من أخ أكبر ثقة أو حوارا– بالنسوية؛ إذ ترسّب لديه من ثقافة الواتس اب والتويتر أن النسوية شبح يحرض النساء ضد الأهل والمجتمع ويقودها للإلحاد، فيبحث ويتقصى جاهدًا عن المجموعات التي غذّت عقلها بالتمرد، وفكرها بالشذوذ ولا يكلف نفسه عناء حوار يبنيه وأخته، أو بحث يجريه عما يفكر به أو يخشاه.
لا ينبغي التقليل من خطورة تيارات فكرية قد تقود لتقويض تماسك الأسرة والمجتمع بل والوطن بشكل أعم إذا ما تجاهلناها أو أعرضنا عنها، كما لا يمكن استخدام المصطلحات جزافًا لبناء درع نتوهم به ومعه حماية ثوابتنا العقائدية والقيمية والاجتماعية، فليست هشة حد السعي لحمايتها بالإقصاء والتهميش والانفعال والتجريح.
وإذا ما فكرنا في الوسيلة المثلى لبناء وعي مجتمعي بنّاء تجاه قضايا قد تمس الثوابت فلا أنجع من المعرفة بكل تفاصيلها، ثم الحوار بكل مستوياته؛ الحوار الأسري، الحوار المجتمعي، الحوار المؤسساتي، والحوار التفاعلي العام عبر منصات التواصل الاجتماعي المفتوحة.
ينبغي مجابهة الفكرة بالفكرة، والحجة بدحضها بحجة تماثلها، والإنكار ببرهان يقيني يقوضه، والسلوك الشاذ أو العدائي بتشريع القوانين وسن الجزاءات التي تحد منه دون فضائحية مفتعلة أو تهميش مقصود؛ إذ قد ينتمي هذا المخالف إلى فئة عمرية أو نفسية أو اجتماعية تتسم بالتحوّل والتبدل، فالأولى حينها الاحتواء دون تجريم، أو الجزاء دون تقزيم أو تحطيم، علّه يعود بعدها لينتظم في العقد المجتمعي الذي أحسن احتواءه بعد شتات، وأجاد توجيهه بعد خطأ وانحراف.
أما ما يحدث من استعداء جماعي عبر توظيف مصطلحات لا يعرف معظم متداوليها مدلولاتها ولا استخدامها في حملات هجومية لن يصدر عنها رعاء ولن يروى معها ظامئ، بل قد تزيد الطين بلة إذا اتسّعَ الخرق على الراتق حين تدفعُ الشبابَ لتبني الرأي المختلف مهما كان شاذًا بغية التميز وإن كان سلبيًا، وأكثر من ذلك حين ينتج عن هذه الحملات تشهير غير مبرر، وتحميل البريء جريرة المذنب فيقع البعض في دائرة التجريم، وتقييد الحرية بحجة الحماية من شذوذ الفكر وانحراف السلوك وهو من كل ذلك براء، وإن لم يكن براء فليس الإقصاء والرجم بالإلحاد هو سبيل استيعابه أو توجيهه.
تدافع الأفكار وتحاور التيارات المختلفة ظاهرة حضارية تعكس قدرة المجتمعات على استيعاب المختلف والبناء على مختلفاتها سعيًا لصنع صورة إجمالية للمتكامل عبر اختلافه، صورة ترقى لتحمل اسم مجتمع، بل واسم دولة. أما التراشق بنعوت التجريح الشخصي والعائلي، وتناول الذات بعيدًا عن مناقشة الفكر فلا يعكس إلا هزال الوعي، وضعف القدرة على استيعاب المتغيرات، وحوار المختلف سعيًا للحقيقة، ووصولًا لثبات القيم بتجاوز التحديات فكريًا و أخلاقيًا.
حِصّة البادي أكاديمية وكاتبة عمانية
كثيرًا ما كانت هذه المربعات الإقصائية تتصل اتصالًا وثيقًا بتدخل أصحابها في الشأن السياسي خصوصًا أو الشأن العام تحديدًا ليحملوا بعدها ألقابًا شتى كالملحد والكافر والزنديق والمُرجف وغيرها من نعوت ماثلة أو مبتدعة، وقد تتخذ حملات الإقصاء والتجريم والتحريم أشكالًا مختلفة، كما أنها تتلبس أهدافًا شتى أهمُها إسقاط المصداقية، وهدم أثر الشخصية وحضورها العام، لكن بينها كذلك يقع الإلهاء كهدف آخر يتمثل في توجيه، وشغل الناس بحملات إقصائية مفتعلة القصد منها: تشتيت تفكير العامة عن أمر أهم لتتبدى شخوص معينة بين مهاجم ومدافع؛ فتنجح بعدها حملة التشتيت والإلهاء عبر التضحية بقرابين واقعية أو افتراضية مختلقة ينتهي دورها بانتهاء الحملة دون عناية بالتجني عليها نفسيا ومجتمعيًا.
وما زلنا نتابع يوميًا -رغم كل وسائل المعرفة المتاحة والتواصل الدائمة- مواكب الإقصاء والتهميش ماثلة دون وعي أو تدبر في التلقي والتحليل، فضلًا عن تبيّن المصطلح قبل إطلاقه أو إلصاقه بكل مختلف أو مختلفة فكريًا. ومن بين مربعات الإقصاء التي نشطت مؤخرًا عبر منصات التواصل الاجتماعي «الإرهاب» ثم «التطرف» ثم «الإلحاد» وأخيرًا «النسوية» حتى صار المراهقون يتداولون مصطلحات كالإلحاد والنسوية راجمين بها كل من يختلف معهم في شيء، أو ربما تصل أن تجد أحدهم يرجم أختا صغرى -طلبت من أخ أكبر ثقة أو حوارا– بالنسوية؛ إذ ترسّب لديه من ثقافة الواتس اب والتويتر أن النسوية شبح يحرض النساء ضد الأهل والمجتمع ويقودها للإلحاد، فيبحث ويتقصى جاهدًا عن المجموعات التي غذّت عقلها بالتمرد، وفكرها بالشذوذ ولا يكلف نفسه عناء حوار يبنيه وأخته، أو بحث يجريه عما يفكر به أو يخشاه.
لا ينبغي التقليل من خطورة تيارات فكرية قد تقود لتقويض تماسك الأسرة والمجتمع بل والوطن بشكل أعم إذا ما تجاهلناها أو أعرضنا عنها، كما لا يمكن استخدام المصطلحات جزافًا لبناء درع نتوهم به ومعه حماية ثوابتنا العقائدية والقيمية والاجتماعية، فليست هشة حد السعي لحمايتها بالإقصاء والتهميش والانفعال والتجريح.
وإذا ما فكرنا في الوسيلة المثلى لبناء وعي مجتمعي بنّاء تجاه قضايا قد تمس الثوابت فلا أنجع من المعرفة بكل تفاصيلها، ثم الحوار بكل مستوياته؛ الحوار الأسري، الحوار المجتمعي، الحوار المؤسساتي، والحوار التفاعلي العام عبر منصات التواصل الاجتماعي المفتوحة.
ينبغي مجابهة الفكرة بالفكرة، والحجة بدحضها بحجة تماثلها، والإنكار ببرهان يقيني يقوضه، والسلوك الشاذ أو العدائي بتشريع القوانين وسن الجزاءات التي تحد منه دون فضائحية مفتعلة أو تهميش مقصود؛ إذ قد ينتمي هذا المخالف إلى فئة عمرية أو نفسية أو اجتماعية تتسم بالتحوّل والتبدل، فالأولى حينها الاحتواء دون تجريم، أو الجزاء دون تقزيم أو تحطيم، علّه يعود بعدها لينتظم في العقد المجتمعي الذي أحسن احتواءه بعد شتات، وأجاد توجيهه بعد خطأ وانحراف.
أما ما يحدث من استعداء جماعي عبر توظيف مصطلحات لا يعرف معظم متداوليها مدلولاتها ولا استخدامها في حملات هجومية لن يصدر عنها رعاء ولن يروى معها ظامئ، بل قد تزيد الطين بلة إذا اتسّعَ الخرق على الراتق حين تدفعُ الشبابَ لتبني الرأي المختلف مهما كان شاذًا بغية التميز وإن كان سلبيًا، وأكثر من ذلك حين ينتج عن هذه الحملات تشهير غير مبرر، وتحميل البريء جريرة المذنب فيقع البعض في دائرة التجريم، وتقييد الحرية بحجة الحماية من شذوذ الفكر وانحراف السلوك وهو من كل ذلك براء، وإن لم يكن براء فليس الإقصاء والرجم بالإلحاد هو سبيل استيعابه أو توجيهه.
تدافع الأفكار وتحاور التيارات المختلفة ظاهرة حضارية تعكس قدرة المجتمعات على استيعاب المختلف والبناء على مختلفاتها سعيًا لصنع صورة إجمالية للمتكامل عبر اختلافه، صورة ترقى لتحمل اسم مجتمع، بل واسم دولة. أما التراشق بنعوت التجريح الشخصي والعائلي، وتناول الذات بعيدًا عن مناقشة الفكر فلا يعكس إلا هزال الوعي، وضعف القدرة على استيعاب المتغيرات، وحوار المختلف سعيًا للحقيقة، ووصولًا لثبات القيم بتجاوز التحديات فكريًا و أخلاقيًا.
حِصّة البادي أكاديمية وكاتبة عمانية