أفكار وآراء

الانطلاق نحو مزيد من الطموحات

في الوقت الذي تواصل فيه مسيرة النهضة العمانية المتجددة توجهاتها بخطى وئيدة نحو غاياتها المنشودة، فإنه ليس من المبالغة في شيء القول إن المراسيم السلطانية السامية التي أصدرها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- يوم الخميس الماضي تشكل في الواقع دفعة أخرى جديدة من أجل الانطلاق نحو مزيد من الطموحات والأهداف الوطنية، وعلى نحو يتجاوب ليس فقط مع تطلعات وطموحات المواطنين العمانيين، ولكن أيضًا مع مقتضيات التطور الاقتصادي والاجتماعي، ومتطلبات الإسراع بالعمل بما يتواءم مع الظروف والتطورات المحلية والإقليمية والدولية التي باتت تفرض نفسها بقوة على دول وشعوب المنطقة بأشكال متفاوتة.

وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: أنه إذا كانت فترة الثلاثين شهرًا التي مضت منذ تولى جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم مقاليد الحكم قد شهدت العديد من الخطوات، سواء على طريق الإصلاح الاقتصادي، المرتكز على ترشيد الإنفاق الحكومي من ناحية، والتخلص التدريجي من أعباء الدين الخارجي والعجز في عائدات الميزانية العامة للدولة، وفق برنامج التعافي الاقتصادي حتى عام 2024، أو على صعيد إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة والعمل من أجل بناء هيكل إداري أكثر رشاقة، وأكثر مرونة وأكثر قدرة على الاستجابة السريعة والصحيحة أيضًا لمقتضيات التطور الاقتصادي والاجتماعي على الصعيد الوطني من ناحية ثانية، فإن المراسيم السلطانية السامية التي قضت بإعادة تشكيل مجلس الوزراء، وبإصدار نظام المحافظات واعتماد هيكلها التنظيمي، وإنشاء المجلس الأعلى للقضاء، وتحديد اختصاصات وزارة الداخلية واعتماد هيكلها التنظيمي، وتعديل بعض أحكام قانون المجالس البلدية، وإجراء عدد من التغييرات والتنقلات على مستوى عدد من كبار المسؤولين في مواقع مختلفة وكذلك بعض المحافظين، لا تشكل فقط استمرارًا لما سبق اتخاذه من خطوات، لترجمة الرؤية السامية لجلالة السلطان المعظم بالنسبة للمرحلة الراهنة والمستقبلية من مسيرة النهضة المتجددة، ولكنها تشكل كذلك نقلة نوعية على المستويين الإداري والتنظيمي، وهنا يكتسب التوقيت دلالة ومعنى عميقين. ففي الوقت الذي انحسرت فيه جائحة كورونا، وتم التخفيف من الإجراءات الاحترازية التي صاحبتها، وبعد أن سجلت سلطنة عمان نموذجًا طيبًا وفعالًا من الاستجابة والتعامل الكفء مع مختلف مراحل الجائحة، وبما أثبت القدرة العمانية في هذا المجال، فإنه بات من الضروري ترجمة كل الدروس المستفادة والعمل للاستعداد لمتطلبات الحاضر والمستقبل فيما يتصل بتطوير القطاع الصحي وزيادة فاعلية استجابته والحفاظ على ما تحقق من إيجابيات في الفترة الماضية، والأمر ذاته ينطبق على قطاع الطاقة والمعادن، الذي حققت فيه سلطنة عمان العديد من الاكتشافات، واجتذبت الكثير من الاستثمارات فيه، كما بدأت بالفعل خطوات عملية مدروسة ووفق برامج محددة على صعيد التحول إلى مركز لصناعة الهيدروجين الأخضر والأخذ المدروس بمتطلبات التوسع التدريجي في الاعتماد على الطاقة النظيفة والحد من الاعتماد على الطاقة الأحفورية، والتوسع في الاستغلال الأفضل لموارد الثروة المعدنية في كل محافظات سلطنة عمان، ومن ثم فإن فلسفة التغييرات التي حدثت وستحدث بالطبع في المستقبل هو تعزيز قدرات الدولة وزيادة كفاءة استخدامها لمواردها، والبناء على ما تم من منجزات، والاستفادة من كوادر وطنية أثبتت كفاءتها وإتاحة الفرصة أمامها لتشارك بشكل أكبر وأوسع في تحقيق الأهداف الوطنية في القطاعات المختلفة.

ومن جانب آخر، فإن مما له دلالة كبيرة أن إجراءات الترشيد في الإنفاق الحكومي، وبالرغم مما صاحبها من بعض الآثار الجانبية، على صعيد أو آخر، وبالنسبة لبعض شرائح المجتمع، فإن حكومة جلالة السلطان المعظم لم تدخر وسعا في التوسع -على قدر الإمكان- في برامج الرعاية الاجتماعية والعمل بسبل مختلفة للتخفيف عن كاهل الشرائح الأقل دخلًا في المجتمع وبتوجيهات سامية محددة في بعض الأحيان، كما في الإعفاء من بعض الديون.

وبينما أثمر ذلك، في أحد جوانبه على الأقل، في تحقيق فائض في الميزانية العامة للدولة، خاصة بعد ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية بشكل ملموس، بعد الحرب في أوكرانيا، منذ فبراير الماضي، فإن بعثة صندوق النقد الدولي، التي زارت سلطنة عمان مؤخرًا وأنهت زيارتها قبل أيام، قد أعربت عن تقديرها للجهود التي بذلتها حكومة سلطنة عمان للتخفيف من آثار جائحة كورونا ومضيها نحو التعافي الاقتصادي من آثار الجائحة، كما ثمنت إجراءات الضبط التي اتخذتها الحكومة على صعيد المالية العامة والجهود التي يبذلها البنك المركزي العماني لتعزيز الأطر التنظيمية والرقابية.

وتوقع صندوق النقد الدولي - في إطار مفاوضاته التي أجرتها بعثته خلال زيارتها إلى مسقط، أن يتحقق فائض مالي في عام 2022 وأن تستمر الفوائض المالية على المدى المتوسط وأن ينخفض حجم الدين من نحو 63 % من الناتج المحلي الإجمالي عام 2021 إلى نحو 45 % هذا العام، وهذه شهادة دولية لها قيمتها ووزنها فيما يتصل بكفاءة الأداء المالي لسلطنة عمان في إطار برنامج التعافي الاقتصادي والعمل الجاد لتنويع مصادر الدخل، وزيادة مساهمة القطاعات غير النفطية في الناتج القومي.

ويعني ذلك بوضوح أن الظروف المحلية باتت أكثر ملاءمة للانطلاق بخطى أكبر نحو الأهداف والأولويات التي حددتها القيادة الحكيمة منذ بداية توليها مقاليد الحكم واهتمامها القوي والمتواصل بتحسين مستوى معيشة المواطن العماني والتهيئة لمزيد من التقدم والتنمية المستدامة.

ثانيًا: إنه بالتوازي مع الأخذ بمتطلبات الانطلاق نحو غد أفضل، حسبما تمت الإشارة إليه، فإن النجاح في ذلك يتطلب ضرورة تهيئة الأطر التنظيمية والإدارية والبلدية، وبالطبع القضائية من أجل توفير أفضل السبل وأفضل مناخ ممكن لتحقيق الاستفادة المثلى بقدر الإمكان من موارد عمان المتاحة بشريًا وماديًا، وفي كل المجالات وبأيدي كوادرها المخلصة والمؤهلة على أعلى المستويات.

وفي هذا الإطار تحديدًا تمت إعادة هيكلة وصياغة قطاعات بالغة الأهمية على الصعيد الوطني، وفي مقدمتها إنشاء المجلس الأعلى للقضاء برئاسة جلالة السلطان المعظم، بموجب المرسوم السلطاني رقم (35 /2022) ويتمتع المجلس بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وتؤول إليه جميع المخصصات والأصول والالتزامات والموجودات الخاصة بكل من مجلس الشؤون الإدارية للقضاء ومحكمة القضاء الإداري والادعاء العام.

وما يترتب على ذلك من نقل أعضاء محكمة القضاء الإداري وكذلك موظفي كل من الأمانة العامة لمجلس الشؤون الإدارية للقضاء ومحكمة القضاء الإداري والادعاء العام إلى المجلس الأعلى للقضاء وفق الضوابط التي تضمنها المرسوم السلطاني (35 / 2022) في المادتين الرابعة والخامسة منه. يضاف إلى ذلك إنه تم إصدار نظام المحافظات واعتماد هياكلها التنظيمية، وما ترتب على ذلك من تعديل وإلغاء في التقسيمات الإدارية في تلك الهياكل، وبينما تم رفع المستوى الإداري لكل من نيابة الجبل الأخضر ونيابة سناو إلى ولاية، فإنه تم إدخال تعديل على العلاقة ومن ثم نقل الملفات والوثائق والمحفوظات والموجودات المتعلقة بوزارة الداخلية وكل من محافظات مسقط وظفار ومسندم وكذلك بعض العاملين وفق ما تضمنه المرسوم السلطاني رقم (36 / 2022) الخاص بإصدار نظام المحافظات واعتماد هياكلها التنظيمية.

كما أنه تم تحديد اختصاصات وزارة الداخلية واعتماد هيكلها التنظيمي، بموجب المرسوم السلطاني رقم (37 / 2022) كما تم تعديل بعض أحكام قانون المجالس البلدية بموجب المرسوم السلطاني رقم (38 / 2022) وتجدر الإشارة إلى أن هذه التعديلات تهيئ الفرصة والمناخ المناسب لتنشيط عمل المحافظات والولايات ومنحها المزيد من القدرة على العمل بدرجة كبيرة من المرونة والفعل والحركة وبما يتلاءم مع ما تقتضيه ظروف كل محافظة والسبل الأمثل للاستفادة من مواردها الذاتية وبما يتواءم بالضرورة مع خطط وبرامج التنمية الوطنية، سواء فيما يتعلق بخطة التنمية الخمسية العاشرة (2021-2025) أو فيما يتصل باستراتيجية عمان 2040. والمؤكد أنه ليس مصادفةً أبدًا أن يأتي ذلك قبيل إجراء انتخابات المجالس البلدية، التي توفر فرصة كبيرة لإبراز الكوادر الوطنية الأقدر على العمل العام وحمل مسؤولية الإسهام في تنمية الولايات والمحافظات على المستويات المختلفة.

ثالثا: إنه إذا كانت الاعتبارات المحلية قد حازت -كالعادة- على النصيب الأكبر فيما يتصل بالإجراءات والتعديلات التي أصدرها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- فإنه لا يمكن إغفال أن تلك الخطوات قد تزامنت أيضًا مع العديد من التطورات الإقليمية والدولية التي تفرض نفسها على دول وشعوب المنطقة، والتي تتعامل معها سلطنة عمان بوعي وبعد نظر والتزام بكل ما يحافظ على المصالح الوطنية، ويسهم في الوقت ذاته في تعزيز فرص السلام والأمن والاستقرار وتعميق التعاون والمصالح المتبادلة بين سلطنة عمان والأشقاء والأصدقاء في المنطقة وعلى امتداد العالم.

وفي هذا المجال فإن سلطنة عمان تواصل عملها لتحقيق السلام في اليمن وتعزيز إمكاناته على الأرض، وهو ما أشاد به الأمين العام للأمم المتحدة، ولتطوير علاقات سلطنة عمان كذلك مع إشقائها في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وعلى المستوى العربي الأوسع أيضا في إطار جامعة الدول العربية، إلى جانب تطوير علاقاتها الإقليمية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومع الدول الإفريقية - زيارة الرئيس الإيراني لسلطنة عمان الشهر الماضي وزيارة رئيسة جمهورية تنزانيا المتحدة سامية صولوحو حسن لسلطنة عمان مؤخرًا، فضلًا عن توقيع الأمر التنفيذي لاتفاقية الدفاع المشترك بين سلطنة عمان والمملكة المتحدة، واستضافتها لاجتماعات الاتحاد الدولي للصحفيين في مسقط أواخر مايو الماضي، وهذه الأمثلة وغيرها تعبر عن استمرار سلطنة في مساعيها الخيرة وفي دورها الإيجابي لتحقيق مصالحها وتعزيز فرص السلام والأمن والاستقرار من حولها.

د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري